تثير سلسلة متناقضة من الأحداث مخاوف من انهيار أسس الحياة الأميركية الحديثة

الأميركيون يؤرقهم التضخم وكثير غيره

صورة تعبيرية حول أرق الأمريكيين من التضخم - المصدر: بلومبرغ
صورة تعبيرية حول أرق الأمريكيين من التضخم - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

استبين روبرت شيلر الحائز على جائزة نوبل مع فريق من طلبة الدراسات العليا أراء مئات الناس في الولايات المتحدة وألمانيا والبرازيل لاعداد ورقة بحثية لصالح المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في 1997 بعنوان "لماذا يكره الناس التضخم؟" لا يعرف عامة الناس كثيراً عن المصطلح الاقتصادي المقصود بالسؤال، إلا أنهم كانوا جميعهم ضده. حتى أن أحد من شملهم الاستبيان استمر يعارضه بشدة بعدما شرح له أحد الباحثين أن التضخم قد يساعد على زيادة راتبه. كتب نيكولاس غريغوري مانكيو، من جامعة "هارفرد" في مراجعته لبحث شيلر: "أظن أن الاختلاف المهم بين الاقتصاديين والناس العاديين هو أن كل منهما يتحدث بلغة".

هذه هي مشكلة التضخم، فقد وجد بحث شيلر أن هذا هو المصطلح الاقتصادي الأكثر استخداماً في جميع الأخبار المنشورة في قاعدة بيانات "نيكسيس" (Nexis)، متخطياً المواضيع التي تشغل المجتمع مثل البطالة والإنتاجية والفقر. بخلاف الحقائق الاقتصادية المحددة بدقة حول التضخم، مثل انخفاض القوة الشرائية للعملة بمرور الوقت وفشل ارتفاع الدخل الاسمي بمواكبة تغيرات الأسعار، فهو مفهوم أقل دقة لدى من تركزت دراستهم على اقتصاد الأسر أكثر من السياسات الكلية.

لسنا متأكدين من كيفية تأثير صدمات الإمدادات بالضبط على السياسة النقدية، لكننا نفهم فطرياً أن أي شيء يُقوض مستويات معيشتنا بطريقة خارجة عن سيطرتنا تماماً هو أمر يخشى. رغم أن القلق الحاد بشأن زيادات الأسعار الشديدة، وهو ما لم تشهده الولايات المتحدة منذ نحو أربعة عقود، بات يهيمن على محادثات الأسر في أنحاء البلاد، إلا أن التضخم ليس وحده ما يزعج الناس.

سلسلة اضطرابات

تثير سلسلة متناقضة من الأحداث مخاوف من انهيار أسس الحياة الأميركية الحديثة. لم تنحسر الجائحة بعد، وهنالك نقص في كل شيء من السيارات الجديدة لحليب الأطفال، وثمة جرائم إطلاق نار عشوائي وانعدام للأمن في المدارس، كما أن أسواق المال في تراجع، زد على ذلك تمرد 6 يناير الذي أثاره الرئيس السابق مواصلاً كذبه حول نزاهة الانتخابات الأميركية. ثم أتى توجه المحكمة العليا نحو إلغاء حقوق المرأة حيال الإنجاب، وحرب أوكرانيا، التي قد تصبح صراعاً نووياً. تركت كل هذه الاضطرابات كثيراً من الأميركيين في حالة من عدم ارتياح تعيد إلى الذاكرة "الضائقة" التي عصفت بالبلاد خلال حقبة جيمي كارتر، عندما احتدم التضخم آخر مرة.

قال جورج لوينستين، أستاذ الاقتصاد وعلم النفس في جامعة "كارنيغي ميلون": "لقد ملئت جيوب الناس عملياً بمال التحفيز في هذه المرحلة لدرجة مفرطة... يخشى الناس كل شيء حين يكونون في خوف. لذا فهم محقون بمخاوفهم بشأن الاقتصاد، لكن مخاوفهم تتضخم بسبب جميع المخاطر الأخرى التي تعرضوا ويتعرضون لها".

يجب أن ننظر إلى حقبة كارتر بحثاً عن أدلة لمعرفة كيف سيتطور هذا الوضع. تأثرت سبعينات القرن الماضي بصدمات النفط ودوامات الأسعار والانقسامات العرقية والأزمات الخارجية كما هو الحال اليوم، لكن الوضع مختلف هذا العام من أوجه عدة، ففي السبعينات تراوح معدل البطالة في الولايات المتحدة في نهايات الأعوام من 4.9% إلى 8.25%، أما راهناً فمعدل البطالة هو عند 3.6% أي أقل مما كان عليه في كل شهر تقريباً على مدى عشرين عاماً مضت. تضاعف معدل التضخم ثلاث مرات تقريباً خلال السبعينات، في حين أن الانفجار الحالي في الأسعار في الولايات المتحدة لم يتجاوز السنتين. شهدت البلاد صفوفاً طويلة في محطات البنزين بسبب نقص الإمدادات في عامي 1973 و1979، أما الآن فهناك كثير من الوقود للراغبين في دفع متوسط أكثر من دولار وربع لكل لتر.

البداية بالوباء

ما الذي يؤرق المستهلكين إذاً؟ ربما بدأ الأميركيون باعتبار استقرار الأسعار والشعور بالرفاهية الناتج عنه أمراً مفروغاً منه. أبقى الاحتياطي الفيدرالي سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية أقرب للصفر لمدة 10 أعوام من 13 خلت منذ أزمة 2008 المالية، وكان التضخم هادئاً في الغالب حتى بدأ الوباء بتعقيد الإمدادات في العام الماضي.

كتب ريتشارد كيرتن، الذي أدار استطلاع رأي المستهلك المؤثر في جامعة "ميشيغان" من عام 1976 حتى وقت سابق من هذا العام، في ورقة بحثية حديثة: "لم يشهد غالبية المستهلكين اليوم تضخم السبعينات المتسارع... فقد عاش معظمهم معدلات تضخم منخفضة للغاية مع ارتفاعات قليلة قصيرة الأجل في أسعار النفط. قد أدى نقص الخبرة هذا لتضخيم ردود أفعالهم تجاه ارتفاع معدلات التضخم السائدة الآن".

أي أن قطرة المطر تبدو فيضاناً في أعين من لم ير السماء تمطر قبلاً.

كان الوباء بمثابة عود ثقاب أشعل فتيل عديد من المشكلات الحالية. لقد أوقف التجارة الدولية فجأة وأعاق سلاسل التوريد، التي سمحت للولايات المتحدة بتعهيد كميات هائلة من من احتياجاتها من المواد الخام والإنتاج الصناعي لمناطق خارج البلاد لتخفيض تكلفة المنتج. أصبحت العولمة شيئاً سلبياً لأن فيروس "كوفيد-19" قلَّص السفر عبر الحدود وأغلق المصانع الآسيوية التي تصنع المكونات الرئيسية مثل الرقائق وشلَّ سلاسل التوريد. كما أدى نزوح ملايين الأشخاص من سوق العمل لنقص كبير في العمالة، وهو سبب آخر لعدم عودة إنتاج عديد من السلع لطبيعته بسرعة أو عودتها لنفس السعر. ظهرت الأسعار المرتفعة فجأة في حديث الناس عندما عزز الغزو الروسي لأوكرانيا السعر العالمي للطاقة وهي سلعة أساسية تؤثر على تكلفة كل سلعة أو خدمة تقريباً.

دوامة أجور

قال كيرتن في ورقته البحثية إن هذه الزيادات الكبيرة والمفاجئة في الأسعار يمكن أن يكون لها تأثير دائم وخطير على توقعات المستهلكين. طالب العمال بأجور أعلى لتعويض تراجع القوة الشرائية في ظل ارتفاع الأسعار في السبعينات، وقد دفع ذلك الشركات لرفع الأسعار أكثر من ذي قبل، ما أثار مطالبات برواتب أكبر. أرّقت دوامة الأجور الناتجة عن ذلك إدارات فورد وكارتر وريغان.

قال كيرتن إن الوضع الحالي لارتفاع الأسعار في ظل ضيق أسواق العمل هو تهيئة للمستهلكين لاعتماد نفس نوع العقلية حيال التضخم، وهي الشراء قبل أن ترتفع أسعار الأشياء. بمجرد استقرار هذا التفكير في توقعات المستهلك سيصعب عكسه. تطلب هذا الأمر وجود بول فولكر رئيساً للاحتياطي الفيدرالي ورفع سعر الفائدة على الأموال الفيدرالية إلى 21% لكسر تلك الحلقة المفرغة على حساب الاقتصاد. بلغت نسبة البطالة 10% خلال الركود بين 1980 و1982.

تعد ذكريات تلك الحقبة أحد الأسباب التي دفعت كثيرين في وول ستريت للقلق بشأن الخطوة التالية لرئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول. كان الجميع يعلم أن أسعار الفائدة لا يمكن أن تبقى عند مستويات قريبة من الصفر إلى الأبد، لكن الفترة الممتدة من الأموال السهلة من الاحتياطي الفيدرالي جعلت كثيرين غير مستعدين للعودة إلى الحياة الطبيعية، بل لم يعد لديهم فكرة واضحة عن المعنى الطبيعي.

لم يتفاعل الناس تاريخياً بشكل جيد مع حالات عدم اليقين الشديدة. يُعتقد أن شعب الأنكا مثلاً اتّجه للقرابين البشرية حين شهد كسوفاً للشمس لأنهم لم يتمكنوا من فهمه. لن تداني استجابتنا المعاصرة ذلك، لكن سيكون هناك ضغط هائل على صانعي السياسات المالية والسياسية على حد سواء لاستعادة الاستقرار.

متاعب بايدن

سيكون ذلك صعباً بشكل خاص على الرئيس جو بايدن، الذي تولى منصبه جزئياً لأن عديداً من الناخبين كانوا يأملون بأن يؤذن ذلك ببداية عودة حكومة منظمة يمكن التنبؤ بها بعد سنوات ترامب المضطربة التي خرقت المعايير. لكن عدم القدرة على تحويل الأفكار الكبيرة لتشريعات واستمرار تقاطر الأزمات مثل الاستجابة لـ"كوفيد" ومعارضة فرضه للكمامات، والتضخم الآن، أثروا على مصداقية الرئيس. لا يرضى أكثر من نصف الأميركيين عن أداء الرئيس، وفقاً لآخر استطلاعات "رويترز/ إبسوس" (Reuters/Ipsos) وجامعة "راسموسن/ بلس" (Rasmussen/Pulse)، ومؤسسة "مورنينغ كونسلت" (Morning Consult). يكمن الخطر بالنسبة لبايدن في أنه إذا لم يُر كجزء من الحل فقد يرى كجزء من المشكلة، وهو درس تعلمه كارتر حين سعيه لولاية ثانية في انتخابات 1980.

هل يستطيع أي صانع سياسة أن يعالج القلق المتزايد فيما تضرب الأميركيين مشاكل عديدة في وقت واحد؟ هذا غير محتمل لأن عديد من هذه القضايا قد اختلطت بطريقة ما، وغالباً بصورة خاطئة، مع خوف الأميركيين من التضخم بشكل عام. قد يضع الجسر الجوي الحكومي حليب الأطفال إلى أرفف بعض متاجر "تارغت"، لكن العقوبات الروسية ستبقي سعر البنزين مرتفعاً جداً. قد تسمح إعادة فتح مصانع الرقائق في آسيا لشركات صناعة السيارات بزيادة الإنتاج، ومع ذلك فإن النقص في عدد الموظفين قد يعني إغلاق الصيدليات المحلية مبكراً عند حاجتك إلى وصفة طبية. لسوء الحظ، فإن عدم القدرة على إظهار تقدم ملحوظ ضد التحديات المتشابكة للتضخم في أميركا قد يصبح هو الوضع الطبيعي الجديد.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك