يخوض مارك زوكربيرغ تجربة جديدة، ولا أقصد بذلك محاولاته الأخيرة لتقليد ابتكارت بعض أكبر منافساته له فيما يبتلع شركات ناشئة في مجال جديد يطمح للهيمنة عليه، وهي كلّها خطط استخدمها بنجاح على مدى أزيد من عقد. أتحدث هنا عن محاولته إظهار "ميتا بلاتفورمز" المعروفة سابقاً باسم "فيسبوك" بصورة شركة ضعيفة.
صوّرها زوكربيرغ في اجتماع موسع في وقت سابق هذا الصيف على أنها مأزومة. كانت إيرادات "فيسبوك" قد سجّلت نمواً هائلاً خلال وباء كورونا، مستفيدة من انكباب المستخدمين على أجهزتهم الإلكترونية وإقبالهم على التسوق الإلكتروني.
نمت إيرادات الشركة 28% في الربع الثاني من 2019 مقارنة بالعام الذي سبقه، وبعد سنتين من ذلك، تضاعفت نسبة النمو إلى 56%. لكن بات على الشركة اليوم مواجهة الواقع، فقد حذّر زوكربيرغ من أن "ميتا" تواجه " أسوأ تباطؤ شهدناه في العصر الحديث". كرّر هذه الرسالة في اتصال لمناقشة أرباح الشركة في 27 يوليو، حيث قال: "أحاول دفع الشركة لتكون من الشركات التي تتعلم بشكل أسرع، مرّة بعد مرّة... في اللحظة التي نتوقف فيها عن ذلك سنتأخر في السباق، فهذا المجال تنافسي جداً".
العقبات الحقيقية
لنضع تحليل زوكربيرغ الاقتصادي جانباً فلم يثبت بعد دخول الاقتصاد الأميركي في ركود ناهيكم عن قلقه حيال تباطؤ عالمي تاريخي، لكن تبقى هناك أسباب عديدة للتشاؤم حيال وضع "ميتا". يُستبعد أن تستمر النزعات التي سادت في حقبة كورونا واستفادت منها الشركة بعد عودة الناس لسلوكيات منطقية أكثر فقد باتوا يكبحون استهلاكهم عبر الإنترنت.
كما قوّض التعديل الذي أدخلته شركة "أبل" على سياسة الخصوصية جانباً أساسياً من الإعلانات المستهدفة التي تعتمد عليها "ميتا"، حيث تتوقع الشركة أن يكبّدها هذا التعديل وحده خسارة إيرادات بنحو 10 مليارات دولار سنوياً. أمّا المشكلة الثالثة فتتعلق بسمعة الشركة، فبرغم مسعى زوكربيرغ لتقديمها بحلّة جديدة منسوجة من عالم "ميتافيرس" وبرغم الحملة التسويقية المحرجة التي أطلقتها الشركة ترويجاً لنشاطها في مجال الإعلانات، ما تزال النظرة إليها تتراوح بين كونها غير جذابة ومروّعة.
كما يطالب مستخدمو "إنستغرام" بإعادة التطبيق إلى سابق عهده، فعائلة كاردشيان ليست سعيدة بما آل إليه.
أدّى كلّ ذلك لانخفاض قيمة أسهم "ميتا" 50% منذ فبراير وانتشرت عناوين تنذر بكارثة مقبلة، ما دفع البعض للترحيب بحقبة التقشف المقبلة التي تنبأ بها زوكربيرغ. مع ذلك، فإن المتشائمين يبالغون في تصوّرهم حول هشاشة الشركة. صحيح أن "فيسبوك" عاد إلى ما كان عليه في ما مرحلة ما قبل كورونا، لكنه كان حينها المنصة المهيمنة بين وسائل التواصل الاجتماعي، وحين تكون أصلاً أكبر منصة إعلامية في التاريخ الإنساني لديها نحو ثلاثة مليارات مستخدم يزورون موقعها يومياً، يصبح النمو أصعب.
كما أن انتقادات المستخدمين ليست بجديدة على "ميتا" التي أثارت مخاوف الناس منذ بداياتها كما فقد تطبيق "فيسبوك" نفسه بريقه منذ عقد على الأقل. لطالما أوجد زوكربيرغ حلولاً لمعالجة هذه المشكلة، سواء عبر شراء تطبيقات منافسة أو تقليدها. فقد اشترت الشركة "إنستغرام" بعدما سئم طلاب المدارس الثانوية والجامعات من "موجز الأخبار" على "فيسبوك"، واشترت "واتساب" بعدما انتقل النشاط على وسائل التواصل الاجتماعي إلى مجموعات الدردشة الخاصة. حين اتضح أن مستخدمي "إنستغرام" يفضلون خاصية حذف المنشور بعد فترة من الوقت على تطبيق "سناب شات"، أضافت "فيسبوك" تلك الخاصية إلى "إنستغرام".
هيمنة لا تنكر
فيما لم تُكسب مثل هذه الإجراءات زوكربيرغ شعبية بين المستخدمين، إلا أنها جعلت شركته تملك تقريباً كل تطبيقات التواصل الاجتماعي الكبرى خارج الصين. يستحيل أن يتمكن المعلنون الذين يسعون لبيع منتجات عبر الانترنت أو الشركات الإعلانية الراغبة في نشر محتواها أن يتجنبوا "ميتا". كان لذلك عواقب مدمّرة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي، فقد منح تطبيق "فيسبوك" الزعماء المستبدين وسيلة جديدة لتعزيز نفوذهم، وأسهم في إيقاد الفتنة والعنف في بعض المناطق الأكثر هشاشة في العالم، وحوّل القطاع الإعلامي إلى جحيم يهمين عليه أمثال دان بونجينو.
حقّقت "ميتا" أموالاً طائلة في تلك الأثناء. صحيح أن الربع الأخير الذي استدعى إصدار زوكربيرغ تحذيراً من تباطؤ تاريخي لم يحمل نتائج عظيمة، حيث كانت تلك المرّة الأولى في تاريخ "ميتا" التي انخفضت فيها الإيرادات، إلا أن هذا الانخفاض كان بالكاد محسوساً فقد انخفضت بأقل من 1% من الفترة عينها في العام الماضي، وكانت ارتفاعاً نسبته 70% مقارنة بالربع الثاني من 2019. حققت الشركة إيرادات هائلة بلغت 29 مليار دولار منها 7 مليارات دولار كأرباح، وهو رقم يقزّم كلّ شركات وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى. لم تبلغ إيرادات "سناب" على سبيل المثال سوى مليار دولار في الربع الماضي وخسرت أكثر من 400 مليون دولار.
تكبّدت "بنترست" التي تبلغ إيراداتها حوالي نصف إيرادات "سناب" خسارة أقل، لكن الشركة نحّت رئيسها التنفيذي من منصبه أخيراً، وتواجه حملة يشنّها المساهمون الناشطون. امّا "تويتر".... حسناً، في أفضل الأحوال، قد يأمر قاض في ديلاوير رجلاً صلفاً بشراء الشركة.
"تيك توك" خصماً
صحيح أن "فيسبوك" تواجه خصماً قوياً هو "تيك توك" لكن حتى في هذه المنافسة، وضعية "فيسبوك" أقوى ممّا يريد أن يقنعكم به زوكربيرغ.
تحقق "تيك توك" نمواً سريعاً وتستقطب كلّ ما هو رائج، ولكن ما يزال يتعين على الشركة أن تجد طريقة لتحوّل نموّ عدد مستخدميها إلى إيرادات تماهي تلك التي تحققها "فيسبوك". بلغت إيرادات "تيك توك" 4 مليارات دولار في 2021، فيما حققت "ميتا" أرباحاً تقدّر بثمانية أضعاف ذلك تقريباً. يقول المسوّقون إن الشركة التي يملكها صينيون توشك أن تكسب أرباحاً طائلة، لكن حتى لو تحققت توقعاتهم، سيظلّ حجم "تيك توك" أصغر بكثير من "ميتا".
يعود ذلك جزئياً لأن "ميتا" أفضل من كلّ منافسيها بتحويل المستخدمين إلى أموال. فقد تجاوز معدل إيرادات "فيسبوك" لكلّ مستخدم في الولايات المتحدة وكندا الخمسين دولاراً في الربع الماضي، فيما كانت إيرادات "بنترست" مثلاً كانت أقل من ستة دولارات. فيما تكشف "تويتر" و"سناب" عن الإيرادات عن كلّ مستخدم بشكل مختلف قليلاً، لا تكشف عنها "تيك توك" إطلاقاً، ما يصعّب المقارنة الحقيقية بين هذه التطبيقات، مع ذلك لا شكّ بأن إيراداتها قياساً لعدد المستخدمين بعيدة كلّ البعد عن ما تجنيه "ميتا".
كما بدأت "ميتا" بالفعل تحقق بعض النجاح في جهودها لمحاكاة "تيك توك". في الواقع، من أسباب انخفاض إيرادات الشركة كان سعيها لتوجيه مستخدميها بعيداً عن خدماتها الأكثر إدراراً للربح نحو منصة "ريلز" الأقل ربحية التي تقلّد "تيك توك". يرجّح أن تكون مسألة وقت قبل أن تكتشف "فيسبوك" كيف يمكنها تحقيق الأموال من بيع الإعلانات على "ريلز" بقدر ما تحققه من تطبيقاتها الأقدم.
الاستحواذ غير وارد
لو كانت الأجواء التنظيمية مختلفة، لاشترى زوكربيرغ "تيك توك" ببساطة، ولكن الأمر مستحيل حالياً. فذريعة "ميتا" في وجه التدقيق الذي تخضع له في واشنطن هي أنها تواجه كثيراً من المنافسة وأن منتجاتها تساعد المستهلكين ولا تضرهم. كما يصعب على الحكومة أن تتهم "ميتا" بالاحتكار فيما يعرب رئيسها التنفيذي جهاراً عن قلقه من هلاك الشركة على يد منافستها الصينية.
لماذا يحاول الجميع تقليد "تيك توك"؟
لكن زوكربيرغ الذي وصف غير مرة "مايكروسوفت"، التي كانت وما تزال إحدى كبريات الشركات في العالم من حيث قيمتها السوقية، بالشركة "المستضعفة"، لطالما كانت لديه نزعة لإظهار إمبريالية الشركات بهيئة متعثرة، وتحفيز الموظفين عبر اختلاق أجواء بأن مصيراً أسود يلوح في الأفق. لكن سيناريو "فيسبوك" الأسوأ ليس هلاكها، بل فقدانها أهميتها الثقافية، لكنها ستظلّ تجني كثيراً من الأرباح.