في البداية عندما اتصلت بميخائيل فريدمان لأستفسر منه عن رغبته في الحديث معي حول شعوره إثر إدراج اسمه على قائمة العقوبات، كاد أن يقفل خط الهاتف في وجهي. وبعد انقضاء بضعة أيام كان لا يزال لا يرى ذلك فكرة سديدة.
لكن بعد كثير من الأخذ والردّ وافق أخيراً على إجراء مقابلة، مقترحاً اللقاء في فندق واقع في منطقة مايفير في لندن، إلا أنني طلبت إجراء المقابلة في قصره "أثلون هاوس" المبني على الطراز الفيكتوري، الذي اشتراه عام 2016 مقابل 65 مليون جنيه إسترليني (85 مليون دولار على سعر الصرف الحالي). لكن الفكرة لم تعجبه، وهكذا انتهى بنا الأمر نتحادث في مقهى شمالي لندن، إذ استمرت المقابلة لنحو ساعتين، فيما كنا نستمع في الخلفية إلى صوت آلة تحضير قهوة الاسبرسو وهي تطحن حبوب القهوة.
يوم الغزو
وصل فريدمان قبل بضع دقائق من الموعد، مرتدياً كنزة من الكشمير نسّقها مع قميص، وسروال جينز، وبدا عليه بعض علامات التعب. فبعد مرور أسبوعين على الغزو الروسي لأوكرانيا كان العالم الذي يعرفه، والذي نعرفه نحن، قد انتهى.
ولم يكن في حسبان فريدمان أن يشنّ بوتين غزواً واسع النطاق، إذ إنه في الأيام التي سبقت الحرب كان يردد أمام زملائه في شركة الأسهم الخاصة "ليتر وان" (LetterOne) التي يملكها في لندن أنه لا يتخيل أن يقاتل الروس ضد الأوكرانيين. وينبع هذا الإيمان من تاريخ فريدمان الشخصي، فالرجل البالغ من العمر 57 عاماً وُلد وترعرع في الاتحاد السوفييتي، تحديداً في مدينة لفيف غرب أوكرانيا. وهو ينتمي إلى الموجة الأولى من الأوليغارشيين الروس، إذ جنى ثروته من قطاعي المصارف والطاقة، قبل تسلُّم بوتين السلطة. حتى إنّ والديه مواطنان أوكرانيان، وكانا حتى وقت قريب يقضيان جزءاً كل عام في مدينة لفيف التي تُعَدّ معقلاً للمشاعر المناهضة لروسيا، وفي طليعة مؤيدي القومية الأوكرانية. عن ذلك قال لي: "أعرف كلّ زاوية من تلك المدينة، لطالما آمنت أن أوكرانيا سوف تقاوم".
ويوم بدء الغزو كان فريدمان في برحلة عمل روتينية إلى موسكو، وما كان منه إلا أن عاد مسرعاً إلى لندن حيث أمضى الأيام التالية وهو يتلقى اتصالات كثيرة من أوكرانيا.
يملك فريدمان وشركاؤه بعضاً من أكبر المصارف في أوكرانيا، بالإضافة إلى أسهم في أكبر مشغل للاتصالات هناك "كييف ستار". وطلب فريدمان من المديرين التنفيذيين استخدام كلّ ما يلزم من أموال لضمان سلامة الموظفين وعائلاتهم. وفي يوم 25 فبراير، حين اجتازت القوات الروسية الحدود مع أوكرانيا، وجّه فريدمان رسالة إلى موظفيه في "ليتر وان"، وقد نُشرت رسالته إلى العامة لاحقاً، ووصف فريدمان فيها النزاع في أوكرانيا بـ"المأساة"، مضيفاً: "الحرب ليست الحلّ أبداً".
وبالنسبة إلى فريدمان، كانت الرسالة أحد التصريحات السياسية النادرة التي يدلي بها، إذ امتنع الملياردير عن انتقاد بوتين بشكل مباشر. مع ذلك فهو يقول إنّ هذا التصريح وحده من المحتمل أن يعرّضه للخطر في حال عودته إلى روسيا. وفي يوم الاثنين التالي أعلنت جمعيته الخيرية "مجموعة جينيسيس للأعمال الإنسانية" (Genesis) عزمها التبرع بمبلغ 10 ملايين دولار للمنظمات اليهودية التي تساعد اللاجئين في أوكرانيا.
فرض العقوبات
مع ذلك، فإنّ أياً من هذه الخطوات لم تشفع له لتجنب المصير الذي واجه أقطاب الأعمال الروس الآخرين، كما لم تشفع له شبكة العلاقات التي بناها على مرّ سنوات في الولايات المتحدة وأوروبا.
وفي 28 فبراير قاطع محاميه اجتماعاً كان يحضره ليبلغه بأن الاتحاد الأوروبي أدرج اسمه على قائمة العقوبات التي شملت أيضاً شريكه الأزلي بيتر أفين، رئيس مصرف "ألفا بنك"، أكبر مصرف خاص في روسيا، ويمثل أيضاً جزءاً رئيسياً من تحالف "ألفا غروب" التابع لفريدمان. وراح المحامي يشرح له تبعات القرار الذي يشمل منعاً من السفر وتجميداً للأرصدة المصرفية. بالكاد استوعب فريدمان الأمر، وقال: "شعرت بالصدمة، كدت لا أفهم ما الذي يقوله".
بالنسبة إليه، ما اتضح اليوم أن الاتحاد الأوروبي لا يعرف واقع النفوذ في روسيا. فإذا كان هدف العقوبات دفع الأشخاص مثله إلى الضغط على فلاديمير بوتين، فهذا هدف غير واقعي بتاتاً.
يقول فريدمان: "لم أعمل قطّ في أي شركة تابعة للدولة ولم أشغل أي منصب في الدولة"، متابعاً: "إذا كان المسؤولون في الاتحاد الأوروبي يعتقدون أنه بسبب العقوبات يمكنني التوجه إلى السيد بوتين وطلب وقف الحرب منه، معتقدين أن هذا الأمر يمكن أن ينجح، فإني أخشى أننا في مشكلة كبيرة. فهذا يعني أن الأشخاص الذين يتخذون القرارات لا يفقهون شيئاً حول طريقة سير الأمور فعلياً في روسيا. وهذا يشكل خطراً مستقبلاً".
ثروة فريدمان كانت تقدّر بنحو 14 مليار دولار قبل الحرب، حسب "بلومبرغ". وتراجعت اليوم إلى نحو 10 مليارات دولار موجودة على الورق فحسب، إذ بات الملياردير في وضع غريب كشخص ينتمي إلى النخبة الأوليغارشية في روسيا، فيما لا يمتلك أي سيولة نقدية.
وحين اتبعت المملكة المتحدة خطى الاتحاد الأوروبي وفرضت عقوبات على فريدمان في 15 مارس، جرى تجميد آخر بطاقة مصرفية له في بريطانيا. وقال لي إنه الآن بات عليه التقدم بطلب للحصول على ترخيص من أجل إنفاق المال، ويعود إلى الحكومة البريطانية أن تقرر ما إذا كان الطلب "منطقياً" أم لا. وعلى ما يبدو، سيعني ذلك حصوله على مصروف شهري لا يتجاوز 2500 جنيه إسترليني. أعرب فريدمان عن غضبه إزاء ذلك، لكنه كان حذراً بألا يقارن مشكلاته بمعاناة الأوكرانيين الموجودين تحت نيران الحرب. وقال: "مشكلاتي لا تقارن بمشكلاتهم".
هذه العقوبات على فريدمان لا تشكل سوى جزء من حزمة من الإجراءات التي جعلت روسيا أكثر دولة ترزح تحت وطأة العقوبات في العالم، إذ تلقى اقتصادها ضربات مدمرة بسبب إجراءات مثل: تجميد معظم احتياطات المصرف المركزي الروسي البالغة 640 مليار دولار، وطرد بعض من أكبر مصارف البلاد من نظام "سويفت" للتحويلات المالية، وحظر أو الحدّ من استيراد النفط الروسي. ومن المتوقع أن يتقلّص حجم الاقتصاد الروسي بنسبة 35% في الربع الثاني من العام الحالي.
الاقتصاد الروسي قد ينمكش بأكثر من 10% العام الجاري بسبب العقوبات
النخبة الأوليغارشية
لكن الخطوات التي استقطبت القدر الأكبر من الاهتمام كانت تلك المتعلقة بتجميد أصول النخبة الأوليغارشية الروسية التي تضم قائمة لامتناهية من أصحاب المليارات، مالكي يخوت وطائرات خاصة وقصور في بعض أرقى مناطق الغرب، مثل لندن وجنوب فرنسا وبحيرة كومو في إيطاليا (يقول فريدمان إنه لا يمتلك أي عقارات عدا منزله في لندن ومنزل في موسكو وشقة لوالديه في لاتفيا، ولا يملك أي يخوت أو طائرات خاصة يمكن أن تصادرها السلطات).
ومع النظر إلى مشاهد تدمير القوّات الروسية للبلدات في أوكرانيا، وقتل المدنيين الأبرياء، باتت صور اليخوت المصادرة تمثل نوعاً من المواساة بالنسبة إلى الجمهور.
وفي الحقيقة، إن تساؤل فريدمان "لماذا أنا؟" قد يمثل نقطة جانبية، إذ يقول سيرغي بارخومينكو، الاستشاري في "معهد كينان" في "مركز وودرو ويلسون" في واشنطن: "العقوبات الفردية ضد النخبة الأوليغارشية ليست أداة محددة ودقيقة، أعرف كثيرين منهم في روسيا ممن هم أسوأ من فريدمان وأفين بكثير، العقوبات ليست أداة عادلة، إنها أداة تدمير كليّ".
من جهة أخرى، يقول آدم سميث، الشريك في شركة المحاماة "غيبسون ودون وكراتشر" والمسؤول السابق في وزارة الخزانة الأمريكية، الذي قدم استشارات حول العقوبات بين عامَي 2010 و2015، إنّ هذه الطريقة تُعَدّ "نهجاً غير مباشر، إذ ترى إحدى الاستراتيجيات أن فرض عقوبات على النخبة الأوليغارشية المقربة من بوتين سيجعل أفرادها يضغطون عليه". وأضاف: "سبق للولايات المتحدة أن فرضت عقوبات على أوليغارشيين في عام 2014، ثمّ على عدد منهم في عام 2018، لكن نجاح هذه الاستراتيجية غير واضح، سواء من ناحية توقف الأوليغارشيون عن دعم بوتين، أو من ناحية تضررهم من ذلك".
التفلت من العقاب
وبالنسبة إلى نتائج العقوبات التي فُرضت حتى الآن فهي متفاوتة، إذ إنّ بعضها أصاب هدفه، بينما أخطأ البعض الآخر أو كان تأثيره بسيطاً جداً.
من جهتها، لم تفرض الولايات المتحدة عقوبات على فريدمان وأفين وشريكهما جيرمان خان. وبينما فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على فريدمان وأفين كأفراد، فإن كلاً من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لم يفرض إلا قيوداً مخففة على مصرف "ألفا بنك" الذي يُعَدّ مصدر الجزء الأكبر من ثروتهما. كما توجد تناقضات أخرى أيضاً، إذ فرضت كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات على أليشر عثمانوف، الذي مُنع من استخدام يخته وطائرته الخاصة، لكن الولايات المتحدة استدركت فوراً وأعطت بعض شركاته ترخيصاً للاستمرار في العمل. كذلك تمكّن بعض الأهداف الكبرى من تفادي العقوبات، فمصرف "غاز بروم بنك" (Gazprombank) التابع للدولة لم يجرِ المساس به بشكل عامّ، بسبب الدور المركزي الذي يلعبه في تجارة الغاز في أوروبا.
المخاوف تخيم على صناعة اليخوت مع تزايد العقوبات على الأثرياء الروس
عهد بوتين
وحجة فريدمان الرئيسية التي تتمثل بأنه لا يستطيع التأثير في الكرملين، تُظهِر تغيّر دور أصحاب المليارات الروس بشكل كبير منذ التسعينيات. حينها، كان فريدمان واحداً من الأوليغارشيين السبعة الأصليين، المعروفين باسم "سيميبانكيرشينا" (semibankirschina)، وهم من دعموا مجتمعين حملة إعادة انتخاب الرئيس بوريس يلتسن، وكان لديهم تأثير كبير في الكرملين حينها.
لكن حين وصل بوتين إلى السلطة في عام 2000 فرض واقعاً جديداً من خلال نموذجه الخاص، الذي كان كالتالي: إذا لم يتدخلوا في السياسة فيمكنهم الاستمرار في ممارسة أعمالهم.
ودمّر بوتين الأوليغارشيين الذين انتهكوا هذا الاتفاق، وأبرزهم ميخائيل خودوركوفسكي الذي سُجن لعشر سنوات بعد أن حاول الدخول إلى عالم السياسة. وخلال فترة حكمه على امتداد 22 عاماً، أسهم بوتين في صعود جيل جديد من الأوليغارشيين ممن بنوا ثروتهم منذ عقود مع الدولة، وإدارة شركات مملوكة من الدولة.
وبالنسبة إلى فريدمان فإن العقوبات تضع حداً للجهود التي بذلها طوال عقود للحصول على القبول خارج روسيا. فعلى امتداد عشرين عاماً، قام هو وأفين بزيارات سنوية إلى واشنطن التقى خلالها أعضاء في الكونغرس ومسؤولين في مؤسسات بحثية، من أجل ترسيخ ما يسمّيه فريدمان بـ"العلاقة البنّاءة" بين الأمريكيين والروس في قطاع الأعمال، إذ لطالما جرى التوجه إليهما للاطلاع على رؤيتهما حيال المشهد السياسي الروسي المتغير باستمرار.
وفي عام 2004 أنشآ برنامج الزمالة "ألفا" الذي موَّل أكثر من 200 أمركي وبريطاني وألماني للعمل والسفر إلى روسيا، في مسعى لـ"تعزيز معرفة روسيا في الغرب".
العلاقات مع الغرب
وأخبرني فريدمان أنه حين بدأ الحديث عن العقوبات توقع أن تسهم هذه العلاقات في حمايته. وقال: "كنّا نعتقد أننا أصدقاء جيدون جداً حقاً بالنسبة إلى الغرب، لدرجة أنه لا يمكن إخضاعنا للعقوبات"، وأضاف: "يوجد على الأرجح مئات الخريجين من برنامج زمالة (ألفا)، وكثير منهم أشخاص ناجحون جداً".
ويُعَدّ كل من فريدمان وأفين من بين أبرز أصحاب المليارات الذين باعوا استثماراتهم في روسيا. ففي عام 2013 حصلت مجموعة "ألفا" على 14 مليار دولار من بيع شركة النفط "تي إن كي – بي بي" (TNK-BP) إلى شركة "روسنفت" (Rosneft) المملوكة من الدولة، في صفقة أُبرمت قبل عام من إلحاق بوتين شبه جزيرة القرم الأوكرانية بروسيا، ما أدى إلى الجولة الأولى من العقوبات.
سويسرا تحرم روسيا ساعاتها الفاخرة محاكية العقوبات الأوروبية
وبدا حينها أن فريدمان وأفين انسحبا من روسيا في الوقت المناسب، على الرغم من أنهما احتفظا ببعض الأصول هناك، منها مصرف "ألفا بنك"، وحصة في "إكس 5"، أكبر سلسلة متاجر بقالة في البلاد، واستثمرا الإيرادات التي حصلا عليها في مجموعة من الأصول في أوروبا، بينها متاجر البقالة الاسبانية "ديا" (Dia)، وشركة بيع المنتجات الغذائية الصحية "هولاند أند باريت" (Holland & Barret)، وشركة الطاقة "وينترشال" (Wintershall DEA AG).
وجمع فريدمان وشركاؤه استثماراتهم في مجال الهواتف النقالة ضمن سلسلة من الصفقات لتأسيس شركة "فيون" (Veon) برئاسة غينادي غازين الذي يحمل الجنسيتين الأمريكية والأوكرانية، والذي انضم العام الماضي إلى مجلس الاستثمار الوطني الذي أنشأه فولوديمير زيلينسكي. وبما أن فريدمان أو شركاءه لا يملكون الأكثرية في أي من هذه الشركات، فمن المتوقع أن تفلت هذه الشركات من العقوبات.
الأسباب الأوروبية
سألت فريدمان لماذا لم يغادر روسيا ولم يبِع مجموعة "ألفا" بما أنه حقق ثروة بالفعل، فأجاب: "ليس من السهل بيع شركة بهذه الضخامة"، مضيفاً: "كذلك هي الشركة التي بنيتها من اللبنة الأولى، الأمر ليس سهلاً من الناحية العاطفية أيضاً. هذه الشركات بمثابة أبناء لي".
واستخدم الاتحاد الأوروبي لقاءات فريدمان وأفين في الولايات المتحدة كأحد مبررات العقوبات، إذ أُشير إلى زيارتهما إلى واشنطن في عام 2018، ووصفها الاتحاد الأوروبي بـ"المهمة غير الرسمية لإيصال رسالة من الحكومة الروسية حول العقوبات الأمريكية والعقوبات المضادة من الاتحاد الروسي"، لكن فريدمان نفى هذا الاتهام، مشيراً إلى أن المؤسسة البحثية "أتلانتيك كونسيل" (Atlantic Council ) وجهت دعوة إليهما كما فعلت عدّة مرات سابقاً، بغرض مناقشة ما يجري في روسيا. وقال: "لم ترسلنا قطّ الحكومة الروسية تحت أي صفة".
وزعمت بروكسيل أيضاً أن فريدمان وأفين مرتبطان مع ابنة بوتبن الكبرى، ماريا، التي يقول الاتحاد الأوروبي إنها تدير مشروعاً خيرياً أنشأه مصرف "ألفا بنك" يحمل اسم "ألفا–إندو" (Alfa-Endo)، وهو برنامج رعاية صحية للأطفال الروس. ومصدر هذه المزاعم هو تقرير لوكالة "رويترز" في عام 2015، كان أشار إلى عمل ماريا على المشروع في أثناء دراستها لدرجة الدكتوراه. وقال فريدمان: "لم تعمل معنا قط تحت أي صفة، لم أرَها في حياتي ولا أعرف حتى مَن هي".
العلاقة مع الكرملين
يشير فريدمان إلى إنه حاول تجنب التدخل في السياسة، على الرغم من صعوبة مثل هذا الأمر بالنسبة إلى ملياردير يشرف على أحد أكبر دافعي الضرائب في روسيا. وعلى أرض الواقع، اضطر إلى الحفاظ على نوع من التوازن، إذ كان صديقاً لبوريس نيمتسوف، قائد المعارضة الذي اغتيل قرب الكرملين في عام 2015. وفي العام التالي شارك في وثائقي روسي حول نيمتسوف إلى جانب عدد آخر من قادة المعارضة، في خطوة غير مألوفة لأوليغارشي روسي، إذ أعرب عن ندمه لأنه لم يمضِ إلا قليلاً من الوقت مع نيمتسوف في السنوات التي سبقت وفاته بسبب قلقه من أن يضر ذلك بأعماله.
لكن خطواته الأخرى كانت أكثر تناغماً مع رغبته في تفادي إغضاب الكرملين، ففي عام 2012 طلب من فلاديمير أشوركوف الذي كان حينها يشغل منصباً كبيراً في مجموعة "ألفا" أن يتنحى عن منصبه لأنه كان يعمل مع زعيم المعارضة أليكسي نافالني.
من جهته، قال أشوركوف الذي يشغل حالياً منصب المدير التنفيذي لمؤسسة مكافحة الفساد التابعة لأليكسي نفالني: "قال فريدمان إنهم مضطرون إلى التعامل مع السلطات يومياً ولا يريدون التورط في السياسة"، وأضاف: "أتفهم وجهة نظره، إذا كنت تدير شركة كبرى في روسيا، وحتى إذا كنت لا توافق على ما تقوم به الحكومة، فستكون مضطراً إلى الحفاظ على علاقة جيدة معها لتجنب التعرض لحملات مضادة أو غيرها من العقوبات".
ولم يُدرَج اسم أي من فريدمان وأفين على قائمة نافالني الشهيرة لعام 2021، التي تضمنت أسماء 35 من النخبة الأولغراشية يتعين فرض عقوبات عليهم بسبب ارتكابهم انتهاكات تتعلق بحقوق الإنسان وتورطهم بالفساد.
يخت أبراموفيتش الفاخر يستقر في تركيا مع قرب بيع نادي تشيلسي
مع ذلك، لا يزال كثيرون يرون أن فريدمان يُعَدّ أحد كبار المنتفعين من نظام بوتين ويستحق العقوبات. ومنهم إليا كاسلافسكي الذي سبق أن عمل في "تي إن كي – بي بي" حتى عام 2010، وانضم حالياً إلى مركز المؤسسات الخاصة الدولية في واشنطن، ودعا إلى فرض عقوبات على فريدمان وأفين في إطار قائمة من ثمانية مليارديرات أعدّها في عام 2021، وأطلق عليها تسمية "كرمليغارش" بسبب قرب هؤلاء من بوتين. وأشار كاسلافسكي في تقريره إلى عمل مجموعة "ألفا" مع شخصيات مرتبطة من كثب بالكرملين، بينهم ألكسندر فينوكوروف، وهو صهر وزير الخارجية سيرغي لافروف الذي كان بين عامَي 2014 و2017 يدير شركة "إيه 1" (A1)، الذراع الاستثمارية لـ"ألفا". مع العلم أن كلاً من الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة فرض عقوبات على فينوكوروف.
شريكه أفين
في هذا الإطار، رفع فريدمان وشركاؤه عدّة دعاوى قضائية ضد صحفيين في مساعٍ للتصدي لمزاعم حول قربهما من الكرملين.
في قرار العقوبات، تحدث الاتحاد الأوروبي عن أفين أكثر من فريدمان. ووصف أفين بأنه واحد من نحو 50 رجل أعمال ثرياً روسياً يلتقون دورياً مع بوتين في الكرملين، مقتبساً من تقرير مولر حول التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية عام 2016.
قال أفين للمحققين التابعين لمولر: "أي اقتراح أو انتقاد أدلى به بوتين خلال هذه اللقاءات كان عبارة عن توجيهات ضمنية"، فيما اعتبر الاتحاد الأوروبي أن أفين "لا يتصرف بشكل مستقل عن مطالب الرئيس".
عن ذلك يقول فريدمان إنه لم يعقد أي لقاء ثنائي قطّ مع بوتين، إلا أنه اجتمع به ضمن مجموعة من قادة الأعمال، مشيراً إلى أنه لا يعطي لقاءات أفين مع بوتين أهمية كبيرة. وقال: "فارق السلطة بين السيد بوتين وأي شخص آخر أشبه بالفارق بين الأرض والسماء"، وأضاف: "السيد أفين كان فقط ينظر إلى الموضوع بطريقة: شكراً جزيلاً لإتاحة الوقت لي". واعتبر فريدمان أن قول أي شيء عن الحرب لبوتين سيكون "أشبه بالانتحار" بالنسبة إلى أي شخص.
تغيّر الأحوال
على الرغم من أن الولايات المتحدة لم تفرض عقوبات على فريدمان، فإنّ الإجراءات التي اتخذها الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة أدت إلى تجميد حساباته. ففي اليوم التالي لإعلان بروكسيل قرار العقوبات توقفت بطاقته المصرفية عن العمل، والآن بات عليه التفكير في كيفية سداد تكاليف أمور بسيطة، كرواتب عمّال تنظيف منزله. وقال مع ضحكة متوترة: "ربما وجب أن أنظِّف بنفسي"، مضيفاً: "لا بأس بذلك، كنت أقيم في غرفة صغيرة ضمن مهجع مع أربعة شبان آخرين حين كنت طالباً، ولكن بعد 35 عاماً؟ هذا أمر غير متوقع".
استقال كل من فريدمان وأفين من جميع مجالس إدارات شركاتهما وتخليا عن مناصبهما الإدارية، بما في ذلك المناصب في "ألفا بنك" و"ليتر وان"، إذ طلب منهما مجلس إدارة "ليتر وان" عدم العودة إلى مكاتبهما. كذلك استقال شركاؤهما خان وأليكسي كوميشيف وأندري كوسوغوف من "ليتر وان" في الوقت عينه الذي أعلن فيه مجلس إدارتها عن التبرع بمبلغ 150 مليون دولار لدعم جهود الإغاثة في أوكرانيا.
حالياً، يقول فريدمان إنّ لديه شهرين للطعن بعقوبات الاتحاد الأوروبي. ولهذا الغرض يتعاون مع روجير غيرسون، المحامي اللندني المعروف سابقاً بعمله مع عملاء روس في شؤون تتعلق بالتأشيرات، لا بالعقوبات.
يحمل فريدمان جواز سفر إسرائيلياً، ولكن حين سألته عما إذا كان يعتزم الانتقال إلى إسرائيل استبعد الفكرة، فهو لا يملك منزلاً هناك، ولا يستطيع الحصول على المال ليشتري منزلاً. وقال: "أنا سجين هنا".
"غير منطقية"
في سياق حديثنا، كرر فريدمان أكثر من مرّة رأيه بأن العقوبات "غير منطقية"، ففي حين فرض الاتحاد الأوروبي عليه عقوبات شاملة، لم تقُم أوروبا ولا الولايات المتحدة إلا بالحدّ من قدرة "ألفا بنك" على التمويل بالدَّين أو التمويل بالأسهم لفترة استحقاق أطول من 14 يوماً. فهل يعني هذا أنه يدعو الحلفاء لفرض عقوبات أكثر تشدداً على "ألفا بنك"؟
يجيب فريدمان: "لا أعتقد أنها ستكون ذات نتيجة، ولن أكون فرحاً بذلك، ولكن على الأقل سوف أفهم دافعهم"، مضيفاً: "لا أفهم المنطق الذي دفعهم إلى فرض عقوبات عليّ. وجهة النظر السائدة لدى الأشخاص الغربيين العاديين هي: هؤلاء الأوليغارشيون الطمّاعون يستطيعون التوجه إلى بوتين وطلب توقفه عمّا يقوم به"، وتساءل: "لماذا يعتقدون ذلك؟".
قبل لقائنا بفترة وجيزة، تلقى فريدمان اتصالاً من صديق أوكراني كان يساعد أقرباء له على مغادرة خاركيف، ثاني أكبر مدن أوكرانيا التي تعرضت للقصف العشوائي من القوات الروسية. وعرض عليه فريدمان شقة والديه المكونة من غرفتَي نوم في مدينة لفيف التي لم تتعرض حتى الآن لضربات روسية مباشرة. ويقول إنّ الشقة باتت اليوم منزلاً مؤقتاً لـ15 لاجئاً.
في غضون ذلك، لا تزال المنظمات اليهودية في أوكرانيا تسأل: أين التبرعات ذات الـ10 ملايين دولار التي أعلنت عنها منظمته؟
وبعد بضعة أيام من لقائنا، فرضت المملكة المتحدة عقوبات على فريدمان، وهذه المرّة بادر فريدمان للاتصال بي ليخبرني فقط بأن الأمور زادت سوءاً. وبدا حائراً من أمره وهو يقول لي: "لا أعرف كيف أعيش، لا أعرف، حقاً لا أعرف".