كشف الاتحاد الأوروبي في الصيف الماضي عن خطته المناخية لتخفيض الانبعاثات إلى 55% وهي خطة جذرية للابتعاد عن الطاقة القائمة على الكربون وتتضمن تخفيضات كبيرة في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري لتحقيق هدف الوصول إلى الصافي الصفري للانبعاثات بحلول منتصف القرن. لكن غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا أجبر عديداً من الدول على التراجع عن إزالة الكربون في المدى القصير على الأقل لتعويض انقطاع إمدادات الوقود من روسيا.
منذ عبرت القوات الروسية حدود أوكرانيا في 24 فبراير، بدأت الدول الأوروبية بحرق مزيد من الفحم وبالتخطيط لإنشاء محطات جديدة للغاز الطبيعي المسال وبتوسيع شبكة خطوط أنابيب الغاز في المنطقة. قال المدير التنفيذي لوكالة الطاقة الدولية فاتح بيرول، الذي دعا العام الماضي لإنهاء مشاريع النفط والغاز الجديدة: "أفهم أنه على بعض الحكومات اتخاذ قرارات صعبة لضمان إمدادات الطاقة لمواطنيها، فالضغوط الحالية على أسواق الطاقة مؤلمة لنا جميعاً".
اقترحت خطة المناخ التي أعلنتها المفوضية الأوروبية في 14 يوليو 2021 تشديد نظام الحد الأقصى والمبادلة الحالي للحصول على تصاريح انبعاثات الكربون وتكثيف إنتاج الطاقة المتجددة والتخلص التدريجي من السيارات ذات محركات الاحتراق الداخلي لخفض الانبعاثات بنسبة 55% بحلول 2030 من مستويات 1990. سلطت الحرب في أوكرانيا الضوء على درجة اعتماد تلك الطموحات على الغاز المنقول من روسيا لاستمرار عمل الإنارة والمصانع أثناء انتظار دفع مئات المليارات من اليورو للاستثمارات المخطط لها في مصادر الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية وتقنيات خفض الانبعاثات من الصناعات الثقيلة.
فرط اعتماد
تعتمد المنطقة على روسيا لتأمين حوالي 40% من غازها وثلث نفطها. منذ جعل بوتين شحنات الوقود نوعاً من الأسلحة، يدعم الاتحاد الأوروبي الاستثمار في البنية التحتية مثل إنتاج الغاز الطبيعي المسال في أي مكان آخر غير روسيا ومنشآت استيراده إلى المنطقة. يتضح بازدياد أن الكميات الأكبر من الفحم يجب أن تكون بمثابة احتياطي كبير، رغم أنه حتى وقت قريب كان يُنظر إليه على أنه أمر غير ضروري وخطير. قفزت انبعاثات الكربون من الفحم بأكثر من 6% عن مستويات 2019 منذ فبراير، وفقاً لمؤسسة الأبحاث "كايروس" (Kayrros).
خفضت روسيا شحنات الغاز عبر جميع خطوط الأنابيب الرئيسية إلى أوروبا هذا العام، حيث وصل انخفاض الصادرات أحياناً إلى أقل من ثلث ذروتها في مارس، وفقاً لتقارير وكالة الطاقة الدولية. فُرضت هذه القيود رغم انتعاش الطلب بعد الوباء، فقد بلغ استخدام الغاز في أوروبا في 2021 أعلى مستوياته منذ عقد، وفقاً لتقديرات شركة النفط البريطانية الكبرى "بريتش بتروليوم" (BP).
قال مارتن برادلي رئيس استثمارات البنية التحتية الأوروبية لدى شركة "ماغواير أسيت مانجمنت" (Macquarie Asset Management): "هناك إدراك متزايد لهذه الاعتمادية التي سُمح لها بالتطور. في انتظارنا تدافع يمتد من 5 إلى 10 سنوات لمعالجة قضية الاعتمادية هذه".
الفحم القذر
دفعت الأزمة ألمانيا لتأجيل إقفال عدد من محطات توليد الطاقة التي تعمل بالفحم والنفط ويبلغ إنتاجها مجتمعة حوالي 10 غيغاوات من سعة التوليد المركبة، في خطوة تقول عنها مؤسسة الأبحاث "أيسيز" (ICIS) إنها ستزيد انبعاثات الكربون في قطاع الطاقة بنسبة 20% العام المقبل و17% في 2024. قالت "بلومبرغ إن إي إف" (BloombergNEF) إن التحول يزيد احتمال عدم تمكن أكبر اقتصاد في أوروبا من تحقيق أهدافه المناخية لعام 2030.
تعمل الحكومة الهولندية على إزالة سقف الطاقة المنتجة من الفحم، وأمرت النمسا شركات المرافق التي تسيطر عليها الدولة بإحياء محطة طاقة مغلقة تعمل على الفحم، كما تعمل فرنسا على إعداد محطة فحم كاحتياط لفصل الشتاء.
قال بيتر فيس المسؤول السابق عن سياسة المناخ في المفوضية الأوروبية الذي يعمل الآن لدى شركة "رود بيديرسون ببليك أفيرز" (Rud Pedersen Public Affairs): "إن إعادة تشغيل محطات الطاقة التي تعمل بالفحم لتلبية احتياجات الطاقة على المدى القصير هو حل سريع، لكن الأمر سيتطلب تخفيضاً أشد في الانبعاثات لاحقاً".
عودة للغاز
يستثمر عدد من الدول في محطات لاستيراد الغاز الطبيعي المسال كبديل للغاز الروسي الذي يُسلم عبر شبكة خطوط الأنابيب الممتدة عبر أوروبا. رغم أن الغاز أنظف من الفحم عادةً، إلا أن بعض دعاة حماية البيئة يعارضون بناء منشآت وخطوط أنابيب جديدة لربطها بالشبكات القائمة، لأن البنية التحتية ستستمر لعقود. تشتهر آبار الغاز وخطوط الأنابيب بتسريب الميثان، وهو غاز دفيئة أكثر ضرراً من ثاني أكسيد الكربون. ستكون مشاريع الغاز الطبيعي المسال العشرين قيد الإنجاز قادرة على معالجة 120 مليار متر مكعب من الوقود سنوياً، أو حوالي 80% ممّا وردته روسيا في 2021، وفقاً لمؤسسة الأبحاث "إف تي آي كونسلتينغ" (FTI Consulting).
أشارت بنوك استثمارية تدعمها الحكومات كانت تمنح الأولوية لطاقة الرياح والطاقة الشمسية، إلى تجدد استعدادها لدعم مشاريع وقود الكربون. قال البنك الأوروبي للإنشاء والتعمير إنه سيدرس تمويل مرافق تخزين الغاز أو البنية التحتية للغاز الطبيعي المسال كبدائل للفحم والنفط. قال بنك الاستثمار الأوروبي الذي تعهد بوقف دعم الوقود الأحفوري إنه سيدرس تمويل محطات لاستيراد الغاز الطبيعي المسال.
قال رئيس بنك الاستثمار الأوروبي فيرنر هوير للصحافيين في فرانكفورت يوم 20 يونيو: "نحن بحاجة لأن نكون أكثر مرونة، ولكن بشرط دائم يتمثل في تمويل البنية التحتية التي يمكنها أيضاً تلقي وتوزيع واستخدام الهيدروجين"، الذي يعد بديلاً محتملاً منخفض الكربون للغاز الطبيعي الذي قد يستخدم البنية التحتية نفسها، رغم أن كيفية أو إمكانية نجاح ذلك ما تزال غير واضحة.
تسريع المشاريع
ليست كل الأخبار سيئة، فقد أدت الحرب لبدء الاستثمار في عنفات الرياح ومزارع الطاقة الشمسية ومنشآت احتجاز الكربون وتخزينه. يدرك الاتحاد الأوروبي أن هناك كمية محددة من الكربون يمكنه إطلاقها في الجو هذا العقد ليحقق أهدافه المناخية.
لذا تسعى الكتلة إلى مضاعفة طاقتها الشمسية إلى 320 غيغاواط بحلول 2025 والوصول إلى 600 غيغاواط بحلول نهاية العقد، وهو ما سيجعل الطاقة الشمسية أكبر مصدر للكهرباء في أوروبا، في حين أنها اليوم لا تقع حتى ضمن المراكز الخمسة الأولى.
أعلنت ألمانيا والدنمارك وبلجيكا وهولندا في مايو عن خطة بقيمة 150 مليار دولار لبناء مزارع رياح في بحر الشمال توفر طاقة كافية لـ 230 مليون أسرة. وضع الاتحاد الأوروبي لتحقيق كل ذلك مبادئ توجيهية لتسريع منح التصاريح للمشاريع الجديدة.
قال تشارلز مور رئيس قسم أوروبا في مؤسسة "إمبر" (Ember) للأبحاث: "السماح بانبعاثات أعلى خطر دائماً، لكن إذا اقترن ذلك بتركيز شديد على طاقة الرياح والطاقة الشمسية، فربما سيعني ذلك انتقالاً أسرع للطاقة. ستكون استراتيجية محفوفة بالمخاطر لو كانت لديك خيارات أخرى، لكنها ليست لدينا".