تسبب وباء "كوفيد-19" بمغادرة ملايين لمكاتبهم في المدن الكبيرة ليعملوا من المنزل في مجتمعات أصغر، لكن الهجرة الجماعية أصبحت كابوساً للشركات التي تسعى لإيجاد سُبل عادلة لتعويض الموظفين الذين باتوا يمسكون بالزمام مع انتشار الوظائف التي يسهل إنجاز مهامها عن بُعد في سوق عمل ضيق.
قال دانيال يانيس، وهو المؤسس المشارك والرئيس التنفيذي لشركة "تشيكر" (Checkr) في سان فرانسيسكو التي تعنى بالتتحقق من خلفية المتقدمين لشغل وظائف: "إنها إحدى أصعب مشاكل العمل التي ينبغي حلها الآن... تبنينا تماماً العمل عن بُعد، لكن كيف يمكنك التكيف مع كل هذه المواقع؟". يعيش حوالي 40% من موظفي "تشيكر" على بعد 80 كيلومتراً أو أكثر من أى من مكاتبها الستة.
تحدد الشركات الكبرى تقليدياً الأجور استناداً لمجموعة إرشادات مشتركة، مثل تكلفة توظيف العمالة الماهرة في منطقة معينة، وقد خفّضت أجور العمال الذين انتقلوا من سان فرانسيسكو، على سبيل المثال، إلى بويسي بولاية أيداهو 25%. كان ذلك منطقياً حتى مارس 2020، حين فرّ الموظفون خوفاً من الوباء وقرروا الاستمتاع بنمط حياة العمل عن بُعد.
أظهر مسح أجرته منصة العمل المستقل "أب ورك" (Upwork) أن العمل عن بُعد تسبب بانتقال حوالي 2.4% من الأمريكيين، أو 4.9 مليون شخص، منذ 2020. أوضح مسح أخير للمنصة أن الهجرة ستستمر، حيث يخطط واحداً من كل عشرة أمريكيين تقريباً أن يعمل عن بُعد.
ازدياد العرض
تضاعفت إعلانات الوظائف عن بُعد الشهرية ثلاث مرات في الولايات المتحدة منذ يناير 2020، حسب "تكنا" (Tecna)، وهي اتحاد لصناعة التقنية، وتضاعفت بأكثر من خمس مرات للوظائف التقنية مثل مطوري البرمجيات.
يعارض العمال الآن تخفيضات الأجور المطبقة تلقائياً استناداً إلى مواقعهم بحجة أن المناطق التي كانت تعد نائية في السابق باتت أكثر كلفة. اضطرت الشركات لتحسين درجات الأجور وتوحيدها وسط ندرة المواهب وتزايد الاستقالات بشكل قياسي، فيما أزالتها بعض الشركات كلياً واختارت أخرى تثبيت أجور العمال الذين انتقلوا لمناطق ميسورة التكلفة أو رفعها ببطء.
مهما كانت استراتيجية المنظمات تكثُر التساؤلات، بما فيها الاعتبارات الضريبية ومخاوف أكبر بشأن معنى الأجر العادل الواقعي. قالت أليسيا سكوت ويرز، مديرة استراتيجية محتوى التعويضات في "ورلد أت ورك" (WorldatWork)، وهي منظمة غير ربحية توفر تعليماً وشهادات بمجال الموارد البشرية والتعويضات: "لم يكن أحد مستعداً لمثل هذا التحول".
يؤدي زيادات عدد درجات الأجور لمشكلات إدارية ناهيك عن مخاطر تدفع لفرار العمال، لأن كثيراً منهم لن يقبل ببساطة تخفيضات الأجور مجدداً. لذا فإن أحد الأساليب المتبعة تتلخص في دمج عدد كبير من مستويات أجور مكان ما في ثلاث فئات عامة من الأجور. يُسهل هذا التقسيم على المسؤولين الإدارة، لكن بعض المتخصصين، مثل المبرمجين، يحصلون على أجور عالية مهما كان مكان معيشتهم.
رفض الأجور المتدنية
قال بيل ديكسون، العضو المنتدب لدى شركة استشارات التعويضات "بيرل ماير" (Pearl Meyer): "أعادت كثير من شركات التقنية النظر في خططها لدفع أجور أقل في بيئات منخفضة التكلفة أعلنتها في البداية... المواهب في قطاع التقنية حيوية للغاية وكثيرة التنقل، فالناس ينتقلون حيثما يريدون ولن يقبلوا بأجور أقل".
تغير شركات التقنية المنخرطة في معارك لاستقطاب المواهب سياساتها سريعاً. انتقلت شركة البرمجيات السحابية "أوكتا"، على سبيل المثال، من أربع مستويات للأجور إلى اثنين فقط في نوفمبر، بينما ألغت شركة "إير بي إن بي" تعديلات التعويضات المالية المستندة إلى مكان تواجد العمال الأمريكيين.
طورت منصة "سورس غراف" (Sourcegraph)، التي تساعد المطورين بالبحث عن الرموز وإصلاحها، هذا النهج بشكل أكثر، فقد تعهدت بدفع نفس الأجر الأساسي لنفس الدور الوظيفي حول العالم. رغم أن هذه الخطوة تزيد بالتأكيد من تكاليف التعويضات، وقد تضع العاملين تحت رحمة العملات الأجنبية المتقلبة. قال رئيسها التنفيذي ومؤسسها بالشراكة كوين سلاك إن الأمر يستحق العناء لاستقطاب أفضل الأشخاص.
قال ديفيد باكماستر، مصمم برامج الأجور لمشغلين كبار مثل "نايكي، إن القضاء على تعديلات الأجور القائمة على أماكن تواجد الموظفين لن تجدي نفعاً سوى للشركات التي تتبع سياسة العمل من أي مكان.
مقارنات التكاليف
إذا ظل بعض الموظفين عالقين في مكتب بمدينة باهظة الثمن مثل نيويورك، فإنهم سيشعرون بالاستياء من زملائهم القادرين على تلقي رواتب نيويورك فيما يقيمون في أورلاندو منخفضة التكلفة، حسب باكماستر، الذي يعمل الآن لدى مطور ألعاب الهواتف الذكية "وايلد لايف ستوديوز" (Wildlife Studios).
تعاني الشركات التي يتناثر موظفوها في أرجاء عديدة مشقة حين تحاول معرفة أماكن تواجد الجميع في وقت ما. كما يحتاج مديرو الموارد البشرية لتصفح شبكة قوانين الضرائب واللوائح الأخرى في كل موقع لفريق العمل عن بُعد. تراجعت نسبة خبراء الموارد البشرية الواثقين من أنهم يعرفون مكان عمل غالبية موظفيهم من 60% في 2021 إلى 46% هذا العام، حسب منصة "توبيا" (Topia) التي تساعد الشركات على إدارة القوى العاملة المنتشرة حول العالم.
قالت سوزان أودوم، خبيرة التعويضات بشركة المحاماة "جاكسون لويس" (Jackson Lewis): "ينبغي أخذ سلسلة كاملة من الدومينو في الاعتبار حين يتحرك الناس ويعملون بحرية".
أسهمت هذه التحديات في خلق فرص للشركات. فقد ظهرت شركات ناشئة مثل "ديل" (Deel) لإدارة كشوف أجور العاملين عن بُعد. تجمع منصة "رادفورد" (Radford)، وهي شركة استقطاب كفاءات تابعة لشركة "إيون" (Aon)، معلومات الأجور من 5500 شركة في قاعدة بيانات أجور عالمية تستخدمها الشركات كدليل إرشادي كما تقدم أدوات "تحليل موقع" جديدة لمساعدة الشركات على تحديد أجور العمال المنتشرين بالعالم.
أشارت "ورلد أت ورك" إلى أن نحو 25% من الشركات لم تعد تميز الأجور اعتماداً على الجغرافيا مقارنة مع 19% العام الماضي. بيد أن أوليفر مودير، الشريك المساعد في "رادفورد"، قال إن هذه الممارسة لن تشيع وإن الشركات ستلجأ لاعتماد مناطق أجور واسعة النطاق وتخلق طرقاً لموائمة أجر العامل المهاجر مع معايير محلية بمرور الوقت أو أن تعالج كل حالة على حدة.
بيّن جيك روزنفيلد، أستاذ علم الاجتماع في جامعة واشنطن بسانت لويس، الذي يركز بحثه على تفاوت الأجور: "ليس هناك إجابة موضوعية لكيفية هيكلة أجور العاملين عن بُعد نظراً للافتقار لإجابة توضح كيفية تنظيم الهيكلة عموماً".
يطلب العمال أن يلتزم أرباب العمل الشفافية حول كيفية تحديد الأجور، لكن روزنفيلد قال: "إن تمكنت من شرح سبب ما تفعل، ربما يضر ذلك بمدى التزامك بحسن النية".