تشعر عضوة اللجنة التابعة للجمعية الدستورية في تشيلي، كوستانزا سان خوان بالتفاؤل حيال المستقبل. وهي صوَّتت في الأول من فبراير لصالح تأميم الثروة المعدنية في الدولة الغنية بمعادن النحاس، والليثيوم، والمغنيسيوم، والفضة.
وكانت هذه الخطوة قد أثارت قلق شركات وأسواق التعدين، إذ تعدّ الفكرة راديكالية لدرجة أنَّ القليل من الأشخاص يرون أنَّها ستنال تأييد أغلبية الثلثين اللازمة في الجمعية الدستورية. مع ذلك؛ فإنَّ سان خوان، وهي مؤرخة تبلغ من العمر 36 عاماً، لا تأمل فقط في إتمام هذه الخطوة، وإنما تطمح إلى خطوات أخرى أكبر.
مستقبل مختلف
في رأي سان خوان؛ فإنَّ المشكلة ليست في سعي تشيلي- المعروفة بمهد النيوليبرالية- إلى فرض سيطرة الدولة على الموارد، بل في استمرار النظر إلى مستقبل البلاد على أنَّه قائم على التعدين بدلاً من المبادرات الصديقة للبيئة. وتشمل قائمة أمنيات سان خوان أيضاً تحسين الرواتب التقاعدية وخدمات الرعاية الصحية والتعليم. ولدى سؤالها خلال فترة استراحة بين الجلسات عن مصدر الأموال اللازمة لتحقيق ذلك، أجابت: "سوف نرى، جئت إلى هنا من أجل إحداث تغيير بنيوي في نموذجنا الاقتصادي".
عمالقة التعدين في العالم يترقبون موجة انخفاض بالأرباح مع تزايد التكاليف
انطلقت تشيلي في مسيرة لا مثيل لها نحو اكتشاف الذات، يتوقَّع أن تشكل نموذجاً إما يحتذى به أو يُحذّر منه، بالنسبة للدول الأخرى التي تحاول معالجة التغير المناخي وانعدام المساواة؛ فقد انتخبت البلاد 155 مندوباً لصياغة الدستور الجديد، ثلاثة أرباعهم من ذوي الميول اليسارية، ولكن ربما ليس بقدر سان خوان.
دستور جديد
تتضمن القرارات الأخرى التي تم التصويت عليها في اللجنة، إلغاء القوانين الحالية المتعلقة بحقوق استخدام المياه، وحظر أعمال التعدين، وقطع الأشجار في أراضي السكان الأصليين، وإلغاء اتفاقيات التجارة الحرة، وإلغاء مجلس الشيوخ. كما وصل حوالي 80 اقتراحاً من خارج الجمعية الدستورية، تحمل 15 ألف توقيع، مما يعني أنَّ الجمعية ملزمة بدراستها، وهي تتضمن تشريع الحشيش، ومنح الحيوانات والجبال الجليدية حقوقاً دستورية. أمّا الاقتراح الأكثر شعبية؛ فيحمل اسم "لا تعبث بأموالي"، ويهدف إلى حماية الرواتب التقاعدية الفردية.
يحصل كلّ ذلك في وقت تستعد فيه أكثر حكومة يسارية في البلاد منذ نصف قرن، والمؤلفة من تحالف من الاشتراكيين والشيوعيين، لاستلام السلطة بقيادة الرئيس المنتخب غابرييل بوريك ومساعديه المقربين، وهم شباب في منتصف الثلاثينيات. كما أنَّ العضوين الأبرز في الجمعية الدستورية هما في العمر نفسه.
حكومة شابة
بالتالي؛ فإنَّ ما يجري لا يقتصر على تحول في فكر البلاد، بل يعدّ نقلة من جيل إلى آخر، و بتوازن أفضل بين الجنسين. إذ تترأس امرأة الجمعية الدستورية، كما أنَّ الكثير من الوزراء الأكثر نفوذاً في حكومة بوريك هم من النساء.
حين تستلم الحكومة مهامها في مارس، ستصبح تشيلي مرّة أخرى محطّ أنظار العالم على الرغم من موقعها البعيد. فهي دولة غنية بالموارد الطبيعية، وتتمتع باقتصاد تمكّن من تفادي دورات الازدهار والانكماش التي تسود في دول أميركا الجنوبية الأخرى، ويؤمن سكانها البالغ عددهم 19 مليون نسمة أنَّ مستقبل البلاد يجب أن يقوم على أسس العدالة والمساواة التي ترسخهما الحكومة، وليس على السوق الحرة.
يقول ألدو ماسكارينو، الباحث المتخصص في علم الاجتماع في "مركز السياسات العامة"، وهي مؤسسة بحثية في سانتياغو: "من الواضح أنَّ ما يجري هو إعادة صنع النموذج الاقتصادي في تشيلي"، مضيفاً: "هذا التوجه الراديكالي يحصل بسبب نجاح نموذجنا الحالي الذي ترافق مع الكثير من انعدام المساواة، إلى جانب عدم الاستماع إلى الشعب".
بالنسبة للمتابعين من الخارج، فقد تمّ النظر بإعجاب إلى تشيلي، تلك الدولة التي نفضت عنها وحشية الحكم الديكتاتوري قبل ثلاثة عقود، ونجحت في بناء نظام ديمقراطي صحي يقوم على اقتصاد سليم.
تشيلي..أكبر منتج للنحاس في العالم بصدد فرض ضريبة تصاعدية على المبيعات
ولكن في نهاية عام 2019؛ أدت زيادة بسيطة في رسوم النقل العام إلى اندلاع أعمال عنف صادمة في الشارع، ليتضح فجأة أنَّ الرئيس سيباستيان بينيرا، والنخبة التي يمثلها، كانوا بعيدين كلّ البعد عن الواقع على الأرض. فالشعب سئم من الطريقة التي أسهمت فيها الأسواق غير المنظمة في توزيع غير متساوٍ للموارد، سواء الثروة أو المياه، في ظلّ تجاهل مسائل مثل تغير المناخ، وحقوق الأقليات.
للتخفيف من حدّة التوترات، أجرت الحكومة استفتاء حول صياغة دستور جديد يحلّ مكان الدستور القديم العائد إلى زمن النظام الدكتاتوري الذي كرّس المبادئ الاقتصادية النيوليبرالية التي روّج لها ميلتون فريدمان وفرقته من "صبية شيكاغو".
مخاوف المستثمرين
اليوم، نشأت مخاوف من أن تذهب البلاد بعيداً في الاتجاه المعاكس.
فقد انخفض البيزو التشيلي بنسبة 16% مقابل الدولار الأميركي منذ الإعلان عن إنشاء الجمعية الدستورية في 16 مايو الماضي، في حين أنَّ الكثير من المندوبين في الجمعية الدستورية هم من المبتدئين، ويأمل بعض التشيليين أن يتصرف الرئيس الجديد ووزراؤه الشباب مثل الراشدين ضمن هذه المجموعة، وأن يفرضوا بعض القيود. وقد حاول بوريك الذي فاز بالانتخابات بعد أن تعهد بإحداث تغيير تدريجي أن يهدّئ من مخاوف السوق عبر تعيين الحاكم السابق للمصرف المركزي المخضرم ماريو مارسيل وزيراً للمالية.
المفارقة تكمن في أنَّه على الرغم من المشاعر المعارضة لأعمال التعدين في الجمعية الدستورية؛ يوجد طلب كبير جداً على النحاس والليثيوم، إذ تملك تشيلي واحداً من أكبر الاحتياطي منهما في العالم، وهما معدنان أساسيان من أجل مساعدة البشرية على الانتقال من الاعتماد على الوقود الأحفوري نحو الطاقة المتجددة. وبحسب التوقُّعات الحكومية؛ فمن المحتمل أن تصل قيمة الاستثمارات في مشاريع التعدين إلى حوالي 70 مليار دولار في هذا العقد. وفي العام الماضي، أسهم النحاس في أكثر من نصف قيمة صادرات تشيلي.
يشعر بعض المستثمرين بالقلق. يقول كلاوس كامبفي، مدير حلول المحافظ في شركة "كريديكورب كابيتال" (Credicorp): "السوق لم تعتقد أنَّ المقترحات التي تمت الموافقة عليها في البداية ستكون بهذه الراديكالية، وفيما نترقّب التصويت النهائي، نأمل فعلاً أن نرى بعض العودة إلى المنطق".
الجمعية الدستورية
في حين يستمتع الكثير من التشيليين بقضاء العطلة الصيفية، تعمل الجمعية الدستورية بكامل طاقتها، إذ تسعى لتقديم المسودة النهائية من الدستور بحلول يوليو المقبل، يلي ذلك استفتاء شعبي قبل نهاية العام. وحالياً، يجتمع المندوبون يومياً في مبنى مجلس الشيوخ السابق في وسط مدينة سانتياغو، ويرتدي بعضهم بدلات رسمية، فيما يرتدي معظمهم الملابس العادية المريحة، لدرجة أنَّ الأمر يبدو أحياناً كصبية شيكاغو في اجتماع خاص ضمن مناظرات جامعية. يعلو التصفيق في ختام التصويت على بعض المشاريع. وخلال المداولات حول المقترحات المتعلقة بأعمال التعدين؛ رفع بعض أعضاء الجمعية لافتة كتب عليها: "أوقفوا السرقة".
أمّا المحافظون فيشكلون الأقلية المحبطة الذين نادراً ما يتم تمرير مقترحاتهم في اللجان. يقول بيرناندو فونتاين، وهو أحد المحافظين، ويبلغ من العمر 57 عاماً: "الأمر أشبه بفتح "صندوق باندورا" إذ إنَّ روحية الأعضاء راديكالية للغاية".
فونتاين، وهو خبير اقتصادي سبق أن شغل مناصب مرموقة في العديد من الشركات الكبرى، من بين الآملين بأن يجد بوريك ومساعدوه صوت الاعتدال، على الرغم من أنَّ الجمعية التأسيسية لصياغة الدستور مستقلة مبدئياً.
يضيف فونتاين: "نحتاج أن تمارس مجموعة بوريك السياسية القيادية، وأن تضبط النقاش لتوجيه القواعد نحو مسار أكثر منطقية"، ويقول، إنَّه قلق من أن يتم التصويت لاحقاً في الاستفتاء للمقترحات الراديكالية التي تمر الآن.
سياسة خضراء
في هذا الإطار، على بوريك أن يتحرك بحذر. فهو كان قد أيَّد العملية الدستورية منذ بدايتها، فيما يسعى لقيادة تشيلي نحو مستقبل تسود فيه المساواة وصداقة البيئة. وتعهد برفع الضرائب وتعزيز الإنفاق على الخدمات الاجتماعية، وإعادة ترسيخ نظام تقاعد تديره الدولة. وكان بوريك القيادي الطلابي الجامعي السابق قد تحالف مع الحزب الشيوعي في تشيلي البالغ عمره مئة عام من أجل الفوز بالانتخابات الرئاسية، لكنَّه لا ينتمي إلى المدرسة القديمة من اليساريين. فمثل السياسيين الخضر في أوروبا الشمالية؛ تتضمن اهتماماته حقوق الإنسان وشفافية الحكومة.
يرى بعض المحللين أنَّ بوريك من المحتمل أن يصبح وجه اليسار الجديد في أمريكا اللاتينية، ملهماً بذلك مرشحين آخرين في المنطقة.
إذ أعرب غوستافو بيترو، المرشح اليساري الذي يتصدر استطلاعات الرأي للفوز بالانتخابات الرئاسية في كولومبيا في مايو المقبل، عن رغبته في إقامة تحالف مع بوريك وآخرين من أجل محاربة التغير المناخي، و"تحويل دول أمريكا اللاتينية إلى اقتصادات خالية من الكربون، وذات إنتاجية، وقائمة على المعرفة".