كان ينتظر أن تتوج ولاية جانيت يلين وزيرةً للخزانة مسيرتها، لكن الفترة التي قضتها في هذا المنصب حتى الآن تكاد تصبح وصمة في سيرتها المهنية المجيدة.
اختيرت رئيسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابقة لتساعد بتوجيه الاقتصاد الأميركي للخروج من الوباء تعويلاً على ثقلها ومصداقيتها لدفع سعي إدارة بايدن نحو انتعاش قوي وناجز، وتطلب إقناعها بتولي الوظيفة بعض الضغط.
أصبحت رئاسة جو بايدن في مأزق بعد ثمانية عشر شهراً، ومع ارتفاع التضخم إلى أعلى مستوى له منذ 40 عاماً بات الديمقراطيون متجهين لتراجع في انتخابات التجديد النصفي، فوجدت يلين، التي بلغ عمرها 75 عاماً، نفسها عالقة في لعبة ملامة حتمية وتجاهد للحفاظ على سلامة سمعتها المهنية.
يلين: الأولوية في الحرب ضد التضخم للاحتياطي الفيدرالي
انتزعت يلين زمام الأمور لنفسها في 31 مايو وقامت بشييء فاجأ البيت الأبيض. حيث اعترفت للجمهور الأميركي عبر شبكة "سي إن إن" بأنها "مخطئة" بشأن مسار التضخم. كانت الإدارة حتى الآن تحاول بلا هوادة تصوير ارتفاع أسعار المستهلكين على أنه أمر مؤقت.
تباعدت يلين عن الدائرة المقربة من بايدن التي لم تكن تشملها عبر تصريحها هذا وكشفت الخلل الوظيفي في قلب الإدارة التي ساء تواصلها حول المشاكل الاقتصادية في البلاد. لم يشعر الأميركيون بهذه الكآبة بشأن آفاق الأمة، وآفاقهم منذ الركود الاقتصادي عام 1980، وفقاً لآخر قراءة لمقياس جامعة ميشيغان لمعنويات المستهلك، بينما تُظهر استطلاعات الرأي أن غالبية الناخبين لا يوافقون على تعامل بايدن مع التضخم.
مهارات إقناع
تأتي بعض متاعب يلين مع المنصب، إذ يُنتظر من وزير الخزانة في الولايات المتحدة أن يؤدي دوراً رائداً في صياغة السياسة الاقتصادية لكن تأثيره أحياناً على الأمور المهمة أقل من تأثير كادر مستشاري الرئيس. تتطلب الوظيفة ممارسة بعض الضغط القوي ومهارات إقناع حازمة للمساعدة في التعامل مع الكونغرس. ارتبطت هذه السمات بكل من روبرت روبن وهنري بولسون وستيفن مينوشين، وجميعهم عملوا في مجموعة "غولدمان ساكس"، قبل تعيينهم في المنصب الأعلى في وزارة الخزانة، وليس مع شخصية تكنوقراط هادئة الخطاب مثل يلين، المعتادة على عالم البنوك المركزية الأكثر قابلية للتنبؤ والقياس.
يلين تقول إنها لا تنوي التنحي قبل إنجاز أهدافها
يتمثل إنجاز يلين الملموس حتى الآن بالتقدم الذي أحرزته حول اتفاقية ضرائب دولية تهدف لوقف السباق العالمي نحو الحضيض فيما يتعلق بمعدلات ضرائب الشركات، وهو الهدف الذي استعصى على المفاوضين طوال عشر سنوات تقريباً. يحظى إطار العمل بدعم 140 دولة تقريباً، لكن الناخبين الأميركيين المنهمكين بمشاكل تأمين لوازم الطعام اليومي لم يعيروا بالاً لذلك.
تستند الرواية حول كفاح يلين لإيجاد موطئ قدم لها إلى مقابلات مع حوالي عشرين شخصاً من كبار المسؤولين الحاليين والسابقين في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، طلب معظمهم عدم كشف هوياتهم ليتمكنوا من التحدث بصراحة. رفضت يلين التعليق على هذه القصة.
افتقار للرشاقة
تعد يلين أول محافظ بنك مركزي يشغل هذا المنصب منذ عهد جيمي كارتر، وتحظى بالتقدير لاجتهادها وعمق فكرها. لكن يبدو أنها تفتقر لرشاقة تصرف شخصيات البيت الأبيض، وقد جعلها ذلك التناقض أحياناً مناسبة لهذه الإدارة، وفقاً لمسؤولين أميركيين راقبوا تفاعلها مع مسؤولي الإدارة.
لجأ الرئيس منذ توليه منصبه في كثير من الأحيان لمجموعة من ثقاته مثل بريان ديس مدير المجلس الاقتصادي الوطني للبيت الأبيض، وكبير موظفيه رون كلاين ومستشار الأمن القومي جيك سوليفان. كما أظهر بايدن أحياناً خلال الاجتماعات نفاد صبره من اعتماد يلين على النماذج الاقتصادية أكثر من الكلام الصريح.
وزيرة الخزانة الأمريكية غير قلقة من التضخم.. هل تكون محقة؟
ظهر توجه لتهميش يلين حين أرسل بايدن ديس ليقدم مبادرات إنفاق رئيسية للمشرعين في مجلسي النواب والشيوخ، بينما كلف الرئيس السابق دونالد ترمب سلفها منوشين لتنسيق الصفقات الرئيسية في الكابيتول، ومنها خطة الإنقاذ من فيروس كورونا المصنفة على أنها أكبر حزمة مالية في تاريخ الولايات المتحدة.
تحدث ديس على قناة فوكس نيوز في وقت سابق هذا الشهر، ووصف يلين بأنها "المتحدث الرسمي باسم الفريق المعني بالاقتصاد". لكن خلال الأشهر التسعة الأولى لبايدن في السلطة، أهمل كلاين دعوتها لاجتماعات إستراتيجية كان للخزانة دور فيها، وفقاً لعدد من المسؤولين المطلعين على الوضع. يعني هذا أن يلين لم تكن مطلعة على بعض الرسائل الاقتصادية الرئيسية حتى لو كانت مشاركة في التواصل مع كبار الموظفين يومياً. رفض كلاين التعليق.
وزن هائل
رفض ديس فكرة تهميش يلين في بيان جاء فيه: "الوزيرة يلين شريك أساسي وجزء لا يتجزأ من فريق السياسة الاقتصادية للإدارة... لكلماتها ولرؤيتها وزن هائل".
قالت المتحدثة باسم الخزانة ليلي آدامز: "تميزت الأشهر السبعة عشر الأولى لعمل يلين كوزيرة خزانة بسلسلة إنجازات ذات أهمية كبيرة، ومنها التفاوض على صفقة عالمية حول الضرائب الدولية وحل مأزق سقف الديون وفرض عقوبات غير مسبوقة ضد روسيا ودفع إحدى أسرع مسيرات التعافي الاقتصادي في تاريخ أمتنا".
كانت يلين أيضاً بعيدة عن البيت الأبيض عندما تعلق الأمر بتحديد نوع العقوبات التي سيفرضها على روسيا نتيجة غزوها لأوكرانيا في فبراير. في غضون 48 ساعة من توغل دبابات فلاديمير بوتين عبر الحدود، كان الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع على استعداد لاتخاذ خطوة غير عادية لعزل البنك المركزي الروسي عن النظام المالي العالمي إلى أن وقفت يلين في طريقهم بشكل غير متوقع.
الخزانة الأمريكية تواجه خياراً صعباً بسبب مدفوعات الديون الروسية
فاجأت يلين المسؤولين المشاركين في الاتصالات عبر المحيط الأطلسي في ذلك اليوم والاجتماعات السرية بطلب مزيد من الوقت لتقييم مخاطر ما يمكن أن يشكل واحدة من أقسى العقوبات في التاريخ، وفقاً لأشخاص مطلعين على ما جرى. كان مسؤولو البيت الأبيض قد وضعوا الإجراءات قبل ذلك بعدة أيام، وكانت جزءاً من مجموعة من الخيارات التي كانت قيد الدراسة منذ نوفمبر.
لجأ مسؤولو البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي، في تحول غير عادي للأحداث، إلى رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي لإقناع يلين، فقد تفاعلا ضمن نفس الدوائر خلال عملهما كمحافظين للبنكين المركزيين الأميركي والأوروبي. استاء المسؤولون الأميركيون المطلعون على المناقشة من ترددها. وجادلوا بأن الوقت جوهري لأن الكرملين وبنك روسيا سيتمكنان من تحويل الأصول لحمايتها من العقوبات إن علما بما يُفكرون به.
زلات الإدارة
يبقى السؤال هو سبب أخذ يلين على حين غرة في اللحظات الحاسمة وإلى أي مدى من العدل تحميلها مسؤولية زلّات إدارة بايدن الاقتصادية فيما كان عديد من صناع القرار الأميركيين منخرطين في العملية ولا يسيرون بخطى ثابتة دوماً.
عزا أحد مسؤولي مجموعة السبع حذر يلين في ذلك السبت لاحتمال أن جعل روسيا دولة منبوذة مالياً ستكون له تداعيات محتملة على دور الدولار باعتباره العملة الاحتياطية المفضلة في العالم. بمجرد انضمام يلين إلى المجلس، كانت فكرتها هي تجميد أصول بنك روسيا وليس حظر التعامل بالعملة. ثبت أن ذلك كان خطوة ذكية، وأظهرت معرفتها العميقة بالنظام المالي حيث إنها أغلقت ثغرة كانت ستسمح لروسيا بجلب الأموال.
وزيرة الخزانة الأمريكية: اقتصاد البلاد على المسار الصحيح للتعافي القوي من كورونا
ظهرت انقسامات جديدة داخل إدارة بايدن حول كيفية التعامل مع بوتين بعد أكثر من 100 يوم على الحرب. يفضل مسؤولو وزارة الخارجية والبيت الأبيض فرض عقوبات ثانوية قاسية، إلا أن يلين وفريقها يواصلون تقديم مشورة تدور حول اتباع نهج أكثر حذراً، تماماً كما فعلوا في أواخر فبراير.
ما تزال مكانة يلين في الخارج عالية كما كانت دائماً. قال دراغي إنها قدمت رؤى "لا تقدر بثمن" في المناقشات التي مهدت الطريق لموجة العقوبات الأولى، بينما وصفت كريستين لاغارد رئيسة البنك المركزي الأوروبي مشاركة يلين بأنها "مهيبة". قالت كريستيا فريلاند نائبة رئيس الوزراء الكندي إن يلين "أدركت بسرعة كبيرة أنها كانت لحظة تاريخية يجب اغتنامها والتصرف بطرق جديدة ومبتكرة".
ترى سوليفان مستشارة الأمن القومي لبايدن أن: "مهارة يلين ودبلوماسيتها ساعدتنا في حشد العالم لتعظيم متاعب آلة بوتين الحربية".
صيانة الإرث
قد يكون الأمر كذلك، ولكن بالنسبة ليلين يتمثل الخطر في أن أحداثاً أقرب إلى الوطن ستشوب إرثها، ويكمن ذلك تحديداً في تصور غالبية الناخبين بأن إدارة بايدن قد أساءت إدارة الاقتصاد، خاصة فيما يتعلق بالتضخم. مثل زملائها السابقين في الاحتياطي الفيدرالي ومن بينهم جيروم باول الذي خلفها كرئيس، وصفت يلين في البداية التضخم بأنه مؤقت وأنه نتيجة ثانوية لسلاسل التوريد المتشابكة والنقص المؤقت في السلع الأساسية مثل الرقائق المستخدمة في السيارات.
تغير تفكير يلين في سبتمبر وشارك موظفوها تحليلات جديدة مع البيت الأبيض لكنه تجاهلها إلى حد كبير، في دلالة على أن ضغوط الأسعار كانت أكثر انتشاراً وعناداً. أعرب بايدن حينها عن غضبه من موظفيه لعدم بذلهم مزيداً من الجهد لمعالجة أزمة تكلفة المعيشة التي تضرب الأميركيين، وفقاً لثلاثة أشخاص مطلعين على الأمر.
يلين: حرب أوكرانيا جلبت عدم اليقين إلى الاقتصاد العالمي
بدل أن تلتزم الصمت، تناقض يلين علناً بعض أقوى مسؤولي البيت الأبيض ومنهم بايدن. رفضت بشكل قاطع في 9 يونيو ادعاءهم بأن جشع الشركات يغذي التضخم. كان لوم الشركات الكبرى بأنها تتلاعب بالأسعار أحد أكثر النقاط التي ركزت عليها الإدارة، وعاد الرئيس إليها في 10 يونيو عندما اتهم شركة "إكسون موبيل" وشركات النفط الأخرى باستغلال أسعار البنزين المرتفعة لزيادة أرباحها النهائية.
باتت حاجة يلين للدفاع عن سجلها ملحة مع الكشف عن سيرة ذاتية لها لم تُنشر بعد تدعي أن وزيرة الخزانة أرادت في البداية تقليص خطة الإنقاذ الأميركية لبايدن بسبب مخاوف من أنها قد تزيد التضخم.
تحفظات مكبوتة
يقول أحد الأشخاص المطلعين إن يلين أعربت عن قلقها بشأن حجم أول مبادرة رئيسية لبايدن كرئيس. تجاهل البيت الأبيض مخاوفها وجادل مساعدون من بينهم ديس بأن الحوافز الصغيرة للغاية من شأنها أن تحكم على الولايات المتحدة بانتعاش بطيء وقاسٍ، كما حدث بعد الأزمة المالية.
بعد فشلها بتقديم حجة مقنعة قال الشخص المطلع إن يلين تماشت مع بقية الإدارة، وأبقت تحفظاتها غير علنية. ودحضت هذه الرواية قائلة: "لم أحث أبداً على تبني حزمة إنقاذ أصغر".
يقول اقتصاديون مستقلون ومنهم مارك زاندي من "موديز أناليتكس" (Moody’s Analytics) إن الارتفاع الكبير في أسعار النفط والسلع الأخرى، الذي أشعلته الحرب في أوكرانيا إلى جانب نقص المساكن في أميركا أصبحا الآن من العوامل الرئيسية التي تدفع التضخم.
التنبؤ بالتضخم.. علم كئيب فعلاً
كان اختيار بايدن ليلين في نوفمبر 2020 لتكون أول وزيرة للخزانة قراراً ماهراً، وكان الظن أن أوراق اعتمادها الاقتصادية التي لا تشوبها شائبة ستبقيها فوق المعركة.
لكن وجدت يلين نفسها الآن وسط صراع في واشنطن، حيث أقل ما يقلقها هو أن سعي الاحتياطي الفيدرالي لترويض التضخم سيغرق البلاد في ركود سيرفع معدلات البطالة من أدنى مستوياتها التاريخية التي تحققت في عهد يلين. يرفض مسؤولو الإدارة هذا المنطق كما أن يلين قالت إنه "لا شيء يشير إلى حدوث ركود في الأعمال".
يطالب الديموقراطيون في الكونغرس بأن يفعل البيت الأبيض ما هو أكثر لمواجهة التضخم. لكن بايدن في تعليقاته العامة نقل المسؤولية للاحتياطي الفيدرالي، واعترف للمانحين الديمقراطيين بأنه على الأميركيين "التعايش مع هذا التضخم لفترة من الوقت".
الصعوبة التي تواجهها يلين، التي قالت قبل شهور إن محاربة التضخم هي في الأساس مهمة الاحتياطي الفيدرالي، هو ألّا تُجعل كبش فداء.