من بلدة صيد هادئة إلى وجهة صاخبة للأثرياء.. طفرة سياحية بعد كورونا "تهدد" الساحل المكسيكي

سائحة تتراقص على أنغام الموسيقى، بفندق في بلدة تولوم السياحية، المكسيك - المصدر: بلومبرغ
سائحة تتراقص على أنغام الموسيقى، بفندق في بلدة تولوم السياحية، المكسيك - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

إنها الساعة الثانية ما بعد الظهر في بلدة تولوم السياحية في المكسيك، ونادي الشاطئ في فندق "إيكال" (Ikal) يزدحم بالنزلاء الذين يستعدون للاستغراق بالرقص تماماً على أنغام الموسيقى. في داخل الصالة ذو السقف القشّي، يتمايل حشد من رواد الشاطئ على أنغام تمزج ما بين موسيقى "الفولك" والموسيقى الإلكترونية في حفل يحييه منسق أغاني "دي جي"، ستكون محطته التالية مدينة برلين الألمانية.

وفي أسفل بعض الدرجات الحجرية الضخمة، يمارس بعض الزوار ممن هم في الثلاثينات من عمرهم ومن ذوي اللياقة البدنية العالية، لعبة كرة الطائرة على شاطئ تفوح منه رائحة الطحالب البحرية والكريمات الواقية من الشمس. هنا، يبلغ سعر الإقامة في غرفة هي عبارة عن "عرزال" حوالي 800 دولار لليلة الواحدة، ويبلغ سعر زجاجة نبيذ فوار من "كريمان دو بورغوين" 110 دولارات.

هل تنوون الذهاب للشاطئ هذا الصيف؟ استمتعوا به طالما ظل موجوداً

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

فترة ازدهار

قبل عقد من الزمن، كانت تولوم قرية صيد ساكنة تقع على مرمى حجر من موقع أثري يعود لحضارة المايا. أمّا اليوم، فقد تحولت إلى إحدى وجهات الحفلات الصاخبة حول العالم، حيث يتم التسويق لها على أنها جنّة في الأدغال تقدّم سهرات مذهلة. وعلى امتداد شاطئ البلدة، تنتشر المطاعم الراقية ومحلات الملابس الفاخرة وإعلانات مكتوبة بالطباشير تتحدث عن صفوف "يوغا" واستديوهات لرسم الوشم. وبين مرابع الحفلات وعارضات الأزياء بملابسهن الصيفية، والكميات اللامتناهية من الحشيش والـ"آياهواسكا" والكوكايين، يتحول في هذا المكان "مجموعات الهيبيز (hippies) إلى أثرياء، والأثرياء إلى هيبيز"، بحسب وصف المرشد السياحي في البلدة: هيرفي بيش.

تعيش تالوم وجارتها الأقدم كانكون، الواقعة على بعد ساعتين في السيارة على الخط الساحلي، فترة ازدهار. إذ ارتفعت معدلات السياحة فيهما بنسبة 6% مقارنة مع عام 2019، فيما خصصت شركات الطيران عدد مقاعد أكبر بنسبة 20% على متن رحلاتها القادمة من الولايات المتحدة، مقارنة بفترة ما قبل الوباء. وتجاوز عدد الوافدين إلى مطار كانكون الدولي 22 مليون في العام الماضي، بارتفاع بنسبة 82% مقارنة بعام 2020.

خلال العامين، الماضيين، تم تشييد أكثر من 16 ألف غرفة فندقية جديدة في ولاية كوينتانا رو، التي تضمّ كانكون وتولوم. ويعدّ هذا التوسع دليلاً على مركز المكسيك المتقدم على خارطة السياحة الدولية، ويساعد على تعزيزها أيضاً. وفي عام 2019، كانت المكسيك سابع أكثر وجهة عالمية تتم زيارتها، بينما تقدمت اليوم لتتصدر المرتبة الأولى أو الثانية، على حسب المصدر الذي تسأله.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

أبواب مفتوحة

على عكس معظم الدول الأخرى حول العالم، لم تفرض المكسيك إغلاقاً فعلياً خلال الحجر. ففيما كانت العواصم الأوروبية تفرض تقديم شهادات التلقيح ضد فيروس كورونا واختبارات "بي سي أر" لدخول أراضيها، وحظرت الولايات المتحدة دخول المسافرين من عشرات الدول حول العالم، سارعت المكسيك لفتح أبوابها دون طرح أي أسئلة أو الإلزام بأي اختبارات.

كيف يغير العمل عن بعد قطاع السفر إلى الأبد؟

تذرعت الحكومة بأن السياحة محرك مهم جداً للاقتصاد، لدرجة لا يمكن معها تحمّل تكلفة إغلاق حدودها. حيث ارتفعت معدلات الفقر في ولاية كوينتينا رو في بداية الوباء، وخسرت الولاية 97 ألف وظيفة، ولكن بحلول يونيو 2020 كانت الفنادق تعيد فتح أبوابها. وفي شهر ديسمبر من ذلك العام، غرّد حاكم الولاية قائلاً إن على الأشخاص أن يحرصوا على التباعد من أجل التصدي لفيروس كورونا، فيما تفاخر بأن كانكون عادت لتستقبل حوالي 500 رحلة يومياً.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

ضريبة الزوّار

لكن بالنسبة للموظفين الذين يتعين عليهم خدمة الطاولات وتنظيف المراحيض وقيادة الحافلات لكلّ أولئك الزوار، كان الأمر أشبه بالنعمة والنقمة معاً. حيث تناوبت الوجهات الشاطئية المكسيكية الكبرى على تصدّر نشرات الأخبار مع معانتها من موجات تفشي فيروسية تسبب بها على الأرجح السيّاح القادمون من الخارج. ويعتقد روجي مارتن مورينو البالغ من العمر 34 عاماً أنه أصيب بالفيروس فيما كان يقدم المشروبات والقهوة على متن حافلة سياحية. وقال: "بدأ الأمر بارتفاع حرارة، ثمّ شيئاً فشيئاً بدأت أعاني من صعوبة في التنفس إلى درجة ما عدت قادراً فيها على التنفس إلا أثناء تمددي"، وأشار إلى أن سائقين اثنين على الأقل عملا معه في الوكالة السياحية، توفيا نتيجة إصابتهما بفيروس كورونا.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

آثار بيئية ومجتمعية

من جهة أخرى، هناك مخاوف متنامية حول استدامة هذا الازدهار السياحي، إذ تهدد الأعداد المتزايدة من الزوار الطبيعة الخاصة بكهوف متشكلة من مجاري المياه الجوفيّة تتميز بها المنطقة وتُعرف باسم "سينوتي"، وكذلك الأمر بالنسبة لأكبر حيد مرجاني في النصف الغربي من الكرة الأرضية. كما يخشى البعض من أن يحدث لمدينة تولوم كما حدث لنظيرتها أكابولكو سابقاً. فالمدينة المكسيكية التي كانت في منتصف القرن العشرين أحد الوجهات البرَّاقة المفضلة للأثرياء، حيث أقام بها فرانك سيناترا حفل عيد ميلاده السري، واحتفلت إليزابيث تايلر بزفافها الثالث فيها، وأقامت بها عائلة شاه إيران بعد الثورة. وعانت المدنية من نموّ ضخم غير مخطط له، وتزايدت فيها الجرائم المرتبطة بالمخدرات. واليوم، باتت أحد أخطر الأماكن في واحدة من أخطر الدول في العالم. وقال ديفيد إسبينو، مؤلف كتاب "قاتل أكابولكو: سجلات جنة مفقودة" (Acapulco Killer: Chronicles of a Lost Paradise) "حين تفاقم عنف تجارة المخدرات، غادر السياح الأجانب".

ماذا بوسع البندقية أن تفعل لمستقبل السياحة؟

طمحت كانكون لتقديم صورة مضادة لأكابولكو. حيث اختارت الحكومة في الستينات الشاطئ الرملي الخلاب على ضفة الكاريبي ليكون الوجهة الجديدة للمنتجعات البحرية، وخصصت مناطق محددة للفنادق والمنازل والمطار الدولي. كما حددت مساحات شاسعة من الأراضي للحفاظ على الطبيعة، وشقّت الطرقات وأنشأت الحدائق، فيما بنى المقاولون شبكة كهربائية وأنظمة صرف صحي حديثة. إلا أن المناطق الداخلية، التي عرفت لاحقاً بـ"ريفييرا المايا" والتي تمتد إلى تولوم وما بعدها، لم تحظ بالقدر نفسه من الاهتمام.

خلف الواجهة البرّاقة

ففي تولوم، 15% فقط من الأبنية متصلة بشبكة الصرف الصحي، ما يعني أن أطناناً من المياه غير المعالجة تتسرب إلى المياه الجوفية، فتلوث الشاطئ وتقضي على الشعب المرجانية. كما أن الكثير من الفنادق غير متصلة بالشبكة الكهربائية، ما يضطرها لاستخدام مولدات خاصة عاملة على الديزل. وفي الكثير من الأحيان، يشيّد عمال البناء القادمون من ولايات أخرى مخيمات مؤقتة على الأراضي غير المطورة.

ويتوقع أن يؤدي خط القطارات المزمع افتتاحه على الخط الساحلي في العام المقبل، بالإضافة إلى مطار محلي في عام 2024 إلى زيادة هذه الحشود. وقال غونزالو ميريديز، رئيس مجموعة محلية للحفاظ على الطبيعة إن "الأمر وصل إلى مرحلة الأزمة بسبب النموّ بالغ السرعة".

بينما تقول الحكومة إنها تسعى للتطوير بشكل مسؤول، ويشير الغطاسون إلى أن كهوف "سينوتي" المائية تكون أحياناً مغطاة بمادة لزجة تتسرب من البلدات المجاورة ومن الكريمات الواقية من الشمس التي يدهنها السيّاح على أجسامهم. ويضع هذا الأمر المرشدين السياحيين في موقف حرج، فهل يخاطرون بالبيئة المحلية وما تحمله من منافع اقتصادية على المدى البعيد، أو يخاطرون بإلغاء السيّاح لرحلاتهم بسبب غضبهم لعدم تمكنهم من النزول إلى المياه. تعليقاً على ذلك قال أستاذ الغطس ألان شوك: "في حال تلوثت كهوف "سينوتي"، فإن زيارة المكان لن تعد تمثل أمراً يستحق العناء".

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

بيئة خصبة للجرائم

من جهة أخرى، يقصد العديد من الزوار البلدة بسبب سهولة توفر المخدرات بها، ما يخلق عدداً من المشكلات الأخرى. وبالفعل دخلت العصابات في المنطقة وسط حرب لبسط النفوذ، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الجرائم التي بينها عمليات الابتزاز مقابل الحماية التي تستهدف الجميع، من مالكي الفنادق إلى بائعي جوز الهند وبائعي ملابس السباحة المتجولين على الشاطئ.

ومنذ شهر أكتوبر الماضي، أدت حوادث إطلاق النار إلى مقتل عدد من المجرمين المزعومين وثلاثة سيّاح على الأقل. ففي يناير، قتل كنديان على مقربة من بلايا ديل كارمن. وفي فبراير، قتل تاجرا مخدرات مشتبه بهما في مطعم فخم في تولوم. وخلال نهاية أسبوع واحدة في مايو، قتل سائح بعد أن تعرض لمحاولة سرقة فاشلة في أحد كهوف "سينوتي" المائية، فيما أدى إطلاق نار في كانكون إلى مقتل شخص وجرح ستة آخرين.

يقول السكان المحليون إن الشرطة تسارع لطمس أخبار عمليات إطلاق النار لعدم إثارة ذعر السياح، ولكنها ليست دائماً سريعة بما يكفي. تذكر سامنثا راغا، وهي مديرة سابقة في فندق فخم كيف قامت إحدى النزيلات التي صادف وجودها على مقربة من موقع إطلاق نار، بالمغادرة على الفور في منتصف الليل. وقالت راغا: "لم تكن مهتمة إذا خسرت المال جراء رحيلها، جمعت حقائبها وغادرت".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك