وفقاً لحسابات أعمق بقيت قيمة العملات المشفرة ثابتة بشكل ملحوظ خلال التقلبات

قيمة العملات المشفرة الحقيقية لم تبلغ أبداً 3 تريليونات دولار

صورة تعبيرية - المصدر: بلومبرغ
صورة تعبيرية - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

شطب شتاء العملات المشفرة 2 تريليون دولار من قيمتها، أو هكذا يُقال. ضرب الانهيار، الذي ماتزال أبعاده تتكشف، منظومة "بلوكتشين" برمتها وصندوق تحوط ضخم واثنين من مقرضي العملات الرقمية وعدد لا يحصى من فرادى المستثمرين، فضلاً عن خفض إجمالي القيمة السوقية للعملات المشفرة من 3 تريليون دولار تقريباً في أوج ازدهارها في نوفمبر إلى حوالي تريليون دولار.

جعلتني رؤية هذا الرقم أتساءل عما إذا كانت القيمة السوقية، التي تساوي عدد العملات مضروباً بآخر سعر لكل منها، هي طريقة جيدة لقياس إجمالي حجم القطاع. كما تساءلت عما إذا كانت القيمة السوقية تخبرنا حقاً بأي شيء عن القيمة الاقتصادية للعملات المشفرة؟ خاصة مع اختفاء عدد كبير من العملات وتمخض عديد من المشاريع عن عملات عديمة القيمة.

تتضمن العوامل الأساسية المؤثرة في معضلة القيمة السوقية بيع بعض المستخدمين أصولاً مشفرة لأنفسهم تكراراً فيما يعرف بـ"تداول الغسل"، ما يخلق الوهم بتداول العملات وأنها تساوي أكثر من قيمتها الحقيقية. على سبيل المثال، تصدّرت ميلانيا ترمب عناوين الأخبار هذا العام مع أنباء بأن العرض الفائز بشراء أول رمز غير قابل للاستبدال تصدره زوجة الرئيس الأميركي السابق، وهو صورة لها بحلّة بيضاء خلال زيارة رسمية إلى فرنسا في 2018، يبدو أنه جاء من محفظة ميلانيا ترمب نفسها.

إذاً، كم من هذا التريليونات الثلاثة كان في صورة نقد سائل بالفعل في ذروة العملات المشفرة العام الماضي؟ هل يُحتمل أن طفرة العملات المشفرة الأخيرة لم تحدث مطلقاً؟ لقد بات السؤال حول مدى ضخامة منظومة العملات الرقمية مهماً لعدد من الأسباب؛ ليس أقلها أن الكثير من فرادى المستثمرين انغمسوا بتداول تلك العملات معتقدين أنها يجب أن تكون آمنة نظراً لجني كثيرين غيرهم أموالاً بذات قطاع الاستثمار.

لكنه قطاع يبدو الآن أقل أماناً، حيث تخضع منصة العملات المشفرة الشهيرة "كوين بيس" (Coinbase) للتحقيق من قبل هيئة الأوراق المالية والبورصات الأميركية لطرحها العملات التي تعتبرها الجهة الناظمة سالفة الذكر أوراقاً مالية غير مسجلة. كما أعلنت الشركة عن تسريح بعض موظفيها، مثلما فعلت "بلوك فاي" (BlockFi) و"كريبتو.كوم" (Crypto.com) و"جيمني تراست" (Gemini Trust) وشركات أخرى. كما أن هنالك عديد من الأسئلة حول إفلاس منصة إقراض العملات المشفرة "سليسيوس نتورك" (Celsius Network) وشركة الوساطة "فوييجر ديجيتال" (Voyager Digital) بلا إجابات. كل ذلك يحدث بينما تحوم "بتكوين"، أكبر عملة مشفرة، حول 21500 دولار انخفاضاً من 69 ألف دولار تقريباً في نوفمبر. فأين ذهبت كل تلك الأموال؟

قررت أن أدقق بالأمر، فكانت المحطة الأولى هي معرفة عدد الأشخاص الحقيقيين الذين دخلوا إلى عالم العملات المشفرة. يبيّن مسح لمجلس الاحتياطي الفيدرالي أن 12% من البالغين في الولايات المتحدة حازوا عملات مشفرة في 2021. بينما زاد استطلاع أجراه مركز "بيو" للأبحاث في سبتمبر 2021 الرقم قليلاً، حيث وجد أن نحو 16% من الأميركيين استثمروا في الأصول الرقمية أو تداولوها أو استخدموها بطريقة ما. تداني تلك التقديرات 53 مليون شخص، وهذا ليس بقليل.

لابد أن الأموال تدفقت صوب الأصول الرقمية في خضم صعودها اللافت خلال سنوات الوباء، حيث يوضح موقع "كوين ماركت كاب" (CoinMarketCap) أن حجم التداول اليومي عبر مختلف بورصات العملات الرقمية بلغ ذروته بواقع 455 مليار دولار تقريباً في فبراير 2021، وأنه يتراوح حول 70 مليار دولار اليوم. ليس الأمر كما لو أن ذلك كلام دون أساس، فكانت المحطة التالية في رحلة البحث استطلاع آراء بعض الخبراء كما يلي:

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

المتشكك

كان الكلام المفتقر للقرائن هو محور حديثي مع ديفيد جيرارد، المتشكك المعروف بالعملات المشفرة، الذي كتب مع إيمي كاستور حول ظهور فقاعة التشفير. آراء جيرارد حول حجم رأس المال السوقي البالغ 3 تريليونات دولار حادة، إذ يقول "إنها حرفياً محض أرقام مختلقة منذ البداية. كلها مجرد أكاذيب لترويج العملات المشفرة، فالأرقام الكبيرة تتصدر عناوين الأخبار".

يقول المتشكك المعروف أن المشكلة تكمن في أن النظام يفتقر لمستثمرين جدد، نافياً أن يكون الأمر احتيالاً على طريقة بونزي رغم أنه يعمل بنفس الطريقة، إذ لا يمكن الدفع للمستثمرين الأوائل إلا بالأموال المحصلة من المستثمرين اللاحقين. أضاف جيرارد أنه يسهل التلاعب بسوق العملات المشفرة نظراً لضآلة حجم السوق بالدولار وعدد المشاركين فيها، ويقول إن كثيراً من التلاعب وقع فعلاً.

قال جيرارد إن عديداً من معدّني "بتكوين" كدّسوا عملات حديثة التعدين العام الماضي، مضيفاً أنهم ربما لا يستطيعون تسييل عملاتهم المخزنة لو أرادوا ذلك، لأن السوق عديمة السيولة إلى حد بعيد: "إنها أصغر مما تعتقدين".

لذا، يقترح جيرارد البحث في التدفقات النقدية من وإلى بورصات التشفير للحصول على بيانات أكثر دقة وتفصيلاً حول حجم سوق العملات المشفرة. لكن هذا سيتطلب الوصول إلى بيانات البورصات، ومعظمها لا تشارك بياناتها طواعيةً. قال جيرارد أن مجموع الرافعات المالية في سوق تداول العملات المشفرة من شأنه أن يعطي فكرة عن مقدار تضخم السوق الأساسية. لكن دعونا ننحي هذه الفكرة جانباً لبرهة.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

الاقتصادي

إذا كنت تريد مزيداً من الأرقام المحددة، فربما تتضمن دراسة صادرة عن بنك الاحتياطي الفيدرالي في كليفلاند في 2021 بعض القرائن، حيث درس اقتصاديان كيف أنفق مستثمرون أفراد شيكات التحفيز على العملات المشفرة. قال أنانثا ديفاكروني، أحد مؤلفي الدراسة وهو يدرّس التقنية المالية في جامعة بيرغن بالنرويج: "يصعب تحديد القيمة السوقية بدقة كما يحدث في سوق الأسهم أو السندات. فمعلومات البائع والمشتري غير متاحة إلى حد كبير".

بينما اقترح بيتر زيمرمان، المؤلف المشارك لـديفاكروني، وهو خبير اقتصادي في بنك الاحتياطي الفيدرالي في كليفلاند، دراسة المعايير التي تُظهر متوسط سعر تداول "بتكوين"، وليس آخر سعر بيعت به، غير أنه لن يكون وحده من يوصى بذلك. يلفت زيمرمان إلى أن متوسط السعر يُعدّ مقياساً جيداً للأسواق التي ربما تكون غير سائلة كحال سوق العملات المشفرة في كثير من الأحيان.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

الباحث

استشرت أيضاً نويل إتشسون، مديرة قطاع رؤى السوق لدى مقرضة العملات المشفرة "جينيسيس غلوبال تريدنغ" (Genesis Global Trading) الحاصلة على شهادة في الرياضيات التطبيقية والاقتصاد من جامعة براون. قالت إنها تعتقد أن القيمة السوقية قد تكون في الواقع معياراً جيداً لقياس حجم سوق العملات المشفرة.

بيّنت إتشسون أن نحو 90% من الرقم يعكس أعلى 20 عملة من حيث القيمة السوقية. حتى أن بعض المؤشرات تستبعد العملات الراكدة، أو تلك التي لم تُمسّ منذ أكثر من خمس سنوات ويُفترض أنها مفقودة. قالت إتشسون:"لذا يمكنني القول إن القيمة السوقية تشكل مقياساً مثيراً للاهتمام لمراقبة حجم منظومة العملات المشفرة نظراً لما تمثّله العملات في حد ذاتها. فالمضاربة موجودة، ويمكنك القول بأن المضاربة" هي أحد الاستخدامات المشروعة للعملات المشفرة.

لكن هناك طريقة أخرى لقياس حجم السوق، كما تقول إتشسون، ألا وهي مقارنة مقياس العملات التي يُرجّح أن تتاح للتداول وفق أرقام "كوين متريكس" (Coin Metrics) المتخصصة بتعقب بيانات العملات المشفرة في الوقت الفعلي، مع العملات المتداولة. يُظهر هذا المعيار عدد العملات المتداولة مطروحاً منها تلك التي تحوزها المؤسسات والمجموعات غير الربحية المخصصة لدعم منصات "بلوكتشين" والعملات الراكدة. تبين أرقام "كوين متريكس"، التي لا تُعتبر مثالية كونها لا تتضمن "سولانا" وبعض العملات الأخرى، أن القيمة السوقية بناءً على المعروض للتداول من ثمانية من أفضل 10 عملات تبلغ 787 مليار دولار. كما تبلغ القيمة السوقية المحتسبة بمقياس العملات التي يُرجّح أن تتاح للتداول 80% من القيمة السوقية للمعروض من العملات للتداول حالياً، أو نحو 630 مليار دولار. الآن، بدأنا نحرز تقدماً.

كان الباحث التالي على قائمتي هو جيمس مالكولم، رئيس قطاع أبحاث العملات الأجنبية والعملات المشفرة في بنك "يو بي إس" الاستثماري. نصحني مالكولم بإلقاء نظرة على القيمة المحققة، أي الأسعار التي جنتها العملات المشفرة بالفعل في أحدث معاملاتها؛ بدلاً من القيمة السوقية التي تفترض أن كل عملة ستُتداول اليوم بالسعر الحالي المعروض في البورصة. وافق مالكولم متحدثاً من منزله خارج لندن وجهة نظر جيرارد حول الرافعة المالية التي تشوش رقم القيمة السوقية قائلاً: "بسبب تقليص المديونية، انخفضت الأسعار إلى متوسط ​​سعر القيمة المحققة بصورة أو بأخرى. لذا، يوجد الآن فرق ضئيل للغاية بين القيمة السوقية والقيمة المحققة"، ما يعني أن القيمة السوقية الحالية، التي تبلغ حوالي تريليون دولار أميركي تشكل قراءة جيدة لحجم سوق العملات المشفرة فعلياً. أضاف مالكولم أن هذا الرقم قد يبدو كبيراً، لكنه "قليل بشكل استثنائي" مقارنةً بأي سوق تقليدية أخرى. قال رئيس قطاع أبحاث العملات الأجنبية والعملات المشفرة لدى "يو بي إس" إن دراسة السوق عبر معدل القيمة السوقية إلى القيمة المحققة يشكل مقياساً مفيداً بهذا الصدد. يكشف المعدل سالف الذكر عن مدى سطحية السوق. ولحسن الحظ هناك باحث يتتبع ذلك.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

جامعو البيانات

يبرز جيمس تشيك من مزودة بيانات التشفير "غلاسنود" (Glassnode) بين مجموعة استثنائية تعيش لدراسة مخططات "بتكوين" بحثاً عن جميع أنواع البيانات التي تبيّن كيفية عمل العملة المشفرة، أو من الرابح ومن الخاسر في خضم الركود. كان تشيك وهو مهندس مدني سابق وراء عدد من المعايير الحصرية في القطاع التي تأتي أخبار حول العملات المشفرة على ذكرها أحياناً مثل معدل القيمة المحققة إلى حجم المعاملات"، و"MRGO"، ولا تسألوني ما هو، لكنه يأتي ذكره في بعض الأخبار المتعلقة بالتشفير. يتتبع تشيك مقياس يسمى الكيانات للحصول على قراءة حول عدد الأشخاص المشاركين في منظومة التشفير. يمكن لشخص واحد استخدام عناوين متعددة، لذلك تجمعها "غلاسنود" معاً في كيانات، أو مستخدمين استثنائيين، للحصول على قراءة أدق. يقول تشيك إن "بتكوين" لديها نحو 300 ألف كيان فريد يومياً، انخفاضاً من حوالي 400 ألف كيان في فبراير 2021. بالنسبة للقيمة السوقية، نصحني تشيك أيضاً بإلقاء نظرة على معدل القيمة السوقية إلى القيمة المحققة، الذي وصل إلى 3.2 في ذروة نوفمبر، مما يعني أن القيمة السوقية كانت أكبر بكثير من القيمة المحققة.

عليه، إذا كانت القيمة السوقية تقارب 3 تريليون دولار في أوج ازدهار قطاع العملات المشفرة، فإن قسمتها على 3.2 يساوي نحو 875 مليار دولار، وهو ما يقارب القيمة السوقية الحالية البالغة تريليون دولار. قال تشيك: "لن تكون النسبة مثالية أبداً، لكنها تظهر لك فارق سعر المضاربة علاوة على القيمة الأساسية الحقيقية للعملات المشفرة".

هل 875 مليار دولار كثير؟ يقول تشيك: "بالنسبة لفرد، فإن مبلغ 875 مليار دولار يُعدّ هائلاً، وكذلك بالنسبة إلى شركة ما. أما بالنسبة لأصل لديه كل الإمكانات التي تؤهله لانتزاع الأموال وربما تجاوزها ببعض القيم الأسية، فإنه مبلغ ضئيل".

قال فيليب غرادويل، كبير الاقتصاديين في منصة "تشيناليسيز" لبيانات "بلوكتشين"، إن هناك فكرتين أساسيتين يجب مراعاتهما: أولاهما أنه يمكن رصد دخول "بتكوين" أو أي عملة مشفرة أخرى في أي محفظة عملات رقمية، وثانيتهما أنه يمكن الاطلاع على السعر في السوق عندما يحدث ذلك. هذا يعطينا القيمة المحققة لكل صاحب عملة مشفرة. يعتقد غرادويل أن المستثمرين والشركات دفعوا نحو 411 مليار دولار مقابل عملات بتكوين التي يمتلكونها حالياً، في حين أن القيمة المحققة لجميع العملات المشفرة تبلغ 841 مليار دولار. يقول كبير الاقتصاديين لدى "تشيناليسيز" أنه رغم أن حجم السوق يتضاءل مقارنة مع القيمة السوقية لشركة "أبل" البالغة 2.7 تريليون دولار، إلا أنه لا يُعتقد أنه "رقم ضئيل إلى هذ الحد"، لافتاً إلى أن ذلك يُعتبر "توليداً مذهلاً للثروة بشكل ما، فهي نقل كبير للثروة ممن أنشأوا هذه الأصول إلى الراغبين بشرائها".

إذاً، ما الذي تعلّمناه؟ أحد الدروس المهمة هو أن القيمة السوقية وحدها لا تمثل حقاً مقياساً رائعاً للقيمة الاقتصادية للعملات المشفرة؛ بل إنها قد تضخم حجمها الإجمالي على نحو زائف. برغم انخفاض القيمة السوقية من 3 تريليون دولار إلى تريليون دولار تقريباً، إلا أن القيمة "الحقيقية" أو المحققة للعملات المشفرة ظلت ثابتة في نطاق ضيق، وذلك لأن القيمة السوقية تعكس كل الأمور التي يمكن أن تضخّم الأصول السطحية، مثل الرافعة المالية وصفقات الغسل والتلاعب والعملات الراكدة والعملات المشفرة التي لم تُتداول مطلقاً. بتنحية كل تلك العوامل، فقد ظلت قيمة العملة المشفرة ثابتة بشكل ملحوظ خلال جميع التقلبات. إذاً، ما الذي قد يدفعها للارتفاع؟ باختصار هو السيولة: يستثمر مزيد من الأشخاص في العملات المشفرة كمخزن للقيمة، بدلاً من محاولة رفع سعر عملتهم الرقمية المفضلة وحسب.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك