انتقل مئات الموظفين إلى مقرّ شركة " أليانس بيرنستين" (AllianceBernstein) الجديد في وسط مدينة ناشفيل، حيث باشروا بالتعرف على الصفوف الرياضية التي يقدّمها البرج من اليوغا إلى صفوف ركوب الدراجات الثابتة، فيما يستكشفون قاعات الاجتماعات المصغّرة، وشاي "كومبوشا" الذي ينهمر مباشرة من الصنابير.
وفي الخارج، تنبعث رائحة جعة "بادوايزر"، وصلصة أضلع اللحم من مطعم وحانة "ريبيز" المجاورة، فيما تجتمع الحانات الكلاسيكية، مع الحانات العصرية المتنقلة في مقطورات، لترسم معاً صورة المدينة التي تعدّ قبلة سهرات العزوبية في الجنوب الأميركي، حيث يغني الموسيقيون عن المشاكل التي تسبّبها مشروبات الويسكي والنبيذ والجعّة، فيما يطلب الزبائن المزيد منها.
هذا ما قد يبدو عليه المشهد حين تقرر شركة في "وول ستريت" الانتقال إلى موقع أقل تكلفة. عن ذلك الأمر قالت مديرة العمليات في الشركة، كايت بورك عندما كانت تقف في المساحة الترفيهية المطلة على شارع برودواي في ناشفيل: "في المساء، هناك الكثير من هذه الأمور كما تتخيلون".
العالم يحتاج إلى تشييد مزيد من المباني المناسبة للجميع
التخلي عن نيويورك
قبل أربع سنوات، أحدثت الشركة الاستثمارية الأسطورية خضة في القطاع المالي وفي صفوف طاقم عملها حين أعلنت عزمها التخلي عن مقرّها في نيويورك، بعد مضي خمسة عقود على وجودها هناك، والانتقال إلى ولاية تينيسي. مما يعنى نقل أكثر من ألف موظف إلى المقرّ الجديد، وشكّل الحادث مثالاً هائلاً حول ما يقع حين يقرر عملاق استثماري اقتلاع جذوره بهدف خفض التكلفة.
لاقت هجرة شركة الإدارة المالية التي تبلغ قيمتها 685 مليار دولار استقبالاً حافلاً في مقرها الجديد، ومهدت لتبادل ثقافي، إلا أنَّ هذه الخطوة رافقها أيضاً امتعاض الطاقم، ثم مواجهة الوباء، فضلاً عن الإعصار الذي ضرب المنطقة.
ردود فعل مختلفة
أعرب الكثير من الموظفين الذي حضروا افتتاح المبنى هذا الشهر عن وقوعهم في حب العروض الموسيقية المباشرة في ناشفيل وفرقها الرياضية. ومع توفر مدارس عامة جيدة، وانخفاض تكلفة المعيشة؛ أصبحوا يشعرون أنَّهم أكثر ثراء. غير أنَّ آخرين، طلبوا عدم الكشف عن أسمائهم بسبب أنه من غير المصرح لهم الحديث عن عملية الانتقال، وصفوا ما جرى بالمُعقّد والمؤلم، كما أنَّ بعضهم قد تذمر من عدم وفاء الإدارة بوعودها، وأنهم لم يحصلوا على أي تطوير على الصعيد المهني.
تحدّث أحدهم عن الانزعاج الذي يعاني منه نتيجة مغادرة مدينة نيويورك ذات الصبغة المتنوعة والليبرالية نحو ولاية جمهورية بالغالب، تفرض سياسات مختلفة تماماً فيما خصّ الالتزام بارتداء الأقنعة الطبيعية. بالإضافة إلى مسائل مثل التعليم حول الاختلافات العرقية في المدارس، وحق الإجهاض للنساء (في حال حصل المتوقَّع، ونقدت المحكمة الأميركية العليا القرار الصادر عام 1973 الخاص بحق الإجهاض على امتداد البلاد؛ فإنَّ تينيسي ستكون واحدة من عشرين ولاية تحظر الإجهاض أو تفرض قيوداً عليه).
الوباء جعل المدن أكثر هدوءاً.. لكنه زادها توتراً
كذلك، تحدث آخرون عن مغادرة بعض الموظفين بسبب الإحباط والمشاكل في التوظيف. كما أنَّ عدداً من كبار المديرين التنفيذيين الذين قادوا عملية الانتقال تركوا الشركة.لكن من ناحية التكلفة، فقد كان رهان "األيانس بيرنستين" مربحاً، إذ تتوقَّع الشركة توفير ما يصل إلى 80 مليون دولار سنوياً من التعويضات والنفقات العامة ابتداءً من عام 2025. وتحسّن عائد سهمها بنسبة 113% مقارنة بوقت إعلانها الانتقال في مايو 2018، متجاوزاً بذلك العائد الإجمالي لمؤشر "ستاندرد أند باورز 500" البالغ 63%، وعائد الشركة المنافسة مجموعة "تي. رو برايس" (T. Rowe Price) البالغ 26%.
بالتالي؛ سيزيد ذلك من احتمال أن تحذو المزيد من الشركات في "وول ستريت" حذو "أليانس بيرنستين"، وتحثّ موظفيها على الانتقال.
ضغوط لزيادة الأرباح
بدأت فكرة نقل الشركة مع المدير الذي سبق بورك، جيم جينغريتش. فالشركة المعروفة بصناديق الإدارة النشطة، كانت ترزح تحت ضغط كبير مع توجّه المستثمرين نحو صناديق المؤشرات الأقل تكلفة، ونحو الاستثمارات الخاصة. كما كانت تحاول التعافي من التدفقات المالية الخارجة عقب الأزمة المالية في عام 2008 ومن التغييرات الكبرى في الإدارة. وقد ركز المديرون التنفيذيون على خفض التكلفة لتحسين مالية الشركة.
وتعاونت "أليانس بيرنستين" مع شركة استشارية لإعداد قائمة من ثلاثين مدينة محتملة لتنتقل إليها، ولم تتم إضافة ناشفيل إلى هذه القائمة إلا في اللحظة الأخيرة حين زار أحد موظفي الشركة الاستشارية المنطقة وتحقق منها. ومن هنا بدأت قصة حب. فبعد خمسة أشهر وحفل عشاء استضافه حاكم تينيسي؛ تخلت "اليانس بيرنشتاين" عن موقعين متنافسين في كارولاينا الشمالية وتكساس، بحسب أشخاص مطلعين على الأمر، وأعلنت قرارها.
دراسة: الحياة في المدن الكبرى لا تجعلك مكتئباً
وقال بوبي روفل، مفوض إدارة تينيسي للتنمية الاقتصادية وتنمية المجتمع، إنَّ النجاح بجلب الشركة إلى الولاية، فقد "كان انتصاراً عظيماً لنا". وتعهدت "أليانس بيرنستين" في البداية بخلق 1500 فرصة عمل جديدة في المدينة، لتعود وترفع الرقم لاحقاً إلى 1250 وظيفة بحلول عام 2024. في غضون ذلك، حصلت على منح بقيمة 17.5 مليون دولار لتسهيل عملية الانتقال.
ثمن الانتقال
كان على قادة "أليانس بيرنستين" التوصل إلى الطريقة الأفضل لعرض عملية الانتقال على طاقم العمل. فأشاروا إلى أنَّ مديري المحافظ يستطيعون البقاء في نيويورك. فقد رأى الرئيس التنفيذي سيث بيرنشتاين (اسمه غير مرتبط باسم الشركة) دوره في الشركة أشبه بالحارس الذي عليه إبقاء الموظفين الضليعين بالاستثمار سعداء كي لا تخسرهم الشركة، بحسب شخص مطلع على طريقة تفكيره. إلا أنَّ عدداً كبيراً من أفراد طاقم العمليات ترتب عليهم الانتقال، سواء كانوا يعملون في الفرق القانونية أو التقنية أو التسويق أو الامتثال وغيرها.
كانت الشركة تدرك ثمن عملية الانتقال. توقَّع الباحثون أن يرفض 80% إلى 85% من الموظفين الذين يُطلب منهم الانتقال الأمر، مما يكلّف الشركة خسارة جزء كبير من طاقمها الحالي. إلا أنَّ النتيجة أتت أفضل من المتوقَّع، فقد وافق 25% من الموظفين الذي طُلب منهم الانتقال، أي 250 موظفاً.
التعرّف على ناشفيل
توجّه فريق استطلاعي صغير من المديرين التنفيذيين إلى ناشفيل لزيارة المدارس ودور العبادة هناك. وتعرّفوا على الركائز الثقافية في المدينة مثل مسرح "رايمان"، وحضروا حفلات موسيقية مرتجلة في صالة حفلات "ستايشن إن". ولدى عودتهم إلى نيويورك، تغنوا بمزايا ناشفيل، واعتبروا أنَّ الانتقال إليها سيكون جيداً للتقدّم الوظيفي.
لم يتم وعد الموظفين بعلاوات أو ترقيات، وفي المكاتب الجديدة كان كبار المديرين التنفيذيين- بينهم مدير العمليات السابق جينغريتش والمدير المالي السابق جون وايسنسيل- سيجلسون في المكان نفسه مع بقية الموظفين. وهو ما يعني أنَّ الموظفين سيكونون على تواصل معهم باستمرار، مما يمنحهم الفرصة لإثارة إعجاب رؤسائهم والتقدّم وظيفياً. وقال المديرون التنفيذيون إنَّ عملية الانتقال ستساعد أيضاً على توسّع الشركة بين ساحليّ الولايات المتحدة، مما يكسبها المزيد من التنوع الفكري.
يتذكر مدير التكنولوجيا كارل سبرولز بعض الاجتماعات التي عقدها مع فريقه. وقال: "وقفت أمام 650 موظفاً يعملون في هذه المجالات عندي، وقلت: سننتقل إلى ناشفيل. أنا سأنتقل إلى ناشفيل، في الواقع سأنتقل إلى هناك في الأسبوع المقبل، وأريد من كلّ واحد منكم أن يذهب ويلقي نظرة بعقل منفتح". وبالفعل؛ كان سبرولز بين أول الأشخاص الذين وصلوا إلى المدينة.
كيف تعيد شركات إدارة الأصول الكبرى رسم صورتها لتستهدف متوسطي الثراء؟
بدايات الاندماج
بدأ وجود "أليانس بيرنستين" في ناشفيل مع أقل من سبعة موظفين في مساحة "وي وورك" المؤقتة في عام 2018. وسرعان ما بدأت الشركة تزيد أعداد الموظفين هناك بقدر الممكن من دون مخالفة قوانين السلامة من الحرائق. وشاهد الوافدون الجدد من نوافذ مكاتبهم برجهم الجديد فيما كان يتم تشييده، ومعه كان يزيد مستوى الترقّب. تم منح بعض المديرين التنفيذيين تعويضات خاصة من أجل الانتقال. وحصل وايسنسيل وبورك وسبورلز على مكافآت بلغت نحو أربعة ملايين دولار لكلّ منهم. كما حصل جينغريتش على منحة من أسهم الشركة تصل قيمتها إلى حوالي 14 مليون دولار تُقدّم له في حال بقي في الشركة حتى عام 2022، بحسب التقارير المقدّمة إلى الهيئة الناظمة. (تم منحه المكافأة فقط خلال الوقت الذي أمضاه في الشركة).
انضم فريق المديرين التنفيذيين إلى المجالس المحلية بالمدينة بحماسة فائقة. واختار جينغريتش عضوية غرفة التجارة في ناشفيل، وانضم سبرولز إلى مجلس سيمفونية ناشفيل. وشارك أكثر من أربعين من قادة "أليانس بيرنستين" في المجالس المحلية بالمدينة، إذ كان يتم تداول أسمائهم كما لو أنَّهم من المشاهير المحليين.
وبالنسبة لشركة إدارة الثروات؛ أسهمت المشاركة في مثل هذه المجالس في بناء شبكة علاقات مع المانحين الأثرياء للجمعيات غير الربحية. وقال آدم سانسيفيري، مدير الثروات الخاصة في ناشفيل: "لم يكن هناك أي مسؤول مجتمعي أو أي شخص مؤثر في البلدة لم يكن مهتماً بالحديث معهم".
إلا أنَّ الموظفين لم يكونوا راضين دائماً عن الترتيبات الخاصة بهم. فنسبة العمولات خيبت آمال مساعدي المندوبين من ذوي الأجور الأعلى المكلفين بالاجتماع مع العملاء في الميدان. وعلى الرغم من أنَّ العديد من موظفي المبيعات أعربوا مبكراً عن رغبتهم في العمل بأدوار خارجية مواجهة للعملاء، إلا أنَّه نادراً ما ذهبت هذه الوظائف إلى الموظفين في ناشفيل.
إيجاد المهارات
قالت المتحدثة باسم "أليانس بيرنستين": "كرسّنا جهودنا لتطوير فريقنا انطلاقاً من مكتب المبيعات خلال الوباء".
كان إيجاد موظفين مؤهلين في ناشفيل أمراً صعباً بحسب المديرين.وتحدّث أحد الموظفين عن كفاحه من أجل نيل ترقية إلى منصب "مسؤول مساعد"، في حين ذكر أنَّه شاهد موظفين جدد محليين ينالون هذا الامتياز.
بدأ بعدها مهندسو عملية الانتقال في التقاعد. ففي منتصف عام 2019؛ أعلن جينغريتش عزمه التقاعد، مما أثار صدمة في صفوف الطاقم. ثمّ غادر في العام التالي. ورفض جينغريتش التعليق من خلال المتحدثة باسم الشركة.
تتابعت المفاجآت لاحقاً. ففي مارس 2020؛ ضرب إعصار المدينة، ودمَّر منازل بعض الموظفين الذين انتقلوا حديثاً، فيما كان وباء كورونا على وشك إجبار الجميع على ملازمة منازلهم. وأعلن كلٌّ من وايسنسيل، المدير المالي، وروبرت كيث، رئيس مجموعة العملاء- وقد كانا منخرطين بعملية الانتقال- عزمهما التقاعد في 2020. وأشعر ذلك الكثير من الموظفين بالتخلي عنهم.
من جهتها؛ فإنَّ مديرة العمليات الجديدة، بورك التي ترقّت من منصب رئيسة قسم الإدارة إلى مسؤولة العمليات في الشركة، أعربت عن سرورها حيال تقدّم الشركة ودعمها لموظفيها. وأضافت: "أسهم ذلك في إنشاء الكثير من الترابط، لأنك ستتمكّن من التعرف على عائلاتهم وحياتهم الشخصية بشكل أفضل".
السؤال الأبرز للشركات اليوم: هل يستمر العمل عن بعد؟
اجتازت "أليانس بيرنستين" اليوم 80% من الطريق نحو بلوغ انتقالها المستهدف. وفيما يتراجع العمل عن بعد؛ امتلأ المكتب بالموظفين شيئاً فشيئاً. فمعظم الموظفين الذين ما يزالون في الشركة سعداء. وفي المقابلة، أعربوا عن سرورهم بما أنَّ مكان عملهم لا يبعد أكثر من عشر دقائق عن منازلهم، وتتمتّع المدينة بملاعب غولف شاسعة، وتتيح لهم مشاهدة مباريات فريق "التايتنز"، وفريق "بريداتورز"، والاستمتاع بمذاق الدجاج الحار، وحضور الحفلات المفتوحة التي يقدّم بها كتّاب الأغاني والمغنين فقراتهم.
أما بورك التي ترعرعت على أرض تمتد على مساحة 28 ألف متر مربع في مينيسوتا، فقد أصبحت تملك حصانين يرعيان في باحة منزلها الخلفية. وهذا ما كان ليتحقق حيث كانت تقيم في نيويورك.
وكشفت الشركتان العملاقتان "أمازون" و"أوراكل"عن خططهما لإنشاء فروع لهما في نشافيل. في غضون ذلك، يشاهد بوبي روفل، مسؤول التنمية الاقتصادية في المدينة، أعمال البناء من نافذة مكتبه بكلِّ اعتزاز.