اضطرار "الاحتياطي الفيدرالي" إلى الاستمرار بالكبح في سياسته إما يكسر التضخم وإما يقصم ظهر الاقتصاد

موجة الاستثمار ربما انحسرت لكن الأسواق تستعيد منطقيتها

متداولون في بورصة نيويورك في 9 مارس 2020، حين تراجعت الأسهم وسط مخاوف متزايدة بشأن فيروس كورونا - المصدر: بلومبرغ
متداولون في بورصة نيويورك في 9 مارس 2020، حين تراجعت الأسهم وسط مخاوف متزايدة بشأن فيروس كورونا - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

إنّ نظر المرء إلى حساب استثماراته في وقتنا هذا يرجِّح أن يجفل ويحجم عن توظيف مزيد من المال.

يشهد التاريخ أن فترات الذعر الشديدة في "وول ستريت" تُنتِج في نهاية المطاف فرص شراء جيدة، وهو نمط اعتمد عليه جيل مستثمرين مستعدّين للشراء حين تتهاوى الأسعار إبان موجات التخارج من أسواق الأسهم والائتمان الرئيسية. يُعَدّ انخفاض أسعار الأصول الذي حدث إبان الوباء في مطلع 2020 من أكثر الانخفاضات المستقرة في الذاكرة وأقصرها أجلاً، وهو نقطة بداية جيدة لينظر فيها المستثمرون الذين يحاولون فهم ما يعكر صفو الأسواق في يومنا هذا.

لا يصعب تحديد ما يثير تقلبات السوق ويضرب أسعار الأصول. بدأ مدّ التحفيز المالي والنقدي المريح الذي انطلق في 2020 بالتراجع الآن، فيما تحاول البنوك المركزية مواجهة أعلى وتيرة تضخم في أربعة عقود. كان التحول إلى التشدد لدى "الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي" صارخاً، إذ رفع هذا الشهر الفائدة بنصف نقطة مئوية لأول مرة منذ 20 عاماً، وتلك ليست إلا بداية. سيبدأ "الاحتياطي الفيدرالي" بتقليص محفظة قيمتها 9 تريليونات دولار في يونيو، تكدست جرّاء شراء السندات للمساعدة بالحفاظ على انخفاض الفائدة.

يجب ألا نفاجأ بمدى خسائر الأسهم والسندات هذا العام، لأن فئتَي الأصول استفتحتا 2022 عند مستويات مرتفعة وكأنما اقترضتا ارتفاعاتهما من أداء مستقبليّ قبل أوانه جرّاء شدة التحفيز. قد تكون إعادة ضبط الأسعار موضع ترحيب، خصوصاً إن كنت مستثمراً شاباً تبحث عن عوائد أفضل على المدى الطويل. لكن دعونا لا نستبِق الأحداث، فإن "وول ستريت" تشتهر بأنها تسمح بالهبوط عدة مستويات دفعة واحدة لتصبح الأسعار رخيصة جداً قبل أن تعتمد ذلك المستوى حضيضاً.

سوق هابطة؟

ترتفع عائدات السندات فيما انخفضت أصول في أسواق الأسهم والائتمان كانت مرغوبة لدى متعاملي التجزئة -ومنها مثلاً لا حصراً شركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة والتشفير وأسهم التقنية الأمريكية العملاقة الخمسة وأسهم الميم- بشكل ملحوظ هذا العام بسبب التضخم وصدمة معدلات الفائدة.

تلقت أسهم التقنية بعض أكبر الضربات فيما تتسع خسائر الأسهم. انخفض مؤشر "ستاندرد أند بورز 500" بنسبة 18% في 11 مايو من أعلى مستوى له على الإطلاق سجله في 3 يناير، مدانياً التراجع بنسبة 20%، الذي يشير الى تحوّل السوق الى هابطة، كما يتطابق تقريباً مع انخفاض بنحو 20% بين الذروة والحضيض الذي شُهِد في 2018 لدى رفع "الاحتياطي الفيدرالي" لأسعار الفائدة. كان التضخم حينئذ يتهادى حول 2%. إذاً هناك مسألة أخرى مثيرة للقلق، وهي أن الأسهم لم تشهد حتى الآن نفس التقلبات التي هزت سوق السندات، وهي إشارة إلى أن الأسهم لم تبلغ حضيضها بعد.

صناديق مؤشرات التقلب الشهيرة تعود إلى "وول ستريت" بعد أسبوع عاصف

كانت سوق السندات هي التي تحدد الإيقاع، خصوصاً عبر مستوى العائد لأجل 10 سنوات الذي يؤثر في تكاليف الاقتراض لأصحاب المنازل والشركات كما لو أنه نجم القطب من حيث تحديده الاتجاه. لا يقتصر الأمر على الارتفاع الحادّ في تكاليف اقتراض الأُسَر والشركات على المدى الطويل، لكن الحالة المتفائلة بأن امتلاك الأسهم هو الطريقة الوحيدة لكسب المال تفقد جاذبيتها أيضاً حين تغدو عائدات السندات مغرية فجأة. السؤال المُلِحّ هو ما إذا كان "الاحتياطي الفيدرالي" سيرى أن تضاعف عائد السندات لأجل 10 سنوات هذا العام إلى ما يزيد على 3% يكفي لكبح جماح سوقَي الإسكان والعمل. لم تهدأ الأسعار حتى الآن، فقد ارتفع مؤشر أسعار المستهلك 8.3% في أبريل مقارنة مع العام السابق.

هبوط سلس

يحاول "الاحتياطي الفيدرالي" إدارة هبوط سلس يحفظ استمرار النمو ويحدّ من الأثر في سوق العمل، على أمل أن يستقر التضخم بمجرد حل مشكلات سلاسل التوريد العالمية. تعتمد قدرة "الاحتياطي الفيدرالي" في تحقيق هذه النتيجة المثالية على مدى قرب بلوغ التضخم ذروته وعلى مسار انخفاضه وعلى ما ينتج من تداعيات على الاقتصاد، وكل تلك تطورات أقل ما يقال فيها أنها غير مضمونة.

أحد النقاشات الجارية هو أن تشديد الظروف المالية في اقتصاد مثقل بالديون سيؤدي حتماً إلى إبطاء النمو، كما كانت الحال في أواخر 2018، وبالتالي يوقف الاتجاه المتصاعد في عوائد سندات الخزانة. من العوامل التي تغذي "مخاوف النمو" هذه المرة احتمال أن يؤدي تضخم الغذاء والطاقة إلى خفض الإنفاق الاستهلاكي. قد يؤدي ذلك إلى خفض أسعار الفائدة طويلة الأجل ودعم حجة شراء الأسهم والائتمان عند مستويات منخفضة.

لكن قد يستمر التضخم لفترة أطول، ويرجع ذلك جزئياً إلى ارتفاع الإيجارات في سوق الإسكان الأمريكية الملتهبة، فيبقي المستثمرين والاقتصاد في حال تأهب. قال روب أرنوت، مؤسس شركة إدارة الأصول العالمية "ريسيرش أفيليتس" (Research Affiliates): "التضخم ليس مؤقتاً... الاحتياطي الفيدرالي على مسار تعطيل نمو الاقتصاد".

كتبت غارجي تشودري، رئيسة استراتيجية استثمار "آي شيرز" (iShares) للأمريكتين لدى شركة "بلاك روك"، في مذكرة حديثة أنه في ظل هذه الظروف فإن الأسهم التي تختار بناءً على توزيعات الأرباح هي الأسهم التي ينبغي حيازتها. بيّنت أن هذه الأسهم "مصدر جودة بديل يتيح أداءً يفوق عموم السوق وعائداً جذاباً كدخل، وتنوعاً في الانكشاف على القطاعات المستفيدة من النظام الكلي الحالي الذي يرتفع فيه التضخم ويتباطأ النمو، بما فيها أسهم الرعاية الصحية والمرافق والطاقة".

تشكك

من بين ما يُستنتج من تقلب السوق أن ثمة تشكيكاً بأن "الاحتياطي الفيدرالي" والبنوك المركزية الأخرى يمكنها أن تدير هبوطاً هادئاً. كما أن الانفصال الأساسي عن الماضي من أحد العوامل الضاغطة على معنويات المستثمرين، وتحديداً اضطرار "الاحتياطي الفيدرالي" إلى الاستمرار بالكبح، إما يكسر التضخم وإما يقصم ظهر الاقتصاد. قد يحتاج جيل من المستثمرين المهيئين للشراء عند الهبوط لأن يتكيفوا مع عدم الاستناد إلى البنك المركزي. بعدما تجاهل ارتفاع أسعار الأصول العالية لسنوات فيما كان التضخم في سبات، يبدو أن الاحتياطي الفيدرالي لديه خطة جديدة، وهي تجاهل انخفاض أسعار الأصول، لأن هذه هي الأسعار المطلوبة لتشديد الأوضاع المالية وخفض التضخم.

كيف ينبغي أن يجتاز المستثمرون إحدى أكثر الفترات صعوبة منذ عقود، خصوصاً عندما لا تمنع إعادة ضبط الأسواق هذا العام وقوع ما هو أكبر من ذلك؟

قال ديفيد جيرو، رئيس استراتيجية الاستثمار في شركة "تي روي برايس" (T. Rowe Price): "يصعب للغاية توقع ما سيحدث غداً أو في الأسبوع أو الربع المقبلين... ما وجدته هو أن التصحيح في السوق كما رأينا هذا العام هو فرصة للشراء للسنوات الثلاث إلى الخمس المقبلة". بيّن جيرو أنه في حال توجّه أسواق الأسهم والسندات لانخفاض، سيخصص مديرو "تي روي برايس" مزيداً من المال للاستثمار لأن "الشعور حيال العوائد المستقبلية سيكون أفضل مما نشعر به اليوم".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك