دورسي يكره استخدام السلطة وإصدار الأوامر بشكل مستغرب من شخص لديه كثير من القوة

كيف ترك جاك دورسي "تويتر" ليصبح قائد "بتكوين" الروحي

جاك دورسي  - المصدر: بلومبرغ
جاك دورسي - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

كان جاك دورسي يرأس شركتين مدرجتين في البورصة، حين اعتلى خشبة المسرح في مؤتمر "بتكوين 2021"، لكنه بدا أشبه بنادل في مرتع شاطئي. كان حليق الرأس طويل اللحية يرتدي قميصاً مُتداخل الألوان. سافر حينها إلى جنوب فلوريدا، رغم أن السياسة الرسمية لإحدى شركاته، وهي "تويتر"، كانت تحظر حينها على الموظفين السفر بغرض العمل، كما أن مجموعة مستثمرين ناشطين كانوا قد أمضوا الشطر الأكبر من 18 شهراً يسعون لتنحيته بسبب عدم تركيزه.

قرر دورسي بغض النظر عن كل ذلك أن يستمتع بوقته بكل الطرق المُمكنة. فقد ذهب إلى الشاطئ برفقة عارضة أزياء عشرينية تُدعى فلورا كارتر، وتناول العشاء مع ديف بورتنوي، وهو رجل أعمال وإعلامي رياضي يتعمد أن يكون بغيض الأسلوب ويهوى تداول الأسهم. كما تسكّع مع فلويد ماي ويذر، وهو ملاكم يتبنى شخصية ممقوتة لأسباب مهنية تحول إلى مُروِّج للعملات المشفرة، حيث كان ماي ويذر موجوداً في المدينة بغرض ترويج"إثيريوم ماكس"، وهي عملة مشفرة جديدة، وكذلك ليشارك في مباراة استعراضية ضد لوغان بول.

تعرض دروسي لمضايقة على خشبة المسرح من لورا لومر، مُنظرة المؤامرة اليمينية المتطرفة، التي اشتهرت بتقييد نفسها على أبواب مكتب "تويتر" في نيويورك، بعدما حظرت حسابها على خدمة وسائل التواصل الاجتماعي في 2018. كان دورسي قد وصف احتجاجها بأنه "شجاع"، وبعدما سخرت لومر من دورسي ووصفته بأنه "ملك الرقابة"، أجاب بصراحة قائلاً، إنه يأمل بجعل "تويتر" أكثر انفتاحاً وتتسم باللامركزية مثل "بتكوين".

أهم اهتماماته

كان لدى دورسي الكثير ليقوله عن "بتكوين"، وهو في الواقع أكثر بكثير مما كان ليقوله عن "تويتر" أو "سكوير"، وهي شركة المدفوعات التي يملكها. توقّع دورسي أن تحل عملة "بتكوين" محل البنوك، فضلاً عن توفيرها فرصاً اقتصادية لأصحاب المشاريع في العالم النامي، وتحفيز الاستثمارات في الطاقة المتجددة. صرح دورسي: "بتكوين تغير كل شيء على الإطلاق. لا أعتقد أن هناك أي شيء أكثر أهمية في حياتي لأعمل عليه".

استقال دورسي من شركة "تويتر" بعدها بخمسة أشهر، وأعلن أنه سيغير اسم "سكوير"، التي تساعد المقاهي المحلية وغيرها من الشركات الصغيرة لتلقي المدفوعات، ليصبح "بلوك" (Block)، تذكيراً بالتقنية الرئيسية الكامنة وراء شركة العملات المشفرة "بلوكتشين". سيعمل دورسي رسمياً في "بلوك" بدوام كامل، لكن كل من يحيط به يدرك أن له إلهاءً جانبياً جدياً. حين كان دورسي يدير كلاً من "تويتر" و"سكوير"، كان موظفوه يتندرون بأن "تويتر" هي "طفلته المفضلة". أما الآن، استناداً لمحادثات مع أكثر من 30 موظفاً حالياً وسابقاً ممن عملوا مع دورسي، يبدو أن طفلته المفضلة باتت "بتكوين" وليست "بلوك".

لست متأكداً إن كنتم قد سمعتم بهذا، لكنني قد استقلت من "تويتر"

زعيم روحي

نصّب دورسي نفسه بشكل غير رسمي زعيماً روحياً للعملة، ومدافعاً عنها على مدى العامين الماضيين، ويروج لها باستمرار عبر "تويتر"، كما يكيل انتقادات شديدة لأصحاب رؤوس الأموال في مجال التقنية، الذين يُمولون مشاريع تشفير مُنافسة. سبق أن قال دورسي، الذي رفض التعليق عبر متحدث رسمي باسمه، في أحدى فعاليات التشفير العام الماضي إلى جانب إيلون ماسك، إنه يعتقد أن "بتكوين" يمكنها أن تحقق "السلام العالمي". أصبح ماسك، وهو أغنى شخص في العالم، أكبر مساهم في "تويتر" في مارس، ما أدى لتعميق تحالفه مع دورسي، الذي تطوّر على مدى عدة سنوات. كما بيّن دورسي خلال العشاء مع بورتنوي أنه يريد التركيز حصرياً على العملة الرقمية. قال بورتنوي عبر بودكاست: "إن دورسي متفائل بشأن (بتكوين) كأكثر شخص سمعته من قبل".

كان لحماس دورسي آثار على "بلوك"، ونما هذا الحماس جزئياً بفضل الميزة التي تجعل من السهل على الأشخاص العاديين شراء "بتكوين" من خلال هواتفهم، حيث أنفقت نحو 220 مليون دولار على شراء "بتكوين" للاحتفاظ بها في ميزانيتها العمومية، ومن أجل مستقبل العملة المشفرة نفسها. قد لا يتميز دورسي كمدير، لكنه نادراً ما أخطأ في استشرافه المستقبل. قال موظف سابق في "تويتر"، طلب عدم الكشف عن هويته حاله حال من سواه ممن وردت اقتباساتهم في هذا المقال، لتجنب إغضاب الرئيس السابق: " لم يلتق جاك مجموعةً دون أن يرغب بقيادتها".

يحزنني أن أغادر القارة... في الوقت الحالي. ستحدد قارة أفريقيا المستقبل، خاصة لعملة "بتكوين"! لست متأكداً أين بعد، لكنني سأعيش هنا 3 أو 6 أشهر في منتصف 2020. ممتنٌ لأنني عشت تجربة صغيرة

شفافية تغريد

إن أفضل طريقة لفهم ما يجول بذهن دورسي هي متابعة تغريداته، حيث إن "تويتر" هو المكان الذي ينشر فيه كل شيء، بما في ذلك الموسيقى التي يستمع إليها، والقضايا الاجتماعية التي يهتم بها. رغم أن دورسي قد يبدو غامضاً إلا أن تغريداته عادةً ما تعطي لمحة عما يدور في ذهنه، ففي اليوم السابق لاستقالته من منصب الرئيس التنفيذي، كتب "أحب تويتر" دون أن يأتي ذلك ضمن سياق.

انطلق اهتمام دورسي بعملة "بتكوين"، بعد رحلة استغرقت شهراً إلى قارة أفريقيا في نوفمبر 2019، بدأ بعدها بالتغريد حول العملة دون توقف. تضمنت الرحلة جولات في إثيوبيا وغانا ونيجيريا وجنوب أفريقيا. التقى خلالها برواد أعمال محليين، حيث كان عديد منهم يبني شركات تركز على"بتكوين". لقد أذهلته هذه الحقيقة و"ألهمته" وبدا مقتنعاً أن "بتكوين" قد تغير النظم المالية في القارة. لم يُعر موظفو دورسي، الذي شاركه فيها عديد من مديري "تويتر" التنفيذيين، بالاً للرحلة حينئذ، لكن بعدما توجه دورسي عائداً وغرَّد من المطار في أديس أبابا قبل أن يستقل رحلته مباشرة بدا الأمر أكثر جدية. قال دورسي: "يحزنني أن أغادر القارة... في الوقت الحالي. ستحدد قارة أفريقيا المستقبل، خاصة لعملة "بتكوين"! لست متأكداً أين بعد، لكنني سأعيش هنا 3 أو 6 أشهر في منتصف 2020. ممتنٌ لأنني عشت تجربة صغيرة".

العمل عن بعد

فاجأت الرسالة الموظفين. كان دورسي يروّج بالفعل لفكرة العمل عن بُعد داخلياً، لكن بعدما وعد بقضاء ستة أشهر في منتصف الطريق في جميع أنحاء العالم، قام بطريق الخطأ بتسليم هدية إلى خصمه في العمل، بول سينغر، مؤسس شركة الاستثمار "إيليوت مانجمنت" (Elliott Management)، والمعروف باستحواذه على حصص في الشركات العامة، ثم الضغط من أجل تغييرات إدارية شاملة. كانت الشركة تنظر إلى "تويتر" على أنها هدف لسنوات. يرجع ذلك جزئياً إلى أن أعمالها التجارية قد أُحبطت، ومن ناحية أخرى لأن "تويتر"، على عكس "غوغل" و"فيسبوك"، لم تمنح مؤسسيهما ما يُسمى بأسهم التصويت، التي كانت ستسمح لهم بالسيطرة عليها. خلق هذا فرصة للمستثمرين النشطاء لكسب موطئ قدم، ولم يكن هناك ما يمكن لدورسي فعله لمنعهم. استثمرت شركة "إيليوت" كثيراًِ في "تويتر" في وقت متاخم لرحلة دورسي.

بلغت استثماراتها بحلول بداية 2020 بأكثر من مليار دولار في أسهم الشركة، وفقاً لشخص مطلع على عملية الشراء.

أصبحت حصة الشركة الاستثمارية عامة بعد ثلاثة أشهر في فبراير 2020. أرسلت "إيليوت" رسالة إلى مجلس إدارة "تويتر" حدَّدت فيها سلسلة من المشاكل المتعلقة بحوكمة الشركات والأعمال في "تويتر"، مُنبهة الشركة إلى أنها تخطط لترشيح أربعة مديرين جدد. كانت الشكوى الأبرز من المستثمر الناشط هي أن رئيس "تويتر" التنفيذي يقسم وقته مع شركة أخرى. لم تكن تغريدة دورسي الدافع الوحيد، لكنها أعطت المستثمرين النشطاء متسعاً لمهاجمته. لم يكن لدى دورسي وظيفتين فقط، لكنه لم يبد أنه كان مهتماً بشكل خاص للقيام بأي منهما.

تدخل ودفاع

سارع مجلس إدارة "تويتر" والفريق التنفيذي للعثور على مستثمرين يدعمون دورسي في حالة تصويت المساهمين. ناقش المجلس لفترة وجيزة إضافة لورين باول جوبز كمديرة، وهي صديقة دورسي وأرملة ستيف جوبز، المؤسس المشارك لشركة "أبل". تدير لورين الآن شركة "إيميرسون كوليكتيف" (Emerson Collective)، وهي مجموعة استثمارية. لكن توصلت إدارة "تويتر" لتسوية مع شركة "إيليوت" بعد أقل من شهر متجنبة المعركة التوكيلية. أضافت الشركة ثلاثة أعضاء جدد لمجلس الإدارة، منهم جيسي كوهن، الشريك الإداري لشركة "إيليوت"، التي أدخلت تغييرات على حوكمة الشركة. لم يُطرد دورسي، لكن وظيفته لم تكن آمنة. وافق دورسي كجزء من الصفقة على تبني أهداف قوية لتوسيع قاعدة مُستخدمي الشركة وزيادة الإيرادات.

أجبر الوباء دورسي على تعطيل انتقاله إلى أفريقيا، لكن تصرفاته الغريبة استمرت في جعل منصبه كرئيس تنفيذي أمراً محرجاً. كان دورسي يعمل عن بُعد، في هاواي غالباً وكذلك في كوستاريكا وبولينيزيا الفرنسية، مع الحفاظ على سرية مكان وجوده عن الموظفين. قال أشخاص مقربون من دورسي، إن هذا كان لأسباب أمنية، لكن ذلك لم يمنع الموظفين من محاولة تخمين مكانه من خلال البحث عن أدلة في خلفية مكالمات الفيديو. سمع الموظفون أصوات دجاج في الخلفية في بعض الأحيان. خلال مقابلة في مؤتمر "غولدمان ساكس" بعد فترة وجيزة من الإعلان عن صفقة "إيليوت"، سُمع صوت تغريد طيور في مكان قريب، بينما كان دورسي يتحدث.

كانت هناك لحظات خلافية أخرى، فيما كان العالم في إغلاق في أبريل 2020، دخل دورسي إلى تطبيق "غوغل ميت" (Google Meet) وقرأ بصوت عالٍ مقطعاً من كتاب الأطفال "عيد ميلاد سعيد" لكاتبه دكتور سوس: "عيد ميلاد سعيد لك. اليوم أنت نفسك، هذا أكثر صدقاً من الحقيقة. ولا أحد يشبهك في هذه الحياة". قرأها دورسي وهو يحمل الكتاب أمام الكاميرا ويحرك الصفحة ذهاباً وإياباً لإظهار كعكة عيد الميلاد، التي تبرز حين فتح صفحاته. كان الدور على دورسي في "موعد قراءة القصة"، وهي مكالمة فيديو أسبوعية يتناوب فيها كبار المديرين التنفيذيين في "تويتر" على قراءة كتب الأطفال للموظفين وأطفالهم.

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

غير تقليدي

لخَّصت هذه اللحظة دورسي تماماً في نظر المشاركين في المكالمة. رغم جميع أخطائه، إلا أنه يمكنه أن يجعل الموظفين يشعرون بالتقدير. عندما عاد إلى "تويتر" في 2015، خفّض دورسي ارتفاع المنصة التي تستخدم خلال اجتماعات الشركة كي لا يكون أعلى من موظفيه. كما عرض 200 مليون دولار من أسهمه الخاصة لأسهم الموظفين العامة بعد تسريح الشركة لبعض العاملين. طبَّق دورسي "أيام راحة" في كل من "تويتر" و"بلوك" في بداية الوباء، وهي أوقات إجازة إضافية للموظفين لأخذ استراحة ذهنية من وظائفهم. كان دورسي يشرك والديه في كافة أحداث الشركة. يتذكر أحد الموظفين السابقين في "بلوك" أن الرئيس التنفيذي وجده غافياً في المكتب في أحد الأيام بعد ليلة طويلة من العمل، فتهيأ لتلقي توبيخ، لكن دورسي قال له ببساطة، إن يعود للنوم. لكن كما حال تغريدته حول أفريقيا، تسببت قراءة الدكتور سوس بإثارة قلق بعض الموظفين من أن دورسي لم يقدر خطورة اللحظة. كانت شركة " إيليوت" قبل أقل من شهرين تسعى لتنحيته، وكان في وضع يشابه فترة مراقبة. كان معظم الرؤساء التنفيذيين يقاتلون حفاظاً على وظائفهم، لكن دورسي لم يبدُ قلقاً. بعد خمسة أيام من قراءته لما كتبه دكتور سوس، أعلنت "تويتر" أن الأرباح مخيبة للآمال، وانخفض سعر سهمها 8%.

كانت أيام "يوزنت" و"إرك" و"ويب" وحتى البريد الإلكتروني مذهلة. أدى تركيز الاكتشاف والهوية في الشركات لتدمير الإنترنت حقاً. أدرك أنني أتحمل اللوم جزئياً، وأنا نادم على ذلك

إحجام عن السلطة

كان دورسي يكره استخدام السلطة بشكل مستغرب من شخص لديه كثير من القوة. قال الذين عملوا تحت قيادته في "تويتر" و"بلوك" إنه لا يحب اتخاذ القرارات، ويعتبرها فشلاً للقيادة إن اضطر لذلك. ليس غريباً أن يذهب دورسي إلى اجتماع كامل دون أن يتفوه بأكثر من بضع كلمات، حيث يفضل أن يحفز الموظفين بأفكار مجردة تثير تساؤلاتهم بدلاً من إعطاء توجيهات مُحددة.

حتى أن مشاعره حول السلطة بدأت بتشكيل آرائه الخاصة على "تويتر". كتب دورسي أخيراً أن وجود شركات تتحكم في المحتوى عبر الإنترنت وهوية المستخدم كان غلطةً. غرَّد عبر "تويتر": "أدرك أنني أتحمل اللوم جزئياً، وأنا نادم على ذلك". إنها وجهة نظر شاركها ماسك، الذي من المفترض أن يكون منزعجاً جداً من قواعد التغريدات في "تويتر"، فقد اقترح إنشاء خدمة جديدة، فيما اشترى أسهماً في الشركة بمليارات الدولارات. يفسر نفور دورسي من سيطرة الشركات جزئياً حُبه "بتكوين"، وهي عملة غير منظمة ولا تخضع لسيطرة أي شركة.

لكن يأتي وجود رئيس تنفيذي مُتردد بشأن كونه رئيساً وليس مهووساً بالإنفاذ بمقايضات كبيرة. غالباً ما يشعر الأشخاص الذين يعملون لدى دورسي بأنهم متمكنون من اتخاذ القرارات، لكن تردده قد يكون أيضاً مصدر إحباط، ما يؤدي في بعض الأحيان إلى حال من الشلل الداخلي. قال موظف سابق في "بلوك": "إذا كنت تحب التوجيهات فستصطدم مع جاك".

كان نفور دورسي من اتخاذ القرارات هو السبب، فعلى سبيل المثال أمضت "تويتر" سنوات في العمل على تعديلات صغيرة على موقعها، مثل زيادة الحد الأقصى لطول التغريدات إلى 280 حرفاً. كما تسبب بفقدان "سكوير" للفرص، بما فيها فرصة شراء شركة "بلايد" (Plaid)، وهي شركة برمجيات تتيح للأشخاص الوصول إلى حساباتهم المصرفية وتحويل الأموال داخل تطبيقات أخرى. كانت "سكوير" قد تباحثت حول الاستحواذ على "بلايد" مقابل أقل من مليار دولار خلال 2018، وأيَّد غالبية فريق الإدارة العليا لدورسي الصفقة، وفقاً لشخصين مطلعين على هذه المحادثات. لكن دورسي رفض اتخاذ قرار نهائي، وبدل ذلك قال إن الفريق يجب أن يتوصل إلى إجماع بطريقة أو أخرى. لم تستطع المجموعة ذلك وفشلت الصفقة. تبلغ قيمة "بلايد" الآن أكثر من 13 مليار دولار.

استشراف المستقبل

يتألق دورسي في استشراف واستيعاب المستقبل، حيث يهتم باتجاهات أو منتجات مُحددة قبل سنوات من تنبؤ الآخرين بها، حسب ما قال موظفوه. بينما قد يعني ذلك أنه يتجاهل أو ينسحب من القضايا الأكثر إلحاحاً، إلا أنه غالباً ما يكون على حق. قال موظف سابق في "تويتر": "إنه ليس مدير منتج بل مخترع منتج".

ابتكر دورسي أفكاراً لكل من "تويتر" و"سكوير"، كما أنشأ تطبيق "كاش" (Cash)، وهو خدمة مدفوعات المستهلكين في "سكوير" على غرار تطبيقي "فينمو" (Venmo) أو "باي بال". كانت الخسائر فادحة خلال السنوات الأولى من إصدار التطبيق. كان هذا لا يزال صحيحاً، حين كانت "سكوير" تتجه إلى طرح عام أولي في 2015، مُتبعة نهج أن الشركة يجب أن تركز على منتجها المُربح لمعالجة المدفوعات. لكن دورسي دافع بقوة للإبقاء على تطبيق "كاش" صامداً. أصبح لدي التطبيق الآن نحو 44 مليون مستخدم شهرياً، كما شكَّل ما يقرب من نصف أرباح الشركة في 2021. كما أصبح وسيلة شائعة بشكل متزايد للناس لشراء وبيع "بتكوين". أجرى العملاء معاملات بعملة "بتكوين" بقيمة 10 مليارات دولار عبر "كاش" في العام الماضي وحده.

كان دورسي من أوائل المستثمرين في تطبيق "إنستغرام"، حيث أدرك إمكانات التطبيق حتى قبل أن يعرف معظم الناس ماهية الصور المدعومة بالفلاتر، كما دفع بقوة إلى "تويتر" للحصول على تطبيق الفيديو القصير الناشئ "فين" (Vine) في 2012 قبل أن يبدأ على الإطلاق. رغم فشل التطبيق في النهاية، إلا أن تطبيقاً مشابهاً هو "تيك توك" (TikTok) نما ليصبح أحد أكثر التطبيقات شعبية في العالم.

كان العمل عن بُعد أيضاً اهتماماً مبكراً لدورسي، فبحلول الوقت الذي أجبر فيه الوباء موظفي المكاتب حول العالم على العمل عن بُعد من غرف معيشتهم، كان دورسي بالفعل ينقل كلاً من "تويتر" و"سكوير" نحو هذا المفهوم، لأنه كان يجادل بأن شركاته ستفقد أفضل المواهب إن لم تفعل ذلك. كان دورسي يعمل بالفعل من المنزل بضعة أيام في الأسبوع قبل فيروس "كوفيد". كان جزءاً من غرض ذهابه إلى أفريقيا لمدة ستة أشهر في 2020، هو إثبات أن العمل عن بُعد لأمد طويل ممكن.

مراهقته

يرى معجبو دورسي هوسه بـ"بتكوين" من منظور مماثل. تقول جاكي ريسيس، التي قادت الأعمال المصرفية والقروض في "سكوير" وتعمل الآن على مشروعها الخاص بالتقنية المالية: "كنت سأولي اهتماماً دائماً لأي شيء تنبأ به جاك للمستقبل، فهو غالباً ما يكون محقاً أكثر من العكس". كان دورسي مهتماً بالتشفير منذ مراهقته، حين كان يستخدم اتصالاً بالإنترنت في جامعة واشنطن، بالقرب من منزل طفولته في سانت لويس، ويدخل إلى مجموعات دردشة من خلال "يوزنت"، بما فيها مجموعة تسمى "alt.cypherpunks". قرأ دورسي ورقة"بتكوين" البيضاء بعد فترة وجيزة من إصدارها في 2008 من ساتوشي ناكاموتو، الكاتب الذي استخدم اسماً مستعاراً. يتذكر بعد سنوات: "كان الأمر شعراً". ذكره المجتمع الذي نشأ حول "بتكوين" بغرف الدردشة على الإنترنت، التي قضى وقتاً فيها عندما كان طفلاً، ولم يرى دورسي "بتكوين" فقط كعملة أو وسيلة لتخزين القيمة. لقد اعتبر ذلك إعادة تفكير شامل بالنظام المالي، الذي يمكن أن يحل محل البنوك والوسطاء الآخرين. كما قال في مؤتمر "بي ورد" (B Word) في يوليو 2021: "ترى فرصة لاستبدال الأساس بأكمله".

المصدر: بلومبرغ
المصدر: بلومبرغ

ارتفاع وانخفاض

حظيت "تويتر" بعامٍ جيد جداً بعد هجوم شركة "إيليوت" الأولي على دورسي في بداية 2020. خلقت الانتخابات الأمريكية والوباء شهية هائلة للأخبار، وهو ما يعني أن قاعدة مُستخدمي الشركة نمت بشكل أسرع مما كانت عليه منذ سنوات. أصدرت "تويتر" تقريراً في اليوم السابق للانتخابات الأمريكية في نوفمبر 2020 قالت فيه إن مجلس الإدارة راجع هيكل إدارة الشركة و"أعرب عن ثقته بالإدارة". كان هذا رمزاً لـتمكين جاك من الاحتفاظ بوظيفته.

وصل سعر السهم إلى أعلى مستوى له على الإطلاق في أواخر فبراير 2021، ولكن بعد شهرين أعلنت "تويتر" عن أرباح فصلية ضعيفة، مستهلة عاماً من الارتفاع والهبوط. حين استقال دورسي في أواخر نوفمبر، حاول شرح سبب مغادرته في رسالة إلى الموظفين بالقول إن كون المؤسس يدير الشركة قد يكون "مُقيداً بشدة وبمثابة نقطة فشل فريدة" للشركات. أضاف أن السبب الرئيسي لمغادرته هو أنه أراد أن "تنفصل (تويتر) عن الجهات المؤسِسة". لقد كان تفسيراً غير مُقنع بالنظر إلى أن دورسي كان ما يزال يعمل في "سكوير" بدوام كامل.

قال منسوبي دورسي إنه ببساطة كان منهكاً بسبب الضغط المستمر من شركة "إيليوت"، ويدرك أن المرور بربع سيئ قد يؤدي إلى اعتداء آخر على وظيفته. انخرطت "تويتر" بعض الشيء بتقنية "بلوكتشين"، ومولت جهوداً لبناء نسخة لامركزية من وسائل التواصل الاجتماعي والسماح للمستخدمين بأن يتعاملوا بين بعضهم البعض باستخدام "بتكوين". لكن هوس دورسي بالعملة المشفرة يتناسب في النهاية بشكل أفضل مع "سكوير". تعني استقالة دورسي أن "إيليوت" حصلت على منصب الرئيس التنفيذي المتفرغ الذي أرادته لـ"تويتر" وهو باراغ أغراوال، الذي رُقي من منصب كبير مسؤولي التقنية. تحتم على دورسي أن يتجه للعمل في العملات المشفرة.

دمجت "بلوك" التي أُعيد تسميتها حديثاً "بتكوين" في كل وحدات أعمالها تقريباً. يبني القسم المسمى "تي بي دي" ( TBD)، وهذا ليس اختصاراً لاسم، بل هو اسم القسم الفعلي، تقنية لتحويل الدولار إلى "بتكوين". هناك جهد منفصل متصاعد وهو بناء وتمويل المشاريع بهدف تحسين وتعزيز "بتكوين". تعمل "بلوك" على رقائق تعدين "بتكوين" وإنشاء محفظة الأجهزة الخاصة بها حتى يتمكن الأشخاص من تخزين هذه العملة بأمان في وضع عدم الاتصال. تشارك الشركة في مشروع لبناء مصنع لتعدين "بتكوين" في تكساس باستخدام الألواح الشمسية من شركة "تسلا" (Tesla) التابعة لإيلون ماسك.

وافق دورسي في بداية 2021 على دفع نحو 300 مليون دولار مقابل الاستحواذ على خدمة بث الموسيقى "تيدال" (Tidal)، التي يملكها جاي زي، وأنفق في وقت لاحق من ذلك العام 29 مليار دولار لشراء شركة "أفترباي" (Afterpay)، وهي شركة شراء بالدفع اللاحق مقرها أستراليا. حصلت "سكوير" على ترخيص مصرفي في 2020 لتقديم قروض الأعمال الصغيرة مباشرة للعملاء.

نموذج ديزني

إن المخطط النموذجي لمجوعة "بلوك" من الخدمات ذات الصلة الغامضة، وفقاً للموظفين السابقين، هو شركة "والت ديزني" (Walt Disney) التي كان دورسي عضواً في مجلس إدارتها بين 2013 و2018. أشار مسؤولون تنفيذيون في "بلوك" في مناقشات مع المستثمرين قبل للطرح العام الأولي في 2015 إلى رسم تخطيطي يُظهر عروض "ديزني" بما في ذلك الأفلام المسرحية والحملات الترويجية والمتنزهات. كانت الفكرة أنه، تماماً كما يساهم كل خط أعمال داخل "ديزني" بالأقسام الأخرى للمؤسسة، فإن منتجات وخدمات "بلوك" يجب أن تعزز بعضها البعض. اليوم، يمكن للمستهلكين الدفع عبر تطبيق "كاش"، ويمكن للشركات قبول المدفوعات باستخدام خدمة "سكوير" الأصلية، فيما تقترض عبر عمليات "بلوك" المصرفية.

قال أنصار دورسي إن هذه الاستراتيجية كانت وراء شراء شركة "تيدال"، التي كانت تُعاني حين استحوذت عليها "سكوير"، ما دفع النقاد لاقتراح أن دورسي كان يدفع علاوة للتسكُّع مع مغني راب مشهور. شوهد كل من دورسي، وجاي زي في هامبتونز على متن يخت في أغسطس 2020، كما حصل جاي زي على مقعد في مجلس إدارة "بلوك" كجزء من الصفقة. حاجج دورسي بانياً على مبرر تجاري وهو أن "بلوك" ستخلق طُرقاً أفضل ليتقاضى الموسيقيون المال عن عملهم، مثلما فعلت "سكوير" مع المقاهي والباعة في سوق المزارعين في أيامها الأولى.

أشعر بالامتنان لرؤية جاي وحكمته وقيادته. أدركت أن "تيدال" شيئ مميز بمجرد أن اختبرته، وأنا مُلهم للعمل مع جاي. سيساعد جاي في قيادة شركتنا بكاملها، بما في ذلك "سيلر" وتطبيق "كاش" بمجرد الانتهاء من الصفقة

"بتكوين" لا سواها

ثم هنالك "بتكوين" حتماً، لأنه كما أوضح دورسي، فهو يعتقد أن هذه العملة المشفرة ستُستخدم في النهاية على نطاق واسع عبر الإنترنت، لذا طبيعي أن تحاول "بلوك" خلق مكانة لها في عالم التشفير. لا يستثمر في عديد من العملات الرقمية المنافسة أو فيما يسمى بتقنيات "ويب 3" التي تستخدمها "بلوكتشين" لتشغيل خدمات الويب اللامركزية. يُعدّ بعض أقران دورسي ومنهم شركاء في شركة "أندريسن هورويتز" (Andreessen Horowitz) المتخصصة في استثمارات رأس المال، وهم من بين أكبر داعمي "ويب 3"، ويضخون عشرات المليارات من الدولارات في السوق الناشئة. (استثمرت "بلومبرغ"، التي تملك "بلومبرغ بيزنس ويك"، في شركة "أندريسن هورويتز"). يعتبر دورسي ممن يمقتون "ويب 3" ويسمى بلغة عالم التشفير "بتكوين ماكسي" أو من يعتبر أن "بتكوين" هي العملة المشفرة الحقيقية المطلوبة وأن "ويب 3" هو مجرد محاولة من مستثمري الشركات وأصحاب رؤوس الأموال للسيطرة على كل شيء وإفساده. حين استخدم كريس ديكسون، وهو شريك في "أندريسن هورويتز"، مقولة تُنسب بشكل خاطئ إلى غاندي: "أولاً يتجاهلونك، ثم يسخرون منك، ثم يقاتلونك، ثم تفوز أنت" للإشارة إلى استثمار شركته في "ويب 3"، رد دورسي بحماسة عبر "تويتر": "أنت صندوق استثمار ولست غاندي". استعداد دورسي للشجار مع مستثمر رئيسي في "سيليكون فالي" (Silicon Valley) إلى جانب قناعته الحقيقية بـ"بتكوين"، جعلته محبوباً أكثر لدى المؤمنين بهذه العملة.

قال أليكس غلادشتاين، كبير مسؤولي الاستراتيجيات في مؤسسة حقوق إنسان تؤيد "بتكوين" وهو الذي أجرى المقابلة مع دورسي على خشبة المسرح في ميامي، لو كان تركيزه يتنقل بين بضع عملات مشفرة وويب 3 "فلن يكون فريداً على الإطلاق... حقيقة إنه يركز بشدة على (بتكوين) هي الإشارة".

غلادشتاين، هو أحد المتحمسين لعملة "بتكوين" ممن يجدون أن قناعة دورسي مُلهمة. قال: "أنا ممتن بالتأكيد، لأنه يفعل ما يريد. أعتقد أنه سيُذكر في النهاية بسبب (بتكوين) أكثر من (تويتر)".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات