تُسوِّق وول ستريت منتج تحوّطٍ مستخدمة منطقاً يوجزه السؤال التالي: إن كنت تؤمّن على منزلك ضدّ بعض الكوارث أو الدمار كامل، ألا يجدر بك أن تؤمّن على محفظة استثماراتك؟ قد يتهدّد المسكن حريق أو فيضان أو عاصفة مدمّرة، لكن في الأسواق المالية الخطر قد يكون حدة مفاجئة في التقلبات أو انخفاض سريع في الأسعار يذهب بأرباح أشهر أو حتى أعوام.
يرى جميع المستثمرين سواءً أكانوا أعرق المؤسسات أم أرثّ المضاربين المياومين أن دوامة الرياح الحالية تعادل أعتى العواصف بالقياس لما قد يتهدّد المساكن، وقد سمّاها المؤرخ الاقتصادي آدم توز "الأزمة متعددة الأسباب" وهي حالياً تشمل التضخم واستمرار الجائحة بلا نهاية في الأفق إضافة للحرب وتسارع تصاعد الفائدة وتداعي أسهم التقنية وانهيار العملات المشفرة. لذا لا يُستغرب أن يلقى هذا العرض إقبالاً فيما يبحث الجميع عن طريق للسلامة من العاصفة.
اتقاء الخسائر المستبعدة كارثية الأثر ليس بجديد. تُعرف هذه الممارسة أحياناً بالتحوّط من مخاطر الذيل، وهي إشارة لشكل نهاية خط بياني يظهر تدهور كبيراً بعد بلوغ ذروة وهي النقطة التي تأتي معها العواقب الوخيمة. كما يُعرف هذا الامر باسم استثمار "البجعة السوداء" وهي عبارة مأخوذة من مقاربة للكاتب والمستثمر نسيم طالب قال فيها: كما كان الأوروبيون يفترضون أن البجع لا يأتي أسود حتى رأى أحد المستكشفين واحدة في أستراليا، فإن المستثمرين يفترضون عادة أنه لن تقع أي كارثة حتى يحصل العكس. بالتالي، فإن صناديق البجعة السوداء مصمّمة لجني الأموال حين تسوء الأمور بطريقة لا يتوقّعها أحد.
عملية معقدة
يتطلّب هذا النوع من التأمينات سلسلة ثابتة ومكلفة من الرهانات المعقدة على الخيارات. كان صعباً لعقود حتى على خبراء الرياضيات إنتاج مثل هذه التأمينات وكانت الأخطاء مكلفة. وعلى أي حال، قلّة باستثناء مديري صناديق التحوّط الأكثر تمرّساً ومكاتب التبادل لصالح الشركات تكبّدوا عناء المحاولة. لكن الآن تحوّلت التحوّطات من مخاطر الذيل إلى منتجات جاهزة يسهل الحصول عليها بفضل التقدم المحقق على صعيد برامج إدارة المخاطر والقوة التحليلية لأجهزة الكمبيوتر العادية.
سجّلت صناديق التحوط التي تقدّم مثل هذه الإستراتيجيات ثاني أفضل عام لها على صعيد التدفقات النقدية في 2021، حسب " أوريكاهيدج" (Eurekahedge)، برغم تكبد محافظها خسارة بنسبة 10% فقد كانت ما تزال السوق صاعدة حينئذ. عيّن نظام تقاعد جامعات الولاية في إلينوي شركة إدارة الأموال "لونغ تايل ألفا" (LongTail Alpha) في أبريل كي تضع له إستراتيجية لـ"مخاطر الذيل"، فيما زاد مؤخراً نظام تقاعد موظفي المدارس الرسمية في بنسلفانيا مخصصاته لمثل هذه التحوطات. حتى بات بإمكان المستثمرين العاديين الاختيار بين عدّة منتجات، منها صناديق المؤشرات المتداولة في البورصة التي تَعِد بمكاسب مفاجئة حين تنخفض السوق. لقد سجّل أكبر صندوق بجعة سوداء متوفر للمستثمرين الأفراد في الولايات المتحدة، وهو صندوق المؤشرات المتداولة "كامبريا تايل ريسك" (Cambria Tail Risk ETF) تدفقات بقيمة 168 مليون دولار هذا العام.
خسارات بغرض الربح
تختلف إستراتيجيات مخاطر الذيل بين واحدة وأخرى، لكن المثال الكلاسيكي عنها يُختصر بالتالي: يراهن مدير الأموال على خيارات "مفتقرة للمال" بشدّة. مثلاً، قد يكون لدى الصندوق عقود لا يستفيد منها إلا حين ينخفض مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" بشدة في فترة محددة وعليه الاستمرار بهذه الرهانات تكراراً، فيتكبد المستثمرون تكاليف إن استمرت السوق بالصعود أو لم تنخفض بما يكفي. قال جيري هاورث من شركة "36 ساوث كبيتال أدفايزرز" (36 South Capital Advisors) في لندن، الذي يدير إستراتيجيات مخاطر الذيل منذ 20 عاماً "نتكبّد خسائر في كلّ عام ثمّ نكسب... في حال تحوّطات الذيل، لا تكون معنياً فعلياً إن انخفضت السوق 10%، بل ما يعنيك هي الأموال التي ستحصل عليها إذا هبطت السوق 30% أو أكثر". يقول مؤيدو التحوّط من مخاطر الذيل إنه بمرور الوقت يبرر مردود المحفظة المتنوعة تكلفته.
يُعتبر احتمال الحصول على أموال في السنوات بالغة السوء أمراً مغرياً بالنسبة للمؤسسات، مثل تلك المعنية بخطط رواتب التقاعد، أو الأوقاف الجامعية الملزمة بدفع الأموال بغض النظر عن أداء استثماراتها. يتذكر هؤلاء المستثمرون جيداً العبرة التي قدّمها نظام تقاعد موظفي القطاع العام في كاليفورنيا، أكبر مدير للرواتب التقاعدية في الولايات المتحدة المقدّرة قيمته بـ440 مليار دولار. إذ تسلّط الحادثة الضوء على المنافع التي يَعِد بها التحوُط من مخاطر الذيل، والثغرات الأساسية التي تعتريه.
كان نظام تقاعد موظفي القطاع العام في كاليفورنيا يشتري طوال سنوات تحوّطات من مخاطر الذيل من شركات خارجية. وكانت إحدى تلك التحوّطات كبيرة بما يكفي لتوفر له مليار دولار في حال انهيار شديد في السوق، مثل الذي حصل في مارس 2020 مع بداية تفشي وباء كورونا. إلا أن النظام التقاعدي فقد صبره. فقبل أسابيع قليلة من انهيار الأسهم في ذلك الشهر، قرّر كبير المسؤولين الاستثماريين في الخطة التقاعدية الذي غادر منصبه منذ ذلك الحين، التخلي عن التحوّط، مفوتاً على نظام التقاعد فرصة الحصول على مبلغ طائل.
الحمل السالب
كانت السوق في 2020 صاعدة منذ عقد، بالتالي كان طبيعياً أن يتساءل الناس، ومنهم محترفون يتعيّن عليهم تبرير استثماراتهم بانتظام لعملائهم أو مجالس إدارتهم، عن جدوى دفع الأموال مقابل تحوّطات مكلفة لم تبدُ مفيدة أو أن يشعروا بالقلق حيال ما يُعرف بـ"الحمل السالب"، وهو المصطلح المستخدم في وول ستريت إشارة للخسائر الصغيرة المستمرة التي تتسبب بها هذه الصناديق في الأوقات الجيدة. قال دانيال ستيرن، كبير الإداريين ورئيس بحوث صناديق التحوّط لدى "كليفووتر" (Cliffwater) "لطالما تبيّن أن المؤسسات التي تطبّق إستراتيجية حمل سالب سعياً للوقاية تستسلم بعد مرور الوقت، بالأخص إن لم نواجه أي أزمات".
يظهر صندوق المؤشرات المتداولة "كامبريا تايل ريسك" نوع قدرة التحمّل التي تتطلبها مثل هذه الاستثمارات، فعلى مرّ الأشهر الثلاثة الماضية المضطربة، حقّق الصندوق مكاسب بنسبة نحو 1% بالمقارنة مع خسارة بنسبة 6% في مؤشر "ستاندرد آند بورز 500". كما سجّل عوائد بنسبة 24% في الربع الأول من 2020 حين أحدثت جائحة كورونا خضة في الأسواق، لكن في المقابل، كان قد سجل على مدى السنوات الخمس الماضية خسائر متراكمة بنسبة 24% مقارنة بعوائد إجمالية بنسبة 72% للأسهم الأميركية. قال ميب فابر، الرئيس التنفيذي لشركة "كامبريا لإدارة الاستثمارات" (Cambria Investment Management) إنه "صندوق أشبه بالتأمين... نرى كثيراً من الناس يستخدمونه تكتيكياً فهم يتداولونه ربطاً بما يجري في العالم".
ترى كريستين بينز، مديرة التمويل الشخصي في شركة البحوث في مجال الصناديق "مورنينغستار" (Morningstar) ضرورة في التركيز على الأساليب الأكثر بديهية التي تساعد على تقليص المخاطر. قالت: "يستفيد المستثمرون بشكل عام أكثر لدى استخدام أدوات تنويع أبسط، مثل السندات قصيرة الأجل عالية الجودة، إضافة إلى النقد التقليدي بدل الأوراق المالية المعقدة للتنويع في التعرض لمخاطر الأسهم". أضافت: "لا توفّر النقود والسندات قصيرة الأجل عالية الجودة حماية من التضخم، ما يؤكد على أهمية عدم المبالغة فيها. مع ذلك، لديها بعض المنافع الأساسية، فقد حافظت على مكانتها بشكل جيد نسبياً في وجه الصدمات المختلفة السابقة في السوق، ومن السهل فهمها واستخدامها، كما تمكّن المستثمرين من الاستثمار في هذه الفئات من الأصول بتكلفة زهيدة جداً".
بلا ضمانات
تبرز أيضاً مسألة ما إذا كان صندوق مخاطر الذيل سيدرّ المبلغ المتوقع، فهذه الإستراتيجية تنجح لكن ضمن معايير محددة، كما أن الكوارث التي قد تواجهها ربما تختلف عن ما تؤمّنون ضده. تحقق إستراتيجيات مخاطر الذيل مكاسبها الأكبر خلال الانكماشات الحادّة والمفاجئة في السوق، مثل تلك التي حصلت في مارس 2020 أو الأزمة المالية في 2008. إلا أن وضع السوق المنخفضة الأبطأ في 2022 مختلف تماماً. حقّقت صناديق التحوّط من مخاطر الذيل مكتسبات بنسبة نحو 11.6% هذا العام، بحسب " أوريكاهيدج " (Eurekahedge)، ما يجعلها من الرابحين القلائل حالياً، وهذا يكفي لتعويض الصناديق عن خسائر العام الماضي. قال دان فيلالون، الرئيس الشريك لمجموعة حلول المحافظ في "أي كيو أر" لإدارة الأصول أن "إستراتيجيات مخاطر الذيل الصافية قامت بشكل عام بما يترتب عليها خلال التراجع الناجم عن وباء كورونا، لكن أداءها جاء أقل جودة خلال هذا التراجع... كلّما طال التراجع أكثر تقلّ الاستفادة التي تحصلون عليها عادة من هذه الإستراتيجيات".
يحاول مديرو مخاطر الذيل توسيع نطاق جاذبية هذه الإستراتيجية عبر تقديم منتجات أقل تطرّفاً. تدير شركة "36 ساوث" التي ينتمي إليها هاوورث صندوقاً واحداً يسعى للبقاء ثابتاً في فترات الهدوء بدل أن يخسر الأموال، إلّا أنه يجني أرباحاً أقل حين تنهار الأسواق. تقدم "لونغ تايل ألفا" (LongTail Alpha) لعملائها إستراتيجيات تراهن على طيف من الأصول إلى جانب الأسهم. قال فينير بهانسالي، مؤسس "لونغ تايل ألفا": "هكذا لا تضحي كثيراً بموثوقية بوليصة التأمين لكن في الوقت نفسه تكون تكلفة التشغيل أدنى".
ثمة إستراتيجية مغرية تتمثل بمحاولة تجنب تكلفة التأمين من خلال القفز إلى صناديق مخاطر الذيل فقط حين تظن أن الأحوال توشك على أن تسوء. المشكلة أنه في هذه الحال تصبح تكلفة التحوّط أعلى والمبالغ التي يأتي بها هذا التحوّط أقل لأن الجميع يدركون أن الوضع أصبح خطراً. بدأ هذا يحصل بالفعل اليوم. قال بيتر فان دويجيويرت، المدير الإداري لحلول الأصول المتعدة في مجموعة "مان غروب" (Man Group): "الحصول على العوائد الأسهل في تحوّط الذيل بات من الماضي... ما زلنا نتحوّط ولكننا نخفّف من ذلك". يتعارض مثل هذا النهج مع مبدأ استخدام التحوّط كتأمين، فإذا كنت تعرف بشكل موثوق متى ستقع المشكلات، فلن تحتاج إليه. قال فيلالون: "بات صعباً جداً على أي شخص، سواء كان متحوّط ذيل أو لم يكن، أن يتوقّع توقيت السوق".