لطالما كان نصُب الحرب السوفييتي التذكاري القابع في حديقة تيرغارتن في برلين مثيراً للجدل، خصوصاً مع خلفية الرعب الذي عاناه المدنيون فيما خبت جذوة الحرب العالمية الثانية. بُنيَ النصب وقوامه مدافع ودبابات "تي-34" تخليداً لذكرى قتلى الجيش الأحمر في معركة برلين في 1945، لكنه يذكّر الآن بأهوال قوات روسيا في أوكرانيا.
وُضعت أكاليل زهور على النصُب التذكاري في 9 مايو احتفالاً بذكرى ما يسميه الروس "يوم النصر" منذ 77 عاماً، لكن الشعور بالسلام أو الكرامة كاد يكون منعدماً. حظرت سلطات برلين رفع أعلام روسيا وأوكرانيا لتجنب إثارة الجدل لدى الجانبين، وبدت أزهار القرنفل الحمراء المتناثرة على الدبابات وكأنها ترمز إلى تمرد.
"ثمن هتلر".. كيف أصبحت ألمانيا الحلقة الأضعف أوروبياً في الأزمة الأوكرانية؟
أبرز حضور الشرطة الكثيف قرب بوابة براندنبورغ انقلاب علاقة ألمانيا المعقدة مع روسيا رأساً على عقب جرّاء أحدث حرب تعصف بأوروبا.
لم تكن سياسة التعاطي مع الجوار الشرقي المعروفة باسم "سياسة الشرق" الشيء الوحيد الذي تداعى، بل انهار معها إجماع ما بعد الحرب في برلين برمّته إلى حدّ كبير، وتجتهد الحكومة الألمانية للتكيف مع الواقع الجديد، لكن لا شك أن طريقة حل المشكلة ستكون لها تفاعلاتها في كب أنحاء أوروبا.
أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس تحولاً جذرياً في سياسات بلاده بعد ثلاثة أيام فقط من إصدار الرئيس فلاديمير بوتين أمره بغزو أوكرانيا بادّعاء "اجتثاث النازية". يعني هذا إنهاء اعتماد ألمانيا منذ عقود على منتجات الطاقة الروسية، وتسريع التحول إلى الطاقة النظيفة، وإلغاء سياسة منع نقل الأسلحة إلى مناطق الصراعات، وإنهاء سنوات من شح الإنفاق العسكري، وهي طفرة ستجعلها أكبر منفق على العسكرة في حلف الناتو بعد الولايات المتحدة.
تقبُّل التداعيات
قد ترقى هذه الخطوات بمجموعها إلى إلغاء للأساس السياسي الذي قامت عليه الحكومات الألمانية المتعاقبة للشروع في حقبة جديدة. ظهرت رغبة المستشار الديمقراطي الاجتماعي وائتلافه بذلك مراراً عبر استعدادهم لقبول التداعيات الاقتصادية لفرض عقوبات صارمة على روسيا، ودعمهم لجهود الاتحاد الأوروبي في ذلك، والتزامهم مدّ كييف بالأسلحة الثقيلة التي تطلبها في معركتها ضد قوات بوتين الغازية.
قالت كونستانز شتيلزنمولر، خبيرة العلاقات الأوروبية وزميلة أولى في معهد بروكينغز في واشنطن، التي تشغل كرسي فريتز شتيرن: "هذا اضطراب سيستغرق أعواماً، ويفرض تغييراً فعلياً، وسيستمر بفرض تغيير... مشكلة تنفيذ التغيير هي أن النظام الألماني مصمم لمنع التغيير المفاجئ".
المستشار الألماني الجديد في اختبار مهمّ مع تصاعد أزمة أوكرانيا
بينما تكثف برلين ردها على الغزو، لم يعُد تحالف شولتس الثلاثي معترضاً على حظر الاتحاد الأوروبي لواردات النفط الروسي، فضلاً عن أنه يعمل على خفض واردات الغاز بحلول 2024 أو قبل ذلك. كما أن ألمانيا تزوّد أوكرانيا بدبابات مضادة للطائرات وأنظمة مدفعية سريعة، وقد أيد البرلمان اقتراحاً يدعو الحكومة لتوفير مزيد من الأسلحة الثقيلة.
أظهر تعقب الدعم الحكومي المعلن لأوكرانيا لدى معهد كيل للاقتصاد العالمي أن التزامات ألمانيا وبولندا ارتفعت بأكثر مما زادته بقية الدول المانحة الـ31 في شهر الحرب الثاني.
يسود شعور بأن ألمانيا ينبغي أن تساعد أوكرانيا، لكن هذا لم يمنع نبش أسئلة قديمة متعلقة بالذنب الألماني والمساءلة والانتصاف، ومناقشتها علناً. ثمة قضايا أخرى بارزة، مثل سياسة ألمانيا للمصالحة وبناء الجسور، ناهيك بمد خطوط الأنابيب مع موسكو خلال الحرب الباردة وما بعدها، التي بات بعض الناس يرونها سبباً في تمكين عدوان بوتين.
فشل المحاولات
قدّم رئيس ألمانيا فرانك فالتر شتاينماير، الذي سبق أن كان رئيس طاقم غيرهارد شرودر، وهو مستشار ديمقراطي اشتراكي سابق انقلب مدافعاً عن استيراد الغاز الروسي، اعترافاً غير مسبوق في 5 أبريل، فقد قال لمحطة البث التليفزيونية العامة "زد دي إف" (ZDF) إنّ المحاولات السابقة للتعامل مع بوتين فشلت بوضوح، وإنّ تحذيرات حلفاء ألمانيا في أوروبا الشرقية تُجُوهِلَت.
تلتزم المستشارة السابقة أنغيلا ميركل، التي كرست وقتاً لأوكرانيا أكثر من أي زعيم غربي آخر، الصمت في ظل مقالات متداولة في وسائل الإعلام البريطانية والأمريكية تحطم إرثها.
هل يستطيع الناتو وأوروبا التعويل على ألمانيا بمواجهة روسيا؟
قال تيموثي سنايدر، أستاذ التاريخ بجامعة ييل ومؤلف كتاب "بلاد الدم: أوروبا بين هتلر وستالين" (Bloodlands: Europe between Hitler and Stalin)، في تغريدة في أواخر أبريل: "حاضر الألمان بالأوكرانيين حول الفاشية لمدة ثلاثين عاماً... عندما وصلت الفاشية بالفعل موّلها الألمان ومات أوكرانيون وهم يحاربونها".
تُعَدّ هذه الأوقات محيرة بالنسبة إلى كثير من الألمان، خصوصاً في ظل مواجهة إدانة شديدة واحتمالية التغيير الجذري. تبدو الحرب قريبة من برلين وغير منطقية في بلد أمضى العقود السبعة الماضية في مواجهة إرث الفظائع التي ارتكبتها في حقول أوروبا الشرقية، التي تشهد مجدداً معارك بالدبابات والمدفعية.
يعتقد بعض المنغمسين في الحركة المناهضة للحرب أن برلين أخطأت حين دعمت أوكرانيا بأسلحة قد تجعل ألمانيا طرفاً في صراع نووي. حذّر الفيلسوف يورغن هابرماس في مقال نشرته صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" في 28 أبريل من مخاطر قد تقود إلى نشوب حرب عالمية.
عدم ترحاب
يتعين على الألمان التكيف مع واقع بديل. يلقى رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، الذي قاد بلاده في رحلة الخروج من الاتحاد الأوروبي ويواجه انقساماً عميقاً داخل البلاد، ترحيباً في كييف، وهو ما لم يلقَه رئيسهم على ما يبدو، إلى أن عالج اتصال هاتفي مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في 5 مايو "توترات الماضي". قيل للألمان بعد إعادة انتخاب إيمانويل ماكرون إنّ باريس لا برلين هي التي تقود أوروبا، رغم استمرار التحديات السياسية المحلية التي يواجهها الرئيس الفرنسي.
تحوَّل مركز السلطة الأخلاقية شرقاً إلى دول مثل دول البلطيق الأكثر تشدداً بشأن التعامل مع روسيا، واستقبلت الحكومة البولندية، التي رفضت قبول اللاجئين من الحرب الأهلية في سوريا، أكثر من مليوني أوكراني.
ألمانيا ستوقف واردات النفط الروسية بصرف النظر عن عقوبات الاتحاد الأوروبي
يُعَدّ النفاق أحد التهم الموجهة إلى برلين، التي تقول إنها "لن تعاود ذلك أبداً"، فيما تتردد باستخدام قوّتها لمواجهة ما يسميه زيلينسكي إبادة جماعية، لكن فشلها بأن تقود هو السبب الأساسي في تعرضها للنقد. لم يساعد حذر وأسلوب تواصل شولتس الفطري في الدفاع عن حجة ألمانيا. دعاه زيلينسكي في خطاب ألقاه أمام البرلمان الألماني في 17 مارس "لإعطاء ألمانيا الدور القيادي الذي تستحقه".
تشويه شائن
اتخذ شولتس أخيراً موقفاً هجومياً حين اختار يوم 8 مايو، وهو الذكرى السنوية لاستسلام ألمانيا النازية في 1945، لإلقاء خطاب متلفز للأمة يتهم خلاله مساواة بوتين للحرب على أوكرانيا بالنصر على النازيين باعتبارها "تشويهاً شائناً"، وحث على حمل ألمانيا مسؤولية تاريخية في "الدفاع عن العدالة والحرية". استضاف شولتس ماكرون في برلين في اليوم التالي بعدما تحدث بوتين في موكب يوم النصر الروسي بموسكو لاستعراض هدف البلدين المشترك في مواجهة العدوان الروسي.
ألمانيا قادرة على وقف شراء الغاز الروسي
نمت ألمانيا منذ إعادة توحيدها لتصبح أكبر اقتصاد في أوروبا وأكثر بلادها عديداً، وإن كان ذلك أبطأ مما يرضي بعض شعبها. يتعين عليها الآن تحمُّل تحديات ومسؤوليات غير مألوفة ستنتج حتماً عن كونها قوة عسكرية بارزة في أوروبا، ناهيك بانتمائها إلى حلف الناتو وكذلك الاتحاد الأوروبي.
يصعب على كثير من الألمان استيعاب هذا الاحتمال، الذي كان من شأنه أن يثير مخاوف دول الجوار، خصوصاً الشرقية منها، لكن العدوان الروسي غير ذلك. قالت ستيلزينمولر من "بروكينغز": "لا أعتقد أننا نواجه أي مشكلة بأن نصبح قوة صلبة فيما نشاهد ما يفعله الروس في أوكرانيا"، كما أن التغيير في ألمانيا "لم يكن أقل من مذهل".