في ضواحي كولومبوس بولاية أوهايو الأمريكية، حيث أعيد بناء بقايا قناة عمرها 200 عام لربط كليفلاند بطريق سينسيناتي الملتفة حول ساحات المستودعات الجديدة، يتسع رافد جديد يرفد الاقتصاد العالمي أكثر قليلاً، مع هدير كل حمولة من البضائع على طول المدرج. لطالما كان مطار "ريكنباكر" الدولي مركزاً مزدحماً بعمليات الشحن الجوي قبل جائحة كورونا بفترة طويلة. فقد كان الشعار دوماً أن الشُّحنات تصل من هناك في يوم واحد إلى نصف سكان الولايات المتحدة. غير أنه خلال العامين الماضيين، لعب المطار الشهير دوراً آخر، حيث كان بمثابة صمام الإغاثة الاقتصادي في مجال قطع غيار السيارات، والمنتجات الاستهلاكية، والمستحضرات الصيدلانية، التي كانت تتدفق في شرايين التجارة الأمريكية الأبرز التي عانت ما يشبه الشلل.
اقرأ أيضاً: عودة شبح تكدّس الحاويات من جديد
في هذ الإطار، سيّر المطار، الذي كان سابقاً قاعدة جوية خلال الحرب العالمية الأولى، عدداً قياسياً من الرحلات بلغ 1655 شحنة دولية في عام 2021، بزيادة قدرها 73% مقارنة بعام 2019، مع زيادة الحمولة الإجمالية بنسبة 18%. تأتي طائرات الشحن وطائرات الركاب المعاد تهيئتها إلى مطار "ريكنباكر" قادمةً من آسيا والشرق الأوسط، حيث تديرها شركات الشحن التابعة لخطوط طيران "كاثي باسيفيك"، و"طيران الإمارات"، والخطوط الجوية الكورية، والخطوط الجوية القطرية، والخطوط الجوية التركية، والعديد من شركات الشحن الأخرى. في الجوار توجد مراكز توزيع لشركات تتراوح من "ميسيز" (Macy’s) إلى "غوديير تاير آند ربر" (Goodyear Tire & Rubber)، وعلى بعد 25 ميلاً شمالاً، تقوم شركة "إنتل كورب" (Intel Corp) ببناء مصنع بقيمة 20 مليار دولار لتصنيع أشباه الموصلات، في قلب حزام الصدأ، للتخفيف من النقص المحلي في الرقائق.
اقرأ المزيد: صناعة شحن الحاويات تجني كثيراً من المال.. لكن إلى متى؟
"كان لدينا قطاع شحن جيد قبل الجائحة، لكنه ازدهر منذ تفشي الوباء"
فيما يسطّر "كوفيد-19" فصلاً جديداً في تاريخ المطار -الذي اعتبرته "وحدة طيارين توسكيجي" التابعة للطيارين ذوي البشرة السمراء بمثابة منزل لها في السابق، كما فعل "جناح طياري القوات الجوية النسائية"- يظهر مطار "ريكنباكر" كيف تمتص الهندسة المعمارية القديمة للعولمة الصدمات، وتغير هيأتها لهذا الغرض. يقول جوزيف ناردوني، المدير والرئيس التنفيذي لهيئة مطار كولومبوس الإقليمي، التي تدير "ريكنباكر": "كان لدينا قطاع شحن جيد قبل الجائحة، لكنه ازدهر منذ تفشي الوباء".
مواصلة النمو
على الرغم من أن حجم التغيير الذي شهده المطار لم يبلغ ما يسميه الاقتصاديون بالتغيير الهيكلي حتى الآن، إلا أن ناردوني متفائل بأن الأعمال الإضافية خلال فترة تفشي الوباء لن تختفي مع تلاشي الفيروس. لكن يظل السؤال المهم، كما يقول، هو: ماذا يحدث عندما يعود سفر الركاب إلى طبيعته؟ بما يسمح للشحن الجوي الدولي باستغلال القدرات التجارية للولايات المتحدة مرة أخرى من خلال القنوات التقليدية، مثل المحاور الجوية الساحلية، بالإضافة إلى بطون طائرات الركاب. يتوقع الرئيس التنفيذي لهيئة مطار كولومبوس الإقليمي أن يكون هذا العام "مشابهاً جداً لعام 2021". وقال: "نحن واثقون تماماً من أننا سنواصل النمو".
تنتشر في قلب الولايات المتحدة الصناعي، أمثلة على كيفية تكيف بعض الحلقات في سلسلة التوريد، للمحافظة على دوران عجلة التجارة، فيما تعطلت حلقات أخرى.
يقول كريس روجرز، الخبير الاقتصادي لدى شركة "فليكسبورت" (Flexport) للشحن الرقمي، في لندن: "يبدو أن القائمين على تخطيط سلسلة التوريد، أصبحوا أكثر تقبلاً لضرورة تقدير المرونة، وليس فقط التكلفة الأقل". وأضاف روجرز، أن جزءاً من هذه الفكرة يتضمن تبني "سلوكيات إعادة التوجيه"، والتي يمكن أن تشمل محاور غير تقليدية مثل مطار "ريكنباكر".
تراجع الثقة بالشحن البحري
على الرغم من أن الشحن الجوي عادة ما يكون وسيلة النقل الأغلى من حيث التكلفة، فقد أصبح الطريقة الوحيدة لضمان التسليم في الوقت المناسب، نظراً لتراجع موثوقية الشحن عبر المحيط أثناء تفشي الوباء. فقد شهدت صناعة الشحن، التي تمثل 80% من تجارة البضائع العالمية، عاماً قياسياً في 2021 بواقع إجمالي شحنات بلغ 179.1 مليون حاوية نمطية قياس 20 قدماً، بزيادة قدرها 6.6% عن عام 2020، و5.4% مقارنة بعام 2019، وذلك وفقاً للأرقام الصادرة في أوائل فبراير عن شركة إحصاءات تجارة الحاويات "كونتينر ترايدز ستاتستيكس" (Container Trades Statistics) في المملكة المتحدة.
لقد كان هذا الارتفاع في حجم صناعة الشحن مدفوعاً، إلى حد كبير، بالتجارة بين آسيا وأمريكا الشمالية، حيث قفز حجم الحاويات بنسبة 33% عن المستوى المتوسط للسنوات الخمس التي سبقت الوباء. كان الازدهار أمراً رائعاً بالنسبة إلى أرباح خطوط الشحن، لكن ازدحام الموانئ أدى إلى انخفاض معدل موثوقية الوصول في الوقت المحدد إلى أدنى مستوياته على الإطلاق. ولا تزال واردات الولايات المتحدة من آسيا تطغى على بعض أكبر موانئ البلاد، لا سيما في لوس أنجلوس ولونغ بيتش وأوكلاند.
اختلال التوازن
كانت الصادرات الأمريكية قد تراجعت مع إعطاء خطوط الشحن الأولوية لنقل الواردات، ما تسبب في اختلال التوازن، الذي ربما أدى حتى وقت قريب إلى تعطيل منافذ مثل ميناء نيو أورليانز، والذي يتعامل مع حاويات صادرات أكثر من البضائع الواردة. لكن شيئاً ما حدث للمرة الأولى منذ تسعينيات القرن الماضي، حيث بدأ المستوردون استخدام ناقلات تعرف باسم سفن البضائع السائبة، وأخرى بالمجزأة، لنقل البضائع التي كانت تنقل في الحاويات – ونيو أورليانز مجهزة للتعامل مع كليهما. وكانت النتيجة أن قفز حجم الشحنات عبر السفن الناقلة للبضائع السائبة والمجزأة إلى نيو أورليانز بنسبة 46% في عام 2021 مقارنةً بالعام السابق، ما شكل دفعة ساعدت في تخفيف انخفاض حجم شحنات الحاويات بنسبة 15%. يقول براندي كريستيان، الرئيس التنفيذي لميناء نيو أورليانز: "نحن نقوم بنقل كميات هائلة من الخشب الرقائقي والقهوة على متن سفن البضائع المجزأة، لأن مورديها لا يستطيعون الحصول على حاويات. كلما زادت المرونة التي يمكننا أن نبني عليها، كان ذلك أفضل".
مشروعات تطوير
لذلك يقوم ميناء نيو أورليانز ببناء محطة لويزيانا الدولية، حيث من المقرر أن يتم افتتاح مشروع البنية التحتية البالغة تكلفته 1.5 مليار دولار، في عام 2027. كما يجري تجريف نهر المسيسيبي على عمق 50 قدماً، لاستيعاب أكبر السفن في العالم. ويستهدف بناء المحطة الدولية الاستفادة من وصولها إلى خطوط السكك الحديدية القريبة، ومساعدة ميناء نيو أورليانز على التنافس بشكل أفضل مع الموانئ المنافسة على السواحل الشرقية والغربية والخليجية، والتي تتسابق لنقل الشحنات من وإلى العملاء في وسط الولايات المتحدة. يقول كريستيان، في إشارة إلى الغرب الأوسط: "تشكل المحطة التي تعد بمثابة ساحة معركة للتنافس على مستقبل التجارة -محل النمو السكاني؛ حيث تتم غالبية عمليات التصنيع والتوزيع- فرصة حقيقية".
الجهود جارية أيضاً لزيادة التجارة على طول نهر المسيسيبي، رغم أن نظام الحواجز والسدود الذي بني قبل 100 عام يحد من الإمكانات. وقدر تقرير صدر عام 2021 عن "الجمعية الأمريكية للمهندسين المدنيين" أن ما يقرب من 20 مليار دولار هي قيمة الإنفاق على البنية التحتية اللازمة خلال العقد المقبل لضمان الملاحة في الممرات المائية الداخلية، تواجه عجزاً قدره 12.6 مليار دولار.
الحاجة إلى بدائل
لم يمنع ذلك مجموعة من رجال الأعمال من التخطيط لطرح خيار جديد لتسيير التجارة عبر المجاري الملاحية على طول نهر المسيسيبي بداية من أبريل 2024. وبصورة تقليدية، اعتمد المستوردون والمصدرون في شيكاغو، وكانساس سيتي، ومدن أخرى في الغرب الأوسط، على خطوط السكك الحديدية المتصلة بموانئ الساحل الغربي لنقل حاوياتهم. لكن ازدحام الموانئ إثر تفشي الوباء، سلط الضوء على أوجه القصور على طول تلك الطرق، والحاجة إلى بدائل.
في أواخر عام 2021، طلبت شركة "أمريكان باتريوت كونتينر ترانسبورت" (American Patriot Container Transport) من سبعة أحواض بناء سفن، تقديم عطاءات لبناء أربع سفن تجوب المسيسيبي، بحيث يتم تصميم كل منها لنقل حوالي 1800 حاوية بين ميناء بلاكيماينز بالقرب من نيو أورليانز، ومحطات في ممفيس وسانت لويس. حالياً، يجري نقل الحاويات على متن بوارج يمكنها حمل حوالي 300 حاوية فقط على طول النهر. وبحسب سال ليتريكو، الرئيس التنفيذي لشركة نقل الحاويات: "الفرصة هنا هي إنشاء ممر تجاري جديد بين الشمال والجنوب. عندما تبدأ في النظر إلى توقعات السنوات العشر المقبلة، ستجد أن هناك فرصاً كبيرة للنمو".
تجنب تكرار الأزمة
على عكس الممرات المائية الداخلية في أوروبا، فإن تلك الموجودة في الولايات المتحدة ليست طرقاً جيدة لنقل البضائع بالحاويات. لكن يمكن أن تؤدي الرغبة في تجنب تكرار أزمات سلسلة التوريد في عصر الجائحة إلى تغيير ذلك. يقول بريان هارولد، العضو المنتدب لمحطة الحاويات المتنقلة "موبايل كونتينر تيرمينال" في ألاباما (Mobile, Ala)، وهي مشروع مشترك بين هيئة ميناء ألاباما وشركة "إيه بي إم تيرمينالز" (APM Terminals) التابعة لعملاقة شحن الحاويات "ميرسك سيلاند" (A.P. Moller-Maersk)، كما تعد جزءاً من مشروع "أمريكان باتريوت كونتينر ترانسبورت": "الموانئ الجديدة ليست مبررة وحسب، ولكن استخدام النهر شيء يرغب الناس في فعله الآن".