ما من موضوع تختلف حوله آراء الاقتصاديين، مثل موضوع دور الحكومة في الاقتصاد. فبينما يسعى اليساريون منهم إلى تضخيمه، يقصر ذوو التوجهات اليمينية هذا الدور على تصحيح إخفاقات السوق. لكن على ما يبدو، هناك اليوم أرضية مشتركة بين هاتين الفئتين لمفهوم جديد، ألا وهو: الدولة الرأسمالية الاستثمارية.
أظهرت عمليات طرح اللقاحات ضد فيروس كورونا في المملكة المتحدة والولايات المتحدة، أن الحكومات يمكن أن تكون كبيرة ورأسمالية للغاية. فقد شهدت "عملية السرعة القصوى" (Operation Warp Speed) في الولايات المتحدة، تخصيص تمويل أولي قدره 10 مليارات دولار من الأموال الفيدرالية، للشراكة مع سبع شركات أدوية، بغرض تطوير العقارات التجريبية. وبالمثل، قدم فريق عمل اللقاحات البريطاني 900 مليون جنيه إسترليني (1.2 مليار دولار) من الالتزامات النقدية المدفوعة مقدماً، لتمويل مجموعة من اللقاحات التي لم تخضع للاختبار.
اقرأ أيضاً: خسائر بنك إنجلترا البالغة 3 مليارات جنيه إسترليني تتحول قريباً إلى مشكلة لوزارة المالية
المبالغ التي تضمنتها كلتا المبادرتين الحكوميتين، ضخمة. لكن اللافت أكثر، هو طريقة توزيعها، حيث تمت المخاطرة بأموال دافعي الضرائب على أمل أن رهاناً واحداً أو اثنين سيؤتيان ثمارهما. لم يكن من قبيل المصادفة أن تترأس كيت بينغهام فريق العمل في المملكة المتحدة، والتي شغلت في ذلك الوقت منصب المديرة الشريكة في شركة "إس في هيلث إنفستورز" (SV Health Investors) المتخصصة في إدارة رأس المال الاستثماري في مجال علوم الحياة.
اقرأ المزيد: الاقتصاد البريطاني ينمو في 2021 بأعلى وتيرة منذ الحرب العالمية الثانية
برنامج إنفاق كبير
وجدت المملكة المتحدة داعماً لهذا النموذج الاقتصادي في ريشي سوناك، وزير الخزانة المنتمي إلى حزب المحافظين. قبل سبع سنوات، كان سوناك من المؤمنين صراحة بالدولة الصغيرة عندما أصبح عضواً في البرلمان، لكنه -مثل جميع وزراء المالية خلال جائحة كورونا- تعلَّم تبني الإنفاق الكبير.
من بين العديد من برامج الطوارئ المتعلقة بـ"كوفيد" التي بدأها سوناك خلال عامين قضاهما في منصبه، يبرز برنامج واحد. في مطلع عام 2020، أطلق وزير الخزانة البريطاني صندوق إنقاذ للشركات الناشئة. في البداية، تم رصد 250 مليون جنيه إسترليني كحد أقصى للاستثمار المشترك مع القطاع الخاص، وانتهى الأمر بصندوق "فيوتشر فاند" (Future Fund) بضخ 1.1 مليار جنيه إسترليني في 1190 شركة عبر قروض قابلة للتحويل، والتي تتحول إلى أسهم ملكية ما لم يتم سدادها في غضون 36 شهراً. بهذا المبلغ -ما يعادل جنيهاً إسترلينياً واحداً في كل 15 جنيهاً إسترلينياً خصصت لرأس المال الاستثماري في عام ما قبل الجائحة، وفقاً لتحليل أجرته شركة "ليغال آند جنرال غروب" (Legal & General Group) للخدمات المالية- صنّفت الحكومة البريطانية كواحدة من أكبر مصادر رأس المال الاستثماري في عام 2020.
أصر سوناك على تصميم البرنامج بنفسه، وصياغة مذكرات الشروط والأحكام، واختيار القروض القابلة للتحويل كأسلوب للاستثمار بدلاً من الاستثمار المباشر، عبر تحديد حصة مسبقة من قيمة الشركات لتجنب أي تعطيل للمساعدات الحكومية. كان وزير الخزانة يلعب في ملعبه، حيث عمل في بنك غولدمان ساكس قبل الانضمام إلى صندوق التحوط "ثيلام بارتنرز" (Thélème Partners)، الذي أرسله في عام 2010 إلى كاليفورنيا، للاستثمار في شركات التكنولوجيا وشركات الأدوية الواعدة.
مشروع تمويلي
ساعدت الفترة التي قضاها سوناك في "وادي السيليكون" في تشكيل قناعته بأن إعادة شحن محرك الإنتاجية المتعثر في المملكة المتحدة، هو في النهاية مشروع تمويلي. وإذا كان ضمان أن تحصل صناعات المستقبل على الدعم الذي تحتاج إليه، يتطلب تحفيز رأس المال الخاص باستخدام أموال الدولة، فليكن الأمر كذلك.
يقول راندي كروسزنر، أستاذ الاقتصاد في كلية "بوث لإدارة الأعمال" في جامعة شيكاغو: "إن المغامرة بالأموال تشكل إستراتيجية ناجحة". تشتهر الكلية بالترويج للحكومة الصغيرة، لكن كروسزنر تحول إلى تأييد نموذج رأس المال الاستثماري المتجسد في "عملية السرعة القصوى". ويضيف: "أنت بحاجة إلى شراكات فاعلة بين القطاعين العام والخاص، كما أنك بحاجة إلى قطاع عام يتحمل المخاطر".
منذ ذلك الحين، جعل سوناك برنامج الطوارئ دائماً. وفي إطار "فيوتشر فاند" المعاد تسميته بـ"فيوتشر فاند: بريكثرو" (Future Fund: Breakthrough)، خصص مبلغاً أولياً بقيمة 375 مليون جنيه إسترليني لـ"الشركات المبتكرة ذات النمو المرتفع"، واتخذ خطوة ترفضها الحكومات الأخرى على الرغم من الدرس المستفاد من الوباء للمغامرة برأسمال دافعي الضرائب بشكل مباشر.
وكالة أبحاث متقدمة
من ثم، تتجاوز خطط سوناك لدولة رأس المال الاستثماري تجربة "فيوتشر فاند" بكثير. فهو يسعى إلى تمويل كل مرحلة من مراحل دورة حياة الشركات الناشئة من خلال المنح، وحقوق الملكية، والتمويل لمديري الأصول بغرض زيادة حجم منظومة بيئة رأس المال الاستثماري المحلي، والإصلاح التنظيمي لإزالة العقبات التي تقف حائلاً أمام الاستثمار. ومستلهماً تجربة "وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة" (Defense Advanced Research Projects Agency) المدعومة من الولايات المتحدة، والتي يشار إليها اختصاراً بـ"داربا" (DARPA)، التي مهّد عملها الطريق لابتكار أجهزة الكمبيوتر الشخصية والإنترنت وغيرها من الابتكارات الرائدة، خصص وزير الخزانة البريطاني 800 مليون جنيه إسترليني لإنشاء النسخة البريطانية لوكالة رائدة لتمويل الابتكارات تحت اسم "وكالة الأبحاث المتقدمة والاختراع" (Advanced Research and Invention Agency)، أو "أريا" (ARIA). وفي هذا السياق، ستقدم "أريا" منحاً لتمويل المراحل المبكرة من أبحاث "المشاريع التي تتمتع بالإمكانات لإحداث تغيير تكنولوجي تحويلي".
من جهةٍ أخرى، صُممت تدخلات الدولة الأخرى لمعالجة أوجه القصور في القطاع الخاص، حيث تم تجهيز شركة "بريتش بيشنت كابيتال" (British Patient Capital)، التي تأسست في عام 2018 كذراع لـ"بنك الأعمال البريطاني" (British Business Bank) التابع للحكومة، بتمويل بلغت قيمته 2.5 مليار جنيه إسترليني، والذي يمكن لمديري صناديق رأس المال الاستثماري الاستفادة منه. وتهدف تلك المبادرات إلى تعميق أواصر المنظومة المحلية لرأس المال الاستثماري، بغرض مساعدة الشركات الناشئة على عبور مرحلة "وادي الموت"، وهي المرحلة التي يرغب فيها المستثمرون الأوائل في جني الأرباح، بينما لا تزال الشركة بحاجة إلى دعم لخطة عمل لم تثبت نجاحها بعد. مؤخراً، حصلت "بريتش بيشنت كابيتال" على أول حصتين من الأسهم المباشرة.
أموال صناديق التقاعد
أيضاً، يوشك سوناك على تغيير القواعد التي تحكم استثمارات صناديق التقاعد للسماح لأمنائها بتوجيه المزيد من الأموال إلى الشركات التي لم يتم طرحها للاكتتاب العام بعد، حيث توجد 0.3% فقط من أصول تقدر بـ500 مليار جنيه إسترليني تشكل قوام خطط التقاعد محددة المساهمة في المملكة المتحدة في صورة حقوق ملكية غير مدرجة، مقارنة بـ 4% في أستراليا.
ربما تم اختيار بعض أفكار سوناك مباشرة من كتب ماريانا ماتزوكاتو، أستاذة الاقتصاد في "كلية لندن الجامعية"، والتي عملت سابقاً كمستشارة لجيريمي كوربين، الزعيم الاشتراكي السابق لحزب العمال. باستثناء أن ماتزوكاتو -التي يشير أحدث كتبها بعنوان: "اقتصاد المهمة: دليل طموح لتغيير الرأسمالية"، إلى نجاح برامج تمويل إنتاج اللقاحات- تؤكد أنه ينبغي على الدولة ألا تكتفي فقط بالتخلص من المخاطر لاجتذاب رأس المال الخاص، بل يتعين عليها كذلك المطالبة بالحصول على عوائد عادلة للقيام بهذا الدور، شأنها في ذلك شأن أي مستثمر.
تقول مازوكاتو: "لقد تم تمويل وادي السيليكون على نطاق واسع"، في إشارة إلى الاختراعات التي تمولها الدولة مثل نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، وتقنية الشاشات التي تعمل باللمس، متسائلةً: "لماذا طغى الطابع الاشتراكي على تأميم المخاطر، بينما تجلت الرأسمالية في خصخصة الأرباح؟". فاليوم، الشركات الناشئة في قطاعات علوم الحياة والتقنيات الخضراء بحاجة شديدة إلى تطبيق نظريتها بشأن الرأسمالية القائمة على رأس المال المغامر، على حد قولها.
مخاطر الفشل
على الجانب الآخر، تشكل مخاطر الفشل إحدى العقبات التي تحول دون إدارة الدولة لرأس المال الاستثماري. في المملكة المتحدة، تعرّضت الحكومة للهجوم بسبب بعض استثمارات صندوق "فيوتشر فاند" التي تمت أثناء الوباء. فدافع الضرائب البريطاني يمتلك الآن 8% من فريق "بولتون واندرارز" لكرة القدم الذي ينتمي إلى دوري الدرجة الثالثة. كما أن لديه حصصاً في سلسلة مقاهي وشركات مراهنات -وهي شركات تأهلت رسمياً للانتفاع من برنامج الطوارئ بينما يصعب وصفها بأنها شركات المستقبل. يقول "تحالف دافعي الضرائب" (The Taxpayers Alliance)، وهو جماعة حقوقية، إن الحكومة بحاجة إلى إظهار أن الاستثمارات "تحقق قيمة مقابل المال".
الساسة.. والرهانات الخاسرة
لكن لسوء الحظ، يميل السياسيون ووسائل الإعلام إلى التركيز على الرهانات الخاسرة وتجاهل الرهانات الرابحة، كما يقول كروسزنر: "ومع ذلك، يجب أن تنظر إلى المحفظة الشاملة. إذا لم يخاطر رأس المال الاستثماري، فلن يحقق عائداً يبلغ مئة ضعف". تتلخص وجهة نظر كروسزنر في أنه مقابل كل "بولتون واندرارز"، هناك "تيفا موتورز" (Tevva Motors)، الشركة المصنعة للشاحنات الكهربائية التي جمعت 90 مليون دولار حتى الآن، والتي وصف مؤسسها، آشر بينيت، بأنه ندّ إيلون ماسك في مقاطعة إيسيكس. أو شركة "أورانج أوكس" (OrganOx)، وهي شركة تقنية طبية طورت جهازاً لتخزين الكبد قبل زراعته.
المطالبة بالعوائد
من ثم، تتخذ المملكة المتحدة خطوات مبدئية نحو تحقيق رؤية ماتزوكاتو لتقاسم الأرباح. تريد الحكومة تحصيل عائدات مالية من كل من صندوق "فيوتشر فاند" و"بنك الأعمال البريطاني". كما يجري إلحاق تلك الشروط ببرامج المنح، إذ يجب على المستفيدين من جائزة الذكاء الاصطناعي في قطاع الصحة والرعاية المقدمة من "هيئة الخدمات الصحية الوطنية"، والبالغة قيمتها 140 مليون جنيه إسترليني، والتي تجمع بين التمويل والوصول إلى بيانات الصحة العامة القيّمة، توقيع عقد ينص على أنه قد يتعين عليهم مشاركة "العوائد أو/ بالإضافة إلى أي تعويض نقدي مناسب آخر". وعلى ضعفه، فإن الشرط سالف الذكر يؤسس لمبدأ أن الدولة لها الحق في المطالبة بالعوائد.
من جانبها، تفي شركة "بريتش بيشنت كابيتال" بالتزاماتها. ذكرت كاثرين لويس لا توري، الرئيسة التنفيذية لـ"بنك الأعمال البريطاني"، أن الشركة أبلغت عن معدل عائد داخلي بلغ 25% في عام 2021، والذي يأتي على رأس هدفها الاشتراكي المتمثل في استخدام أموال الدولة لتحفيز المستثمرين المترددين من القطاع الخاص على الانخراط في التمويل.
تكلفة التحوّل
لقد كان التحول إلى نموذج رأس المال المخاطر لبرامج اللقاحات في خضم الجائحة خياراً سهلاً. قالت بينغهام، رئيسة فريق العمل، في خطاب ألقته في نوفمبر الماضي، إن الحكومة "فعلت ذلك لأنها أدركت أن تكاليف الشراكة في تمويل إنتاج اللقاحات تتضاءل مقارنة بالتكلفة الاقتصادية للإغلاق".
قدّر توماس فيليبسون، رئيس المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترمب، والذي ساعد في تصميم الإجراءات التنظيمية المتداخلة والضرورية لنجاح "عملية السرعة القصوى" مثل التمويل المسبق، أن تكلفة طرح اللقاحات في السوق قبل الموعد المحدد بستة أشهر، بلغت 1.8 تريليون دولار.
لذلك، سيكون التحدي هو ما إذا كان بإمكان الحكومات التمسك بنموذج رأس المال المغامر، حينما لا تكون العوائد واضحة.