يواجه خوان نافارو قائمة طويلة من التحديات في إطار إدارته لشركة برامج إلكترونية في الأرجنتين تُعرف بتعرضها لأزمات متكررة.
ترزح الأرجنتين تحت وطأة التضخم الذي وصل إلى 50% في العام الماضي، في ظلّ ارتفاع الضرائب على الشركات وقوانين العمل الصارمة. إلا أن المشكلة الأكبر التي تعترض مؤسس شركة "هيكساكتا" (Hexacta)، تتمثل في التخلي الجماعي للعمّال من ذوي المهارات العالية عن وظائفهم التي تدفع لهم مرتبات بالبيزو، ليتوجهوا نحو أعمال حرّة تدفع بالدولار.
اقرأ أيضاً: تضخم الأرجنتين القياسي ينعش بطاقات الائتمان المشفرة
عانت الأرجنتين من هجرة دورية للأدمغة خلال فترات الاضطرابات التي شهدتها. لكن، على عكس ما جرى في ثمانينيات القرن الماضي وبداية الألفية، الكثير من خريجي الجامعات الضليعين بالتكنولوجيا الذين يستقيلون اليوم من وظائفهم، لا يغادرون البلاد. يقول نافارو إنه اضطر إلى استبدال حوالي 80 من أصل 600 من موظفيه في بوينس آيرس خلال العام الماضي، بعد أن قبلوا عروضاً من شركات تكنولوجيا أجنبية لا تملك أي تمثيل رسمي في الأرجنتين، لكنها تتيح للمتعاقدين معها أن يبقوا في بلادهم. وقال: "أقدّر أن حوالي 75% من الشباب بعمر الـ25 تقريباً ثنائيي اللغة الذين درسوا تكنولوجيا المعلومات، يعملون من تحت الطاولة".
اقرأ المزيد: تراجع الرهان على تخفيض عملة الأرجنتين رغم انفلات التضخم
العمل عن بعد
دفعت ثورة العمل عن بعد العديد من شركات التكنولوجيا الأمريكية للبحث عن موظفين جدد في أمريكا اللاتينية، حيث يمكنها إيجاد أشخاص يقبلون بالعمل مقابل أجر أقل بكثير من الموظفين في الولايات المتحدة. أدى ذلك إلى تخييم سحابة الحرب على المواهب في قطاع التكنولوجيا في الأرجنتين، الذي شكل واحدة من النقاط المشرقة القليلة في اقتصاد البلاد المتهالك، حيث أضاف القطاع 50 ألف وظيفة جديدة منذ عام 2017 بحسب البيانات الحكومية. ووفق تقديرات لويس غاليازي، المدير التنفيذي لشركة "أرجينكون" (Argencon)، وهي مجموعة تجارية تضم اثنتين من كبريات الشركات التكنولوجية في البلاد، "ميركادوليبر" (MercadoLibre) و"غلوبانت" (Globant)، فإن ما يصل إلى 200 ألف أرجنتيني من أصحاب الخبرة في مجالات البرمجة وعلم البيانات والتكنولوجيا الحيوية، يعملون لصالح شركات أجنبية لا تملك أي تمثيل في الأرجنتين.
أعرب وزير العلوم والتكنولوجيا والابتكار، دانيال فيلموس، عن أسفه حيال خسارة رأس المال البشري. وقال في بيان: "نحن لا نرغب في أن يقوم هؤلاء الأشخاص المحترفون الممتازون الذين يدرسون هنا ويمتلكون مهارات عظيمة في مجال البرمجة، بمغادرة البلاد، أو أن يعملوا لصالح شركات أجنبية".
تراجع القدرة الشرائية
بين هؤلاء، سيسيليا وهي سيدة من سكان بوينس آيرس تبلغ من العمر 29 عاماً وصاحبة خبرة في التحليلات. في وظيفتها الأخيرة، كان راتبها يوازي نحو 2500 دولار، إلا أن التضخم وتدهور قيمة البيزو أضعف قدرتها الشرائية. لذا في شهر ديسمبر، قبلت عرض عمل من شركة ناشئة أمريكية تدفع لها بالدولار. وهي الآن تجني أكثر من 6 آلاف دولار شهرياً من خلال العمل من داخل شقتها.
يتم إيداع راتبها في حساب مصرفي أمريكي حتى لا تطاله سلطات الضرائب الأرجنتينية. يتيح ذلك لسيسيليا أن تحول دولاراتها إلى بيزو في سوق الصرف الموازي، حيث يبلغ سعر الدولار حالياً 215 بيزو، بدلاً من سعر الصرف الرسمي المحدد بحوالي 106 بيزوات للدولار.
لكن لوظيفة سيسيليا الجديدة جانباً سلبياً. فهي لا تقدر على التقدم بطلب للحصول على قروض بما أنها لا تستطيع إثبات دخلها. كذلك، بما أنها عاملة حرة، لا تستطيع الحصول على تأمين صحي من صاحب العمل، ولا على عطلة مدفوعة.
مع ذلك، تتفوق المنافع بشكل عام على السيئات. قالت سيسيليا التي طلبت عدم الكشف عن هويتها خوفاً من التعرض لإجراءات عقابية من الحكومة: "لا أحب العمل من تحت الطاولة". وأضافت: "حاولت تجنب ذلك، ولكن في الوقت ذاته، تمكنتُ أخيراً خلال الأشهر الماضية من ادخار جزء كبير من دخلي".
أكثر من 3 أضعاف الراتب
سوليداد أيضاً، وهي مصممة غرافيك تقيم في العاصمة، تخلت عن وظيفتها في شركة متعددة الجنسيات كانت تدفع لها ما يوازي 1200 دولار في الشهر، من أجل التعاقد مع شركة أمريكية تدفع لها 4 آلاف دولار شهرياً. كان راتبها السابق يخوّلها السفر في عطلة واحدة في العام، ولكن في العام الماضي، تمكنت وحبيبها من قضاء أربع عطلات، كما تمكنا من شراء سيارة. وقالت سوليداد التي طلبت عدم الكشف عن هويتها من أجل عدم لفت أنظار السلطات الضريبية: "تصل إلى مرحلة تدرك فيها كم من المال تخسر لأنك تعمل لصالح شركة أرجنتينية".
كما الحال في الكثير من دول أمريكا اللاتينية، لطالما كانت نسبة كبيرة من الأرجنتينيين يعملون بشكل غير رسمي، بالأخص في وظائف منخفضة الدخل مثل إيصال الطعام والخدمة المنزلية. إلا أن قطاع العمالة غير الرسمية ازدهر بشكل كبير بين عامي 2017 و2021، ليرتفع عدد الأشخاص الذين يزاولون أعمالاً حرة بـ712 ألفاً، أي بنسبة 20%، مدفوعاً بالأشخاص الذين يقومون بعمل ذهني مكتبي، بحسب شركة الاستشارات "إيكو غو" (EcoGo) في بوينس آيرس. وقالت الرئيسة التنفيذية لـ"إيكو غو"، مارينا دال بوغيتو: "هذه نقلة نوعية ضخمة".
قيود صرف العملة
العمال والمديرون التنفيذيون في مجال الأعمال والمحامون المختصون بقطاع العمالة الذين تمت مقابلتهم لهذا المقال، يعزون المشكلة إلى القيود على سعر صرف العملة التي فرضتها الحكومة في عام 2019 وشددتها لاحقاً. فالقوانين الناظمة المعمول بها تمنع الشركات الأرجنتينية من دفع رواتب لموظفيها تنافس الرواتب التي يتلقونها من الخارج.
كما إنها تشجع على التهرب الضريبي، وهذه مشكلة لا بد لإدارة الرئيس ألبرتو فيرنانديز أن تعالجها حتى تتمكن من تحقيق أهداف تخفيض العجز المنصوص عليها ضمن اتفاقية الـ45 مليار دولار التي تتفاوض عليها البلاد مع صندوق النقد الدولي.
بموجب القانون، حين تصدّر الشركات الأرجنتينية سلعاً أو خدمات إلى الخارج، هي ملزمة بتحويل الدولارات التي تحصل عليها إلى البيزو وفق سعر الصرف الرسمي. إلا أن الفرق الهائل بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف الموازي، يدفع الشركات المحلية التي تملك فروعاً في الخارج إلى الاحتفاظ بأرباحها في حسابات خارجية بدل إعادتها إلى البلاد.
هذه الممارسة شائعة جداً إلى درجة أن غاليازي من "أرجينكون"، قدّر قيمة الإيرادات غير المصرّح عنها من الصادرات التكنولوجية بنحو مليار دولار في العام الماضي. وللحدّ من ذلك، ألغت الحكومة ضريبة بنسبة 5% على الصادرات التكنولوجية ابتداء من شهر يناير.
حسابات خارجية
"كوموني" هي شركة ناشئة مختصة بالتعليم تملك مقراً في مدينة مندوزا الشهيرة بالنبيذ في الأرجنتين، ولكنها مسجلة في ولاية ديلاوير الأمريكية، حيث تحتفظ بمعظم إيراداتها. يمكّنها ذلك من دفع رواتب معظم موظفيها البالغ عددهم 17 موظفاً بالدولار، أو بالعملات المشفرة التي تودع في حسابات أجنبية. وشرح المؤسس والرئيس التنفيذي للشركة، جيرمان هيمينيز، إن هذه الطريقة تحميها إلى حدٍّ ما من قيام شركات منافسة باستقطاب موظفيها.
قال هيمينيز: "هجرة الأدمغة تتسع، فالآن لا تحتاج إلى أكثر من جهاز كمبيوتر محمول وإنترنت حتى تهرب".