لأكثر من عقدين، اتسمت العلاقة بين "إيرباص" و"الخطوط الجوية القطرية" بالتقلب، ولطالما استمتع الرئيس التنفيذي لشركة الطيران الخليجية، أكبر الباكر، بالمواجهة، ساخراً من مديري الشركة المصنِّعة للطائرات علناً، أو رافضاً تسلُّم الطائرات بسبب عيب ظاهر. وفي كل مرة تحمّلت "إيرباص" التبعات باعتبار أن الناقلة الخليجية واحدة من بين أفضل عملائها، بمشتريات طائرات تصل إلى مليارات الدولارات.
اقرأ أيضاً: تصاعد الخلاف بين "إيرباص" و"القطرية" بسبب أزمة طائرات "إيه 350"
الآن تخرج شكاوى الطرفين إلى العلن من جديد، لكن هذه المرة، وعلى غير عادتها، قررت "إيرباص" المواجهة. تتواجه الشركتان في المحكمة، في استعراض محفوف بالمخاطر ويراقبه القطاع من كثب، إذ إنه قد يُعيد تشكيل العلاقة بين الشركات المصنِّعة للطائرات وشركات الخطوط الجوية.
اقرأ المزيد: "الخطوط القطرية" تطلب تعويضاً بـ618 مليون دولار من "إيرباص"
بدأ الأمر كله مع طلاء متقشر على طائرة "إيرباص" طراز "إيه 350"، ولاحظت شركة الطيران، أكبر مُشترٍ لطراز "إيرباص" الأكثر تقدماً الذي يبلغ سعر بيعه بالتجزئة 300 مليون دولار، التدهور على طائرة كان من المفترض أن تحصل على كسوة جديدة في أواخر 2020، وأوصت "إيرباص" بأن ترسل الطائرة إلى مصنعها الرئيسي في تولوز بفرنسا لمزيد من التحقق، فيما أكدت أن الطراز آمن للتحليق.
اقرأ أيضاً: "إيرباص" تدرس إصلاح عيوب طلاء طائرة "إيه 350" بعد خلاف مع "الخطوط القطرية"
احتدم الخلاف العام الماضي، عندما منعت قطر في نهاية المطاف 21 طائرة من أسطولها البالغ 53 طائرة من طراز "إيه 350" من الطيران، بعد أن ألغت الجهة التنظيمية المحلية شهادات صلاحية الطيران الخاصة بها، ورفضت الشركة تسلُّم طائرات جديدة كانت قد طلبتها. وفي ديسمبر رفعت شركة الطيران القضية إلى المحكمة العليا في لندن، مطالبة بتعويض يبلغ الآن 700 مليون دولار، وما زال الرقم في ازدياد. استجابت "إيرباص" بإلغاء طلبية من قطر لشراء 50 طائرة من الطراز الشهير "إيه 321"، بالإضافة إلى طائرتين من طراز "إيه 350"، وهي خطوات تقول "إيرباص" إنها تحق لها بموجب بنود العقد، لكن تنفي قطر ذلك.
تغيُّر معطيات السوق
يشير الصراع المتصاعد إلى تغيُّر آليات القوى في قطاع مزقته جائحة كورونا، وتسبب الانهيار في السفر جواً في ضغوط مالية كبيرة على شركات الطيران. وعلى النقيض فإن دفتر الطلبيات الضخم لشركة "إيرباص" -خصوصاً لعائلتها ضيقة البدن "إيه 320"- قد حماها إلى حد كبير من أسوأ تداعيات الركود، وترسخت مكانتها أكثر بسبب الحظر الطويل لتحليق الطائرة المنافسة "737 ماكس" من شركة "بوينغ"، بعد حادثين مميتين.
يظل تصنيع الطائرات في الأساس حكراً على الثنائي "إيرباص" و"بوينغ"، ما يمنح العملاء قليلاً من الخيارات. وتزايدت هيمنة "إيرباص" مع جهود مضنية بذلتها "بوينغ" لمجاراة الطلب الهائل على طائرة "إيه 321"، وهي أكبر طراز ضيق البدن يمكن أن يخدم مسارات طويلة. وفي العام الماضي رسخت "إيرباص" مكانتها كأكبر صانعة للطائرات في العالم، بعد تسليمها 611 طائرة، أي تقريباً ضعف ما سلّمته منافستها الأمريكية. ويقول ساش توسا، المحلل في "إيجنسي بارتنرز" (Agency Partners) في لندن: "لقد وصلت شركة (إيرباص) حالياً إلى مكانة لا تُقهر تقريباً مقارنة بشركة (بوينغ).. هذا الأمر لم يحدث من قبل".
استغلّت "إيرباص" هذه القوة للضغط على العملاء لتسلّم الطائرات عندما كانت تداعيات الجائحة تتعمق أكثر فأكثر، حتى بعد أن طالب البعض بإلغاء الطلبيات نظراً إلى الضائقة المالية. كما اكتسبت الشركة مزيداً من الثقة عندما فازت بطلبيات شراء طائرات نفاثة ضيقة البدن العام الماضي من "الخطوط الجوية الفرنسية–كيه إل إم"، و"الخطوط الجوية الأسترالية-كوانتاس"، اللتين كانتا في السابق عميلتين وفيتين لـ"بوينغ".
الخطوط القطرية تطالب بتعويض يصل إلى 700 مليون دولار نتيجة الأضرار التي لحقت بها بسبب عيوب الطلاء
شعور بالقوة
قد تشعر "إيرباص" بجرأة أكبر للدخول في معركة مع الباكر، بالنظر إلى ضعف حيلة شركات الطيران الخليجية. ولطالما كانت شركات خطوط الطيران الثلاث الرئيسية -"طيران الإمارات"، و"الخطوط الجوية القطرية"، و"الاتحاد للطيران"- من كبار مشتري الطائرات عريضة البدن التي ساعدت في تحويل مطاراتها الصحراوية إلى مراكز عالمية. لكن في ظل قدرة الطائرات بشكل متزايد على الطيران لمسافات لا تتطلب التوقف في الخليج، واستهداف العالم التحول عن الوقود الأحفوري، فإنّ أهمية المنطقة بالنسبة إلى شركات صناعة الطائرات ربما بلغت ذروتها، وبدأت الآن في التراجع.
في الوقت الذي حوّلت فيه قطر وجهتها سريعاً بعد صفعة "إيرباص" واشترت طائرات "737 ماكس" ضيقة البدن من "بوينغ"، فإن تلك الطائرات لا تتمتع بالمدى ذاته، ويمكن لـ"إيرباص" العثور بسهولة على مشترين بديلين لطلبية طائرات "إيه 321" الملغاة. وعادة ما تستغرق الطلبيات الجديدة سنوات عدة للتسليم. ونظراً إلى أن طلبية "بوينغ" ليست جاهزة بعد، فيمكن لقطر نظرياً التخلي عنها إذا حُل الخلاف مع شركة "إيرباص".
تقول قطر إنّ أسطح طائرات "إيه 350" بها عيوب خطيرة. ولتوضيح وجهة نظرها اتخذت شركة الطيران خطوة استثنائية ونشرت لقطات على الإنترنت أظهرت تقشراً كبيراً للطلاء على أربع طائرات، إلى حد ظهرت معه المسامير وبعض الشبكات النحاسية التي تغطي جسم ألياف الكربون، وتضررت أجزاء كبيرة من جسم إحدى الطائرات. وعلى عكس طائرات الألمنيوم التقليدية، بني طراز "إيه 350"، ومنافسه "787" من "بوينغ" من مواد مركبة لا توصل الكهرباء، ما يتطلب طبقات حماية إضافية لتبديد شحنات البرق.
تقول "إيرباص"، التي لا تنفي تساقط الطلاء، إنّ المشكلة ناتجة عن الخصائص الحرارية المختلفة للطبقات التي يتكون منها الغلاف، والمواد المركبة المكونة منها الطائرات الجديدة لا تتمدد وتتقلص مثل المعادن والطلاء.
توافق لم يدُم طويلاً
اقترحت الشركة المصنعة للطائرة إصلاحات، تتراوح من إصلاحات خفيفة إلى إعادة طلاء كاملة للطائرة المتضررة، كما أنها تدرس تدابير طويلة المدى، بما في ذلك تغيير نوع رقائق النحاس المستخدمة في طبقة تبديد البرق.
سافر مسؤولون في الإدارة العليا لشركة "إيرباص" إلى قطر مرات عدة العام الماضي سعياً إلى اتفاق مع الباكر. وبعد عودته من رحلة في سبتمبر، كان الرئيس التنفيذي لشركة "إيرباص"، غيلوم فوري، واثقاً بأنه قد حل المشكلة. لكن اندلعت التوترات بعد ذلك بوقت قصير، واتهم كل جانب الآخر بعدم التزام وعوده، وفقاً لأشخاص مطلعين على المناقشات.
قال فوري إنّ "إيرباص" تعمل على إيجاد حل فني في الوقت الذي تتعامل فيه مع "الوضع القانوني المؤسف". أما الباكر فشنّ هجوماً علنياً على "إيرباص"، متهماً إياها بالإدلاء ببيانات كاذبة، ومشيراً إلى أن شركات طيران أخرى عانت من مشكلات مماثلة تتعلق بالتصاق الطلاء على طائراتها من طراز "إيه 350". قال الباكر في لندن، في نوفمبر: "تتسلق شركة (إيرباص) شجرة عالية جداً، ولن تعرف كيف تنزل عنها بعد ذلك، وهي تقنع الناس بأن المشكلة هي الطلاء فقط".
إجراء احترازي
حسب الدعوى القضائية، قررت هيئة الطيران المدني القطرية منع الطائرة من الطيران "كإجراء احترازي لمنع أي حادثة غير مرغوبة أو حادث" ناتج عن تدهور حالة السطح.
لم تستجِب الهيئة العامة للطيران المدني لطلب "بلومبرغ" للحصول على نسخة من إشعار منع الطيران، وتعتبر وكالة سلامة الطيران التابعة للاتحاد الأوروبي أن الطائرات صالحة للطيران، ولم تتلقَّ التحليل من قطر، حسبما تقول جانيت نورثكوت، المتحدثة باسم الجهة المنظمة، فيما تقول شركة "إيرباص" إنها لم تحصل عليه أيضاً.
لاحظت شركات الطيران الأخرى، مثل "فين إير" (Finnair)، مشكلة الطلاء، لكن لم تلجأ أي شركة لمنع تحليق "إيه 350". ووصفت متحدثة باسم "فين إير" المشكلة بأنها "تجميلية فقط"، وقالت في رسالة بريد إلكتروني إنّ المشكلة عولجت في أثناء الصيانة الروتينية، وكانت أقدم طائرة من طائرات "إيه 350" في أسطول الشركة الأكثر تضرراً، لكن تطورت تكنولوجيا الطلاء في الطرازات الأحدث، كما تقول المتحدثة.
تسعى "الخطوط الجوية القطرية" إلى الحصول على 618.4 مليون دولار من شركة "إيرباص" لوقفها تحليق 21 طائرة "إيه 350" حتى 17 ديسمبر، إضافة إلى 4.2 مليون دولار عن كل يوم تتعطل فيه الطائرة عن العمل. وتقول "إيرباص" إنّ قطر تحاول أن تأخذ منها أموالاً لتعويض قلة استخدام الطائرات خلال تفشي الوباء، وهي وجهة نظر تنفيها الشركة.
نزاع قد يكون طويلاً ومكلفاً
يهدد الخلاف بأن يصبح مصدر تشتيت مكلفاً وطويل الأمد للجانبين. وقد دفع النزاع بالفعل شركة الطيران إلى أحضان منافسة "إيرباص" الرئيسية. علاوة على ذلك، تتمتع قطر بنفوذ أكبر لأنها تمتلك حصصاً كبيرة في شركات طيران أخرى، بما في ذلك " "آي إيه جي" (IAG)، مالكة شركة "إير لينغوس" (Aer Lingus)، و"الخطوط الجوية البريطانية-بريتش إيروايز"، و"أيبيريا" (Iberia)، التي تحاول شركة "إيرباص" الحصول منها على طلبيات كبيرة من الطائرات ضيقة البدن. وبالنسبة إلى قطر، يهدد وقف تحليق طائراتها البارزة بإعاقة خططها للنمو، لا سيما في العام الذي تستضيف فيه بطولة كأس العالم لكرة القدم.
مهما كانت النتيجة، فقد أخطرت شركة "إيرباص" عملاءها بأن الأيام التي ستلبي فيها كل طلباتهم قد ولّت. وبالنسبة إلى صناعة اعتادت منذ فترة طويلة على الحصول على ما تريد، فمن المحتمل أن تكون هذه صحوة قاسية. يقول ويلي والش، رئيس الاتحاد الدولي للنقل الجوي "أياتا" (IATA): "أكره أن أعتقد بأن أحد الموردين يستفيد من قوته الحالية في السوق ويستغلها، وهذا شيء نراقبه من كثب".