لم تترك رحلة موظفي "يوتيوب" في يونيو 2017 ذكريات لدى تالا بردان كانطباع عديد من زملائها الذين أمضوا عطلة نهاية أسبوع طويلة لطيفة أقاموا خلالها في فندق ويستن في لوس أنجلس، واستمتعوا بأداء خاص من سنوب دوغ، كما زاروا متنزه هاري بوتر الترفيهي القريب وحصلوا على مشروبات مجانية. حين بدأت النشاطات صباح الجمعة كانت بردان واحدة من نحو عشرة موظفين أقل حظاً استدعتهم الرئيسة التنفيذية سوزان وجيسكي إلى قبو الفندق لاجتماع حول مشكلة منصة الفيديو مع الإرهابيين.
لم تكن المناقشات حول الإرهابيين جديدة على بردان، التي كانت تشغل وظيفة منخفضة المستوى نسبياً خارج الولايات المتحدة، ومهمتها متابعة مقاطع فيديو عنيفة باللغة العربية في قسم يفحص لقطات تصنفها الشركة محتواه كتطرف عنيف. تستخدم اسم تالا بردان المستعار لحماية هويتها نظراً لحساسية عملها. أوضح أحد كبار المهندسين خلال الاجتماع أن "يوتيوب" قررت أن تعمل على إزالة كل ما ينتمي للفكر العقائدي الذي ساعد بظهور جماعات مثل التنظيم المسلح المسمى بالدولة الإسلامية من منصتها وإعادة كتابة خوارزمية المنصة التي ترشح مقاطع المشاهدة كي تُقصي "المحتوى الديني المؤجج ومحتوى السمو العرقي" وأن يعّد موظفو السياسة قائمة من 14 شخصاً مثيرين للجدل جميعهم رجال مسلمون، لحظرهم مهما نشروا.
"يوتيوب" يحجب "آر تي" و"سبوتنيك" حول العالم.. وروسيا تحظر "إنستغرام"
كُلِّف فريق بردان بتطبيق القواعد الجديدة فوراً، فباشر العمل خلال عطلة نهاية الأسبوع، فيما كان الجميع يحتفلون. أُوقظ أحد أفراد الفريق في الثانية ليلاً ليتعامل مع مقطع فيديو شائك على نحو خاص، وأجرى اتصالاته من حمام بالفندق ليتجنب إيقاظ زميل كان يشاركه غرفته.
لم يكن مصدر الاستعجال لغزاً، فقد قاطع معلنون خدمتها لأشهر بعدما اكتشفوا أن إعلاناتهم التجارية ظهرت مع مقاطع فيديو لحلفاء الدولة الإسلامية والنازيين الجدد ومحتوى مسيئ آخر. كما قَتل ثلاثة إسلاميين متطرفين ثمانية أشخاص في هجوم دموي على جسر لندن في الأسبوع الذي سبق ذلك. كشفت التقارير بعدها أن أحد القتلة تفاعل مع مقاطع لرجل الدين المثير للجدل أحمد موسى جبريل حين شاهدها على "يوتيوب".
متاعب مالية
كانت التبعات المالية البليغة على"غوغل" التي تملك "يوتيوب" وتتبع شركة "ألفابت" خطيرة لدرجة أن "يوتيوب" اضطرت للتفكير بإنهاء نموذج العمل بحد ذاته، أي مشاركة مبيعات الإعلانات مع عدد كبير من منتجي الفيديو، وهو النشاط الذي جعلها عملاقة إنترنت في المقام الأول. حذّر الموظفون منشئي المحتوى عبر الإنترنت إبان احتجاج المعلنين، أن"يوتيوب" قد تضطر لتشغيل إعلانات تجارية على القنوات التابعة لمنافذ إعلامية معروفة أو شركات تسجيل أغانٍ فقط، ما يعني من حيث الأثر تغييراً جذرياً في ماهية "يوتيوب".
قالت وجيسكي في اجتماع طارئ في ذلك العام: "نحن دائماً في أزمة".
كانت بردان تعمل لدى "يوتيوب" منذ سنوات، حين نظمت شركتها تلك الرحلة في 2017، وتعلّمت خلال عملها ما تعتبره الشركة صحيح الخطاب، مثل: اترك مقاطع الفيديو وشأنها، طالما أنها لا تعرض أو تحرض على العنف المفرط. وقيل لها: "نحن منصة، ولسنا مسؤولين عما يرفع عليها".
ظهرت محدودية هذه الفلسفة حين أصبح "يوتيوب" أحد أكثر المواقع ارتياداً على الإنترنت، وكانت الشركة تتجشم عناءً باستمرار لتكييف تلك الفلسفة، وفقاً لمقابلات مع عشرات من موظفي "يوتيوب" الحاليين والسابقين.
كان يُنظر لاجتماع 2017 على أنه خطوة أولى نحو شطب الإسلام المتطرف فعلياً من شبكة الإنترنت التجارية، ولتعامل كبار مسؤولي "يوتيوب" بجدية مع جميع أشكال التطرف على محمل الجد، وهكذا عاد المعلنون فساعدوا بإبعاد أعمال الشركة عن حافة الهاوية.
هجمات العنصريين
لكن هذا لم يكن انتصاراً في نظر العاملين في المراتب الدنيا لدى "يوتيوب"، فقد نفذ قوميون بيض أعمال شغب مميتة في شارلوتسفيل بفيرجينيا بعد فترة وجيزة من رحلة الموظفين الترفيهية، وكانت تلك لحظة فاصلة في عنف اليمين المتطرف المتزايد في الولايات المتحدة ودولياً. كما نفذت مجموعة من الشباب البيض هجمات عنصرية مرفقة بروايات عن كيفية تحولهم إلى التطرف عبر الإنترنت.
قدمت بردان وعدد من زملائها عرضاً تقديمياً بعد مرور ثلاث سنوات على تلك العطلة الترفيهية، يوضح انتشار المتعصبين البيض على موقع "يوتيوب"، وأشاروا لهجمات مميتة وقعت في نيوزيلندا وويسكونسن وكارولينا الجنوبية وتكساس. أمضى موقع "يوتيوب" سنوات في تطوير صيغة للتعامل مع المحتوى المتطرف العنيف، ونجح. فلماذا يتردد باستخدامها لمواجهة هذا التهديد أيضاً؟.
شتّان بين النوعين
لطالما كان معظم المحتوى على "يوتيوب" نمطياً غير مسيئ ومفيد بل وممتع، فهنالك مقاطع إرشادية ومشاهد هزلية ومقاطع فيديو نادرة لم تكن متاحة على التلفاز. لكن محاولات الشركة لقولبة هذه الفوضى في سياق اقتصاد إبداعي وظيفي تعقدت بسبب ميل بعض الأشخاص لتحميل مواد مسيئة أو غير قانونية. ربما يصعب رسم حدود دقيقة، ففي سنواتها الأولى وضعت الشركة كتيباً من 70 صفحة لمشرفيها يحتوي على نصائح مفصلة للتعامل مع لقطات لبالغين يرتدون حفاضات أو صوراً لأشياء من ذاك القبيل، وقد أشارت إحدى صفحاته على المشرفين بالاعتماد على محاكمتهم الشخصية، كما دعا قسم من الدليل لإزالة المحتوى الهادف إلى "نشر الكراهية الضارة بمجموعة محمية".
"غوغل" تشارك بياناتنا بقدر مذهل
معلومٌ أنه يصعب وضع معايير تحدد التعصب الأعمى، فقد كانت هناك مقاطع فيديو تُمجّد حكمة علم دراسة النفسية عبر تضاريس الرأس، وأخرى تتبنى نظريات المؤامرة العنصرية بشكل باطن جداً، لدرجة أنها فاتت عديداً من المشرفين. خلال أحد الاجتماعات كانت المحامية جينيفر كاريكو التي تعمل على سياسات "يوتيوب" تستعرض مجموعة مقاطع سريالية قبل أن تسأل بصوت عالٍ: "أي نوع من صناديق الشر فتحنا؟"
يدعو المسؤولون الحكوميون أحياناً لحذف مقاطع الفيديو التي يرفعها أشخاص أو جماعات يصفونهم بالمتطرفين. وجد موقع "يوتيوب" أن معظم هذه الطلبات تكون غير مستندة لقرائن أو ساذجة، ويعتقد محامو الشركة أنهم لا يستطيعون اتخاذ قرارات شاملة لحظر أفراد مجموعة لمجرد وصف بأنهم "إرهابيون".
يبدو أن الربيع العربي الذي شهد العالم فيه ثورات تكشفت فصولها عبر منصة "يوتيوب" والشبكات الاجتماعية يؤكد صحة هذا النهج. قالت فيكتوريا غراند رئيسة قسم السياسات في "يوتيوب" آنذاك في خطاب في 2014: "يعني الدفاع عن الوصول إلى المعلومات، الصدام وجهاً لوجه مع حكومات وغيرها ممن يسعون لفرض الرقابة على الأفكار التي يعتبرونها خطيرة".
استغلال نوايا
اختبرت الدولة الإسلامية هذا العزم، فقد بدأ أعضاء هذه الجماعة المتشددة مع بروزها في العراق وسوريا بتحميل دعايتها السينمائية البارعة على منصة "يوتيوب". أظهر مقطع فيديو مروع في صيف 2014 متطرفين يحتجزون الصحفي جيمس فولي أسيراً قبل لحظات من قطعهم رأسه، وانتهت اللقطات بالتهديد بمزيد من القتل.
شكّل مثل هذا المحتوى كابوساً على "يوتيوب"، ما دفع السياسيين وخاصة في أوروبا للضغط على الشركة بشكل غير مسبوق. حين استدعى المشرعون في بروكسل شركة "غوغل" إلى جلسة استماع حول التطرف، كان عدد فريق عمل "يوتيوب" قليلاً جداً لدرجة أنه لم يكن لديه مسؤول سياسات مخصص لأوروبا.
هل ستواصل استخدام "غوغل" في المستقبل؟
حذفت يوتيوب مقاطع تنظيم الدولة الإسلامية بأسرع ما يمكن. كما اعتقدت وجيسكي أنه يمكن مواجهة المحتوى الإرهابي بالخطاب المناهضة للإرهاب. بدأ موظفو "يوتيوب" العمل وفق المبدأ القانوني القديم: " أفضل مطهّر هو نور الشمس".
كان ضغط المعلنين وليس السياسيين هو ما دفع "يوتيوب" أخيراً لإصلاح نهجه. جاء في صحيفة "تايمز" اللندنية في 9 فبراير 2017 أن العلامات التجارية المنزلية التي تستخدم نظام الإعلانات الآلي في "يوتيوب" رعت "عن غير قصد" مقاطع فيديو من "المتطرفين الإسلاميين والمتعصبين البيض ومنتجي الأفلام الإباحية". نفّذ المعلنون الذين كانوا يتطلعون للبروز عبر "غوغل" مقاطعة طويلة. كبح "يوتيوب" لأشهر الإعلانات على أي قناة لم تكن مرتبطة باستوديو أو شبكة أو شركة تسجيل سبق التحقق منها، أي ما يشمل كل ما لم يعرض على التلفاز من قبل. أصبح الموقف رهيباً لدرجة أن "يوتيوب" لم تعد متأكدة من إمكانية استئناف مشاركة مدفوعات الإعلانات مع منشئي المحتوى المستقلين. قال جيمي بيرن، أحد مديري "يوتيوب" لمجموعة من منشئي المحتوى البارزين على "يوتيوب": "ما أن نتجاوز هذا سنعيد العمل كالسابق. لكن إن لم نتمكن من ذلك فقد انتهى الأمر".
تنفيذ أخرق
كانت هناك بعض الشكاوى حول هدف "يوتيوب" بإزالة الإسلام المتطرف من منصتها؛ ويبدو أن المشاكل كانت غالباً حول كيفية إنجاز ذلك. قال أحد الموظفين السابقين متذكراً: "لم تكن الشركة مستعدة"، ووَصَف وحدة الاشراف في "يوتيوب" بأنها كانت تشبه "حريقاً في مكب قمامة" سادها سوء الإدارة والفوضى.
بعد فترة وجيزة من تلك الرحلة الترفيهية في فندق ويستن، تفحص ذلك الموظف البرمجة الأولية التي تنتقي ما يمرر من المحتوى، فاكتشف أنها تضمنت اسم "الله" ككلمة مفتاحية، ما يعني أنها ربما أقصت ملايين مقاطع الفيديو البريئة.
حجز مندوبو مبيعات "يوتيوب" في 2018 رعاة لقنوات شرق أوسطية شهيرة خلال شهر رمضان، وهو يشكل موسماً تسويقياً إقليمياً وصفه أحد الموظفين بأنه يشبه من حيث ذلك "30 تكراراً للعبة النهائية للدوري الوطني لكرة القدم". لكن عندما هلّ رمضان، لم يظهر كثير من الإعلانات. بدا أن المشرفين والآلات في "يوتيوب" المهيئين لحجب أي روابط تجارية تحتوي على التطرف قد أزالوا الإعلانات بشكل أخرق من أي مقطع فيديو تقريباً يحتوي على صور إسلامية أو أتى باللغة العربية.
نجح "يوتيوب" في النهاية بتجنب هذه الأخطاء، وأصبحت الفضائح أقل تواتراً، كما تحسنت مبيعات الإعلانات. أنشأت وجيسكي مكتب المعلومات، وهو قسم مكرّس لاكتشاف التوجهات المثيرة للقلق وإبعادها عن "يوتيوب". كما اختفت مقاطع فيديو الدولة الإسلامية فعلياً.
عنف أبيض
استيقظت بردان المتخصصة في التطرف العنيف لدى "يوتيوب" في وقت مبكر من صباح 15 مارس 2019 على خبر أن رجلاً أسترالياً أطلق الرصاص على مسجد ومركز إسلامي في مدينة كرايستشيرش في نيوزيلندا فقتل 51 إنساناً، وكان قد بثّ جريمته على الإنترنت مستخدماً كاميرا مثبتة على جسمه. بكت بردان، ثم جففت دموعها وفتحت كمبيوترها وبدأت بمشاهدة فيديو الإرهابي.
كشفت كتابات مطلق النار ومقابلاته وآثاره الرقمية عن إيمانه القوي بنظرية "الاستبدال العظيم"، التي تفترض أن غير البيض يشكلون تهديد إبادة للحضارة الغربية. خلصت حكومة نيوزيلندا في تقرير إلى أن "هذا الشخص ادعى أنه لم يكن معلقاً دائماً على مواقع اليمين المتطرف، وأن (يوتيوب) كان مصدراً أكثر أهمية للمعلومات والإلهام بالنسبة له". تعلم مطلق النار تجميع أسلحته النارية من دروس على "يوتيوب"، الذي استخدمه أيضاً لينشر جريمته.
سارع موقع "يوتيوب" مباشرة بعد واقعة إطلاق النار لإزالة الفيديو. لكن المنصة امتلأت بالثناء على جرائم القتل من جانب الكارهين والمتصيدين. كان هناك من يعيدون نشر مقاطع الفيديو مرة في كل ثانية في إحدى المراحل.
ناشدت جيني أوكونور، نائبة رئيس "يوتيوب"، التي تقود مكتب المعلومات قائلة: "ليس لدينا عدد كافٍ من المراجعين". قال مسؤول تنفيذي في وقت لاحق إن السرعة المقلقة لإعادة التحميل دفعت البعض داخل الشركة للشك بتورط ممثل حكومي. (رفض متحدث باسم "يوتيوب" التعليق على هذا). قرر "يوتيوب" إيقاف جميع عمليات التحميل والبحث عن مقطع الفيديو هذا، وكانت تلك سابقة لم تحدث قبلاً في تاريخ الموقع. أعاد "يوتيوب" بعد ثلاثة أشهر صياغة القواعد حول المقولات التي تحض على الكراهية لحظر مقاطع الفيديو "التي تزعم بتفوق مجموعة ما لتبرير التمييز أو الفصل أو الإقصاء". كما حظر إنكار أو تمجيد "أحداث العنف الموثقة"، مثل الهولوكوست أو إطلاق النار في المدارس إضافة إلى المقاطع التي تظهر القتل التي صورها الجاني.
عنصرية ضد السود
تسبب هذا بتقليل عدد الموجات حتى الصيف التالي، حين قُتل جورج فلويد. أزالت "يوتيوب" في أواخر يونيو 2020 عندما اجتاحت احتجاجات العدالة العرقية الولايات المتحدة، عديداً من الحسابات التحريضية، ومنها حساب ديفيد ديوك الزعيم السابق لـمجموعة "كو كلوكس كلان" (Ku Klux Klan) وستيفان مولينيو، وهو مدوّن فيديو غزير الإنتاج حصل ذات مرة على تبرع من مطلق النار في كرايستشيرش. (قال مولينيو لاحقًا إنه "أدان على الفور إرهابي نيوزيلندا" وحاجج بأنه لا يشاركه معتقداته).
بدا الأمر للناظر من الخارج كما لو أن "يوتيوب" استيقظت في اللحظة التي أعقبت مقتل فلويد. لكن المسؤولين التنفيذيين يصرون على أنه مجرد تحديث حول خطاب الكراهية الذي دخل حيز التنفيذ في العام السابق، خاصة أن القنوات المخالفة لا تُزال إلا بعد عدة انتهاكات. قالت أوكونور نائبة الرئيس: "يستغرق هذا الأمر وقتاً بشكل عام. ليس كل ما يتطلبه الأمر أن نرفع رؤوسنا لنقول: ياللهول، هناك كلام يحض على الكراهية على (يوتيوب)، بل علينا أن نعمل لنعلم بالأمر".
في ذكرى "جورج فلويد".. ما وضع المساواة العرقية بالشركات الأميركية؟
فيما عملت "يوتيوب" على صقل مهاراتها للقضاء على محتوى إرهابيي الدولة الإسلامية، أصبح بعض الموظفين قلقين بشأن مدى عمى المنصة عن أشكال أخرى من التطرف السياسي. انضم ماثيو مينجيرينك إلى موقع "يوتيوب" كنائب لرئيس القسم الهندسي في 2015، في حالة نادرة لمسلم يشغل مكانة مرموقة في القيادة التقنية. عندما بحث عن كلمة "جهاد" على الموقع، وجد عدداً قليلاً من المتطرفين المسلمين، ولكن مقاطع لا حصر لها من أتباعٍ ساخطين على "حركة حفلة الشاي" ومدوني فيديو يحدقون بالكاميرا بأعين ميتة. اعتنقت شبكة ضخمة من القنوات ذات التفكير المشابه، التي يغذي عديد منها مبيعات الإعلانات على "يوتيوب"، هوس اليمين حول تزايد عدد المهاجرين المسلمين في أوروبا. كما كانت هناك مناقشات بالفيديو حول نظرية الاستبدال العظيم.
اختلال البرمجة
شعر مينجيرينك بالقلق لأن محرك مقترحات المشاهدة لدى"يوتيوب" قد غذى هذا الذم. يتذكر قائلاً: "إن بدا أي شيء كنزعة فسوف يستثمر تلك النزعة إلى أقصى حد." اقترح إعادة تعريف البرمجة لخفض ترتيب مقاطع الفيديو التي تداني معايير قواعد خطاب الكراهية كما دعا لمواجهة مقاطع الفيديو التي تنتقد المسلمين أو الأميركيين السود أو اليهود من خلال اقتراح وجهات نظر بديلة. رُفضت مثل هذه المقترحات حينها باعتبارها غير معقولة ولا تتسق مع عقلية "غوغل".
غادر مينجيرينك الشركة في 2016. بعد مقاطعة إعلاناتها، أخذت "يوتيوب" بنصيحته فأزالت ملايين مقاطع الفيديو المثيرة للجدل من بين مقترحات المشاهدة. رغم ذلك شهد آخرون انتشاراً ينذر بالسوء للمحتوى المتطرف على مدى سنوات عديدة تلت ذلك. أبرز العرض التقديمي الذي ساعدت بردان بجمعه في 2020 المعايير المزدوجة للإشراف لدى "يوتيوب". أظهرت إحدى الشرائح التقديمية لقطات لمقاطع من جماعات إرهابية إسلامية معروفة أو شخصيات تقدم آيات قرآنية أو خطاباً مناهضاً للولايات المتحدة سمح تعديل قانوني في 2017 لموقع "يوتيوب" بتصنيفها على أنها محتوى متطرف فأُزيلت كل تلك المقاطع.
ثم عرضت شريحة عن التطرف الآخر فيها على صور مصغرة لعِظَةٍ مصوّرة لزعيم جماعة "آريان نيشينز" (Aryan Nations)، وهي جماعة نازيين جدد، ولقطات يظهر فيها جيسون كيسلر منظم تجمع شارلوتسفيل "وحدوا اليمين" (Unite the Right) وهو يناقش "إبادة البيض" أمام الكاميرا وهي بقيت متاحة على "يوتيوب".
حاجج الموظفون بأن المشكلة كانت بيروقراطية غالباً، إذ لدى "يوتيوب" فرق مختلفة للتعامل مع التطرف العنيف، ما سمح بإزالة مقاطع تنظيم الدولة الإسلامية وأمثاله وما يتعلق بخطاب الكراهية، فيما استمرت مقاطع البيض المتطرفين. كان لجهود مكافحة التطرف العنيف مجال وموارد أكبر. اعترف أحد زملاء بردان الذين عملوا على خطاب الكراهية ذات مرة أنهم غارقون بالمواد ونادراً ما تكون من مقاطع الفيديو المثيرة للجدل المصنفة على أنها تنتمي للقومية البيضاء.
لا إجابة
تضمنت الوثيقة التي عملت عليها بردان سلسلة توصيات منها التعامل مع المحتوى القادم من القوميين البيض باعتباره تطرفاً عنيفاً. بحلول نهاية العام، كانت بردان قد تركت العمل في موقع "يوتيوب" دون الحصول على رد مباشر من القيادة.
عندما تعامل موقع "يوتيوب" مع هذه المشكلة، بدا أن دفاعه يردد أصداء منصات أخرى على الإنترنت: إن التعامل مع التطرف الإسلامي أسهل لأن الحكومات الوطنية متفقة على التعاريف؛ وهناك سجلات وعقوبات، فقد اعتمدت "يوتيوب" بشكل رئيسي على قوائم المنظمات الإرهابية المحظورة من الحكومتين البريطانية والأمريكية. قالت أوكونور: "الأمر أبسط على أساس نسبي" وأضافت أنه لا يوجد ما يشبه ذلك حيال القومية البيضاء.
خلال حملة دونالد ترمب الانتخابية الرئاسية ورئاسته، حتى الخطاب السياسي السائد بدأ بالضغط على إرشادات محتوى "يوتيوب". كيف ينبغي التعامل مع رئيس أميركي كان قد وصف المكسيكيين بأنهم "مغتصبون"، وقال عن عديد من الدول أنها "بؤر قذارة"؟ كما أن ترمب وحلفاءه أمضوا سنوات يتهمون "غوغل" ووادي السيليكون بالتحيز الليبرالي، ما جعل اتخاذ القرارات التقديرية أصعب على "يوتيوب". كما زاد عدد التحذيرات بشأن الدعاوى القضائية واللوائح الحكومية الجديدة حول الاعتدال في وسائل التواصل الاجتماعي.
هل يعود ترمب إلى البيت الأبيض في 2024؟
خلال البحث عن تعاريف يمكن استخدامها، اقترح بعض الأشخاص في "يوتيوب" بناء سياسته على تصنيفات "سوذيرن بوفيتري لو سنتر" (Southern Poverty Law Center) المنظمة المعروفة التي تتعقب مجموعات الكراهية والأيديولوجيين. لكن هذه المنظمة أصبحت من خصوم ترمب البارزين، ورفض قادة "يوتيوب" هذا الاقتراح بسبب مخاطره السياسية، وفقاً لشخصين مطلعين على القرار. يتذكر أحد المديرين التنفيذيين السابقين أن رمز المنظمة "إس بي إل سي" (SPLC) أصبح كأنه "كلمة قذرة داخل (يوتيوب)". قال متحدث باسم "يوتيوب" إن منظمة "إس بي إل سي" (SPLC): "غير مقبولة على نطاق واسع كصوت رسمي حول مجموعات الكراهية".
انتقاد أداء
قالت سوزان كورك، مديرة مشروع المعلومات في "إس بي إل سي"، الذي يتتبع اليمين المتطرف، في رسالة بريد إلكتروني إن "يوتيوب" أخفق بالقيام بدور استباقي لمنع المتطرفين من إساءة استخدام منصته، وإن التقليل من خبرة منظمة (إس بي إل سي) يظهر مجدداً افتقاره للالتزام بسلامة مستخدميه".
ليست معضلة كيفية تصنيف الكراهية والإرهاب وما يجب فعله حيال ذلك فريدة من نوعها على "يوتيوب" أو حتى على الإنترنت. فمنذ 11 سبتمبر 2001، كرّست حكومات متعددة مزيداً من الموارد لإيديولوجية خطرة واحدة أكثر من سواها. حدد التحليل الرسمي النيوزيلندي لحادث إطلاق النار في كرايستشيرش أن جهاز الأمن في البلاد قد ركز "بشكل شبه حصري" على التطرف الإسلامي. وخلص التقرير إلى أن هذا النهج "لا يستند إلى تقييم مستنير للتهديدات الإرهابية".
تقول "يوتيوب" إنها حسّنت بشكل كبير استجابتها للتطرف بجميع أنواعه، تشير إلى قواعد واضحة تحظر خطاب الكراهية والمحتوى الذي يروّج للعنف أو الكراهية ضد الفئات المحمية وتقول إنها تبطئ انتشار مقاطع الفيديو التي تداني انتهاك أحكامها. كما بدأت بإزالة بعض مقاطع الفيديو التي تروّج لنظرية الاستبدال العظيم. عندما يبحث الأشخاص عن هذا الموضوع على "يوتيوب" اليوم توجههم المنصة لموقع "ويكيبيديا" (Wikipedia) حول الموضوع في أعلى نتائج البحث.
عندما قَتل مسلح عنصري عشرة أشخاص في سوبر ماركت في بوفالو في 14 مايو، وبثّ فعلته على الهواء مباشرة عبر "تويتش" (Twitch) منافس "يوتيوب" وتملكه شركة "أمازون دوت كوم"، أزال "يوتيوب" المقاطع، التي أُعيد تحميلها على منصته، بسرعة كبيرة وكأنها لم تكن.
لكن هذه المأساة اتبعت أيضاً نمطاً مألوفاً، إذ نَشر مُطلق النار بياناً عبر الإنترنت يعكس إلى حدّ كبير إيديولوجية مُطلق النار في كرايستشيرش، التي يقول منتقدو الشركة إنها ما تزال تساعد بنشرها. كما أنه شاهد دروساً حول الأسلحة على موقع "يوتيوب".
جهد متواضع
استمر "غوغل" بتشجيع المحتوى الذي يمكن أن يوجه الأشخاص المعرضين للرسائل المتطرفة نحو توجه مختلف عملت "غوغل" مع "ديفاين أميركان" (Define American)، وهي منظمة غير ربحية للدفاع عن الهجرة نشرت تقريراً قبل شهر من إطلاق النار في بوفالو حمل عنوان "شبكة الاستبدال العظيم"، على تحليل 23 مقطع فيديو منتشر على "يوتيوب" ضمن تصنيف "مناهضة للهجرة". أتى بعضها مستخدمين منفردين على "يوتيوب" بينما أنتج عديداً منها مراكز أبحاث فكرية ذات تمويل جيد مثل "معهد هوفر" (Hoover Institution) ووسائل الإعلام المحافظة الرائجة مثل "فوكس نيوز". قالت شونا سيغيلكو، مديرة قسم القصص الرقمية في منظمة "ديفاين أميركان": "إنه تطرف، لكنه مُقدم بطريقة تجعله يبدو سائداً".
تحاول مجموعتها اتباع نهج نور الشمس، وقاموا برعاية مقطع فيديو هذا الصيف لأحد منشئي المحتوى على "يوتيوب" وهو يشرح مخاطر نظرية الاستبدال العظيم. تجاوز عدد مشاهدات الفيديو 300 ألف مشاهدة في الشهر الأول. حصلت مقاطع الفيديو التي أسماها التقرير "مناهضة الهجرة" على "يوتيوب" على أكثر من 100 مليون مشاهدة بالمجمل والعدد مستمر بالازدياد.