بدت مسيرة إيلون ماسك للاستحواذ على "تويتر" أشبه بمزحة خرجت عن السيطرة جزئياً ثم كلياً حين بلغت ذروتها في 25 أبريل مع قرار أغنى رجل في العالم أن ينفق 44 مليار دولار ليشتري إحدى أهم شركات التقنية في التاريخ من الناحية السياسية. برغم أنَّ القطاع سبق أن شهد استحواذات أكبر من حيث القيمة؛ لكنَّ أهمية "تويتر" تجاوزت مراراً مركزها المالي، وهو ما جعل الصفقة غير مسبوقة في وادي السليكون.
لنستعرض الحكاية من بدايتها بإيجاز لنقف على حيثيات الصفقة. كشف ماسك في مطلع أبريل عن استحواذه على حصة في "تويتر"، شارحاً بأنَّه انزعج من كبت شركة التواصل الاجتماعي المزعوم لحرية التعبير، لكنَّ مزاعمه لم تحمل التفاصيل؛ فقد لجأ للاعتماد على إطلاق رسالة سياسية لتحفيز جحافل مستخدمي المنصة المنتمين إلى اليمين السياسي المتطرف بصورة غير مباشرة.
مغامرة إيلون ماسك الجديدة في "تويتر".. ممتعة لِمَن سيتابعها
بدا الملياردير الأمريكي في 5 أبريل مستعداً للانضمام إلى مجلس إدارة "تويتر"، ثم قال في 9 أبريل، إنَّه لن يفعل ذلك، ليعود بعد أربعة أيام ليعلن عزمه شراء الشركة برمّتها مقابل 54.20 دولار للسهم. انتبه قدامى المعجبين برئيس شركة "تسلا"، الذي اشتهر بروح الدعابة، على الفور لاستخدامه الرقم 420. فقد عُرف عن ماسك حبه للمزاح بشأن الرقم 420 وهي إشارة للماريغوانا، كما لاحظها أعضاء مجلس إدارة "تويتر" أيضاً، ثم يقومون بالرد بخطة "حقوق المساهمين" المعروفة باسم حبة السم، التي تضمّنت استخدام الرقم 420 على سبيل الدعابة أيضاً.
عرض الشراء
لم يتأكّد أي أحد تماماً فيما إذا كان عرض الشراء حقيقياً. فقد بدت خطط ماسك للاستحواذ على "تويتر" غير قابلة للتصديق أو مفتقرة للجدية. على سبيل المثال؛ غرّد الملياردير الأمريكي عبر المنصة الشهيرة قائلاً: "سنهزم (سبام بوتس)، أو نموت فيما نحاول أن نفعل ذلك"، مشيراً للحسابات المبرمجة التي تديرها أجهزة كمبيوتر، وتستغل اسمه للترويج للعملات المشفَّرة. كما استفز أعداء موظفيه المستقبليين بقوله، إنَّه ربما يحوّل مقر الشركة في سان فرانسيسكو إلى مأوى للمشردين نظراً لقلة الموظفين الذين يعملون فيه، واقترح تغيير اسم الشركة إلى "تيتر" (Titter) التي تعني الضحكة المكبوتة، في تعبير عن تضامنه مع فئة أنصاره المتنامية من المحافظين. كما غرّد بعد صدور التقرير الخاص بالأرباح الضعيفة جداً لشركة "نتفلكس" للبث الرقمي في 19 أبريل قائلاً: "فيروس يقظة العقل يجعل (نتفلكس) غير قابلة للمشاهدة".
صفقة ماسك - "تويتر" تسلّط الضوء على مخاطر "تسلا" بالاعتماد على رجل واحد
لكنَّ ماسك قد حصل في نهاية المطاف على التمويل الذي يحتاجه لتعلن "تويتر" بعد مفاوضات محمومة خلال عطلة نهاية الأسبوع قبولها بالصفقة. وعلى عكس عمليات الاستحواذ المعتادة؛ سيتحمّل ماسك الذي يرأس أيضاً شركة "سبيس إكس" معظم المخاطر المالية شخصياً، إذ سيدفع بموجب الاتفاق ما يصل إلى 21 مليار دولار نقداً، وسيقترض 12.5 مليار دولار إضافية بضمان أسهمه في "تسلا".
يُتوقَّع أن يكون أكبر تحول تتمخض عنه الصفقة هو إعادة تفعيل الحسابات التي حظرتها "تويتر" بعدما استُخدمت لمضايقة آخرين، أو لنشر معلومات مضللة، أو للتحريض على العنف، بما فيها ربما حساب الرئيس السابق دونالد ترمب. لقد جعل هذا ماسك على خلاف مع موظفيه من ذوي الميول اليسارية، ناهيك عن مستخدمي منصته من أصحاب الميول ذاتها بالإضافة للمعلنين عبرها، الذين يفضّلون بشكل عام مزيداً من الإشراف على المحتوى لا الإقلال منه.
عثرة دورسي
كانت قيادة شركة التواصل الاجتماعي السابقة قد تعثّرت بسبب مشاكل مشابهة، فقد استقال مؤسسها جاك دورسي العام الماضي تحت ضغط الشكاوى من تباطؤ النمو وتطوير المنتجات لأنَّه مشتت بسبب وظيفته الأخرى كرئيس تنفيذي لشركة معالجة المدفوعات "بلوك" (Block). لكنَّ دورسي يعد مثالاً على التركيز مقارنة مع ماسك، فالأخير والد لسبعة أبناء، ويدير أربع شركات، فإلى جانب "تسلا" و"سبيس إكس"؛ يدير مشروعه "بورينغ" (Boring) في مجال حفر الأنفاق، وشركة "نيورالينك" (Neuralink)، التي تصنّع "كمبيوترات صغيرة" تُزرع في الدماغ لتمكين المشلولين من التحكم بالأجهزة.
"بورينغ" المملوكة لماسك تبني أنفاقاً في تكساس لحل أزمة المرور الخانقة
قد يكون الدافع الأكبر لاستحواذ ماسك على "تويتر" سياسياً؛ فقد رسخ إنفاقه 44 مليار دولار على رؤيته الخاصة لـ"حرية التعبير" تحالفاً مع اليمين المتطرف الأمريكي. منذ حظر حسابات ترمب على منصات وسائل التواصل الاجتماعي الرئيسية على خلفية تشجيعه لمثيري الشغب في أحداث الكابيتول الأمريكي في 6 يناير 2021؛ روّج نشطاء محافظون لسلسلة منصات ناشئة تنافس "تويتر" مثل "بارلير" (Parler)، و"غيتر"(Gettr)، ومنصة ترمب الخاصة "تروث سوشيال" (Truth Social)، الموجهة جميعها للمستخدمين اليمينيين. لكن لم تحقق هذه المنصات الداعمة لتيار المحافظين نجاحاً ملحوظاً على صعيد منافسة "تويتر"، مما يمنح ماسك فرصة ليوفر للتيار اليميني شبكة اجتماعية تحظى بإشرافٍ متراخٍ على المحتوى من جهة، وقاعدة مستخدمين حقيقية من جهةٍ أخرى. قال ترمب عقب الإعلان عن الصفقة، إنَّه لن يعود إلى "تويتر"، لكنَّه إن عاد فلن يكون أول مستخدم يتعهد بمقاطعة الخدمة لينضم إليها لاحقاً.
استبشار اليمين
لقد احتفى النشطاء والمشرّعون المحافظون من جانبهم بتلك الصفقة. فقد وصف جوش هاولي، عضو مجلس الشيوخ الجمهوري عن ولاية ميسوري يوم الإعلان عنها بأنَّه "يوم عظيم لحرية التعبير في أمريكا". كما بدأ تاكر كارلسون، المذيع صاحب معدلات المشاهدة المرتفعة، حلقة برنامجه على قناة "فوكس" في يوم الإعلان عن الصفقة بحديث منفرد مدته 10 دقائق امتدح فيه خطوة ماسك، ثم اندفع للحديث عنه بحماس واصفاً الصفقة بأنَّها "التطور السياسي الأكبر منذ انتخاب دونالد ترمب في 2016".
لماذا يحمل استثمار إيلون ماسك في "تويتر" أنباء سيئة لحرية التعبير؟
لكنَّ المؤيدين والمنتقدين، الذين يعتبرون ماسك ليبرالياً سابقاً تحول الآن إلى محافظ؛ يقللون من شأن تأثير مصالحه التجارية على أفكاره السياسية. خلال ولاية جورج دبليو بوش؛ سوّق الرئيس التنفيذي سيارات "تسلا"؛ ليس بسبب انعدام انبعاثات الكربون منها فقط؛ بل كسيارات فائقة أسرع وأكثر جاذبية مقارنةً بنظيراتها الفاخرة التي تعمل بالبنزين. أما في عهد باراك أوباما، وإبان حصوله على قروض حكومية، واستفادته من تخفيضات ضرائب السيارات الكهربائية؛ كوَّن ماسك جمهوراً هائلاً من المتابعين بين دعاة حماية البيئة الأثرياء، الذين حجزوا مئات الآلاف من سيارات "تسلا" قبل سنوات من تصنيعها. في حين دعا ماسك إبان ولاية ترمب إلى فرض ضريبة على الكربون، لكنَّه استغل أيضاً لحظة "اجعل أمريكا عظيمة مرَّة أخرى" حين استضاف الرئيس في احتفالية إطلاق صواريخ في فلوريدا، فضلاً عن اختلافه مع مسؤولين محليين ومع موظفيه أيضاً بشأن قيود "كوفيد" التي منعته من التعجيل بإعادة افتتاح مصنعه في خليج سان فرانسيسكو.
مصالح وسياسة
لم يتزامن تحول ماسك إلى محافظ بشكل ملائم مع صعود تيار اليمين الشعبوي القومي فحسب؛ بل تزامن أيضاً مع الرغبة بتلبية احتياجات سوق متنامية للسيارات الكهربائية. كشف رئيس "تسلا" في 2019 النقاب عن شاحنة "سايبر ترك"، وفي العام التالي، بعدما وصف الأمر الحكومي بالبقاء في المنزل على مستوى ولاية كاليفورنيا بأنَّه من قبيل "الفاشية"؛ أعلن ماسك أنَّه سينتج "سايبر تراك" في مصنع جديد خارج أوستن. كما قرر في 2021 نقل مقر "تسلا" إلى تلك المنطقة، كاشفاً انزعاجه من تحول كاليفورنيا إلى"أرض للإفراط في التنظيم". جاء انتقاد ماسك لمنطقة خليج سان فرانسيسكو في إطار جهوده لإعادة تصوير "تسلا" على أنَّها شركة تخدم من يقودون الشاحنات الصغيرة فيما كانت شركتا "فورد" و"جنرال موتورز" تتفوقان عليه في سوق الشاحنات الكهربائية.
ديكتاتورية المليارديرات.. كيف أصبح عمالقة التكنولوجيا خارج السيطرة؟
قياساً على ذلك؛ سيكون من المستحيل فصل شرائه "تويتر" عن اهتماماته التجارية الأخرى، إذ تدير "تسلا" مصنعاً في الصين، وتتمتّع بعلاقات جيدة مع بكين. يمكن أن يبدو هذا- كما أشار جيف بيزوس مؤسس "أمازون" بخبث- تضارباً في المصالح حين يتعيّن على "تويتر" تحت ملكية ماسك تقرير الكيفية التي ستتعامل بها مع المعلومات المضللة المدعومة من الصين.
برغم تركيز ماسك على منتج "تويتر" وتأثيره الاجتماعي؛ لكنَّ بعض أكبر التحديات التي يواجهها مع شركة التواصل الاجتماعي مالية في المقام الأول. سيحتاج ماسك لخدمة ديونه الجديدة بسلاسة لاتخاذ قرار من اثنين، إما عبر ضخ النقد في الشركة التي ملكها حديثاً، أو خفض تكاليفها بشكل هائل. لكن حتى لو لم يتمكّن ماسك من تنفيذ أي منهما، فلديه طرق أخرى للاستفادة من الصفقة. فقد استغل الملياردير الأمريكي في الأيام القليلة الماضية الاهتمام المتزايد الذي يحظى به للترويج لشركاته الأخرى. على سبيل المثال؛ غرد ماسك بأنَّ شركة "بورينغ" ستطلق قريباً أنظمة نقل "هايبر لوب" عالية السرعة، وأنَّ زراعة حواسيب "نيورالينك" في الأدمغة البشرية باتت قاب قوسين أو أدنى! ولا ننسَ سيارات الأجرة ذاتية القيادة التي طال انتظارها من "تسلا"!
دفاع عن البراعة الإدارية لـ"إيلون ماسك"
قد تكون الفوائد التي تعود على شركاته الأخرى أحد الأسباب التي تجعل ماسك يشعر بالارتياح عندما يقول إنَّه لا يتوقَّع تحقيق أرباح من "تويتر". قال رئيس "تسلا" خلال مؤتمر "تيد" (TED) في 14 أبريل: "هذا ليس في سبيل كسب المال... لا أهتم باقتصاديات الصفقة مطلقاً"، مؤكّداً على أنَّ اهتمامه بـ"تويتر" من قبيل فعل الخير.
هناك انجذاب لتصور ماسك كشخص استثنائي، بالنظر إلى الصواريخ ودعابات الماريغوانا. سيؤدي الاستحواذ غير المبني على معطيات موضوعية لتعزيز هذا التصور من دون شك. لكنَّه -من ناحية أخرى- ملياردير ينفق مبلغاً متواضعاً، وذلك في مقياسه؛ لأنَّ تكلفتها تبلغ نحو 13% فقط من صافي ثروته، ليشتري قدراً هائلاً من القدرة على التأثير. برغم أنَّ ماسك يجعل كل شيء يبدو جديداً؛ لكنَّ هذه الصفقة لا تعدو كونها نسخة محدّثة لإحدى أقدم قصص قطاع الإعلام.