عندما ابتكر الأخوان كريستوفيل، وجان رافوين مفهوم صناعة السوق في أمستردام في حوالي العام 1620، كان عملهما محدود النطاق، وهو: شراء أسهم شركة "داتش إيست إنديا" من الأشخاص الذين أرادوا البيع، ومن ثم بيعها لمن يرغبون بشرائها، مما جعل شركة "داتش إيست" أول شركة يتم تداول أسهمها في العالم.
الوسطاء أساس بورصات الأمس
يرى المؤرخ والاقتصادي لوديويجك بترام، أنَّ الأخوين مثّلا حينها "الحلقة المفقودة"، فقد كانا يلعبان دور حلقة الوصل بين المشترين والبائعين "الذين لم يكونوا في المكان أو التوقيت نفسه". وبعد مرور أربعة قرون على ذلك، لم يتغير دور صناع السوق كثيراً. فعندما يكون هناك أصل مالي للتداول؛ فإنَّهم يجدون طريقة للعب دور الوسيط، وجني القليل من المال في مقابل تزويد المتداولين بالسيولة التي يحتاجون إليها.
صناع السوق اليوم هم "متداولون بكثافة كبيرة" وهي تسمية يكرهونها، وتراهم في كل شيء، بدءاً من الأسهم إلى السندات وحتى المشتقات المالية. فإذا كنت قد اشتريت من قبل حصة في شركة "أبل" من خلال تطبيق مجاني للتداول عبر الهاتف، فمن المحتمل أن تكون حصلت على صفقتك من خلال إحدى شركات صناعة السوق الكبرى في "وول ستريت". لكنَّ المتداولين الأساسيين في الأسواق لم يروا سابقاً أي شيء مثل العملات المشفَّرة.
وهم ينظرون إليها الآن بترقّب باعتبارها فرصة تسمح لهم بتداول مجموعة جديدة بالكامل من الأصول. من ناحية أخرى؛ فإنَّ الاستغناء عن الوسطاء يعد من المبادئ التي تقوم عليها العملات المشفَّرة، مما يجعل التكنولوجيا تشكل تهديداً لمهنتهم إلى حدٍّ ما.
ماذا عن بورصات المستقبل؟
صناع السوق على معرفة عميقة بالعملات المشفَّرة مثل "بتكوين"، و"إيثريوم" التي يتم تداولها في العديد من البورصات والمنصات حول العالم. فإذا أراد مستثمر كبير شراء "إيثريوم" بقيمة مليار دولار؛ فإنَّ صانع السوق يعمل على تحصيل هذه الكمية من كل منصات التداول هذه لإتمام عملية الشراء. لكنَّ العملات الكبيرة والمعروفة ليست سوى البداية.
إذ يؤمن المتفائلون بالعملات المشفَّرة بأنَّ تقنية "بلوكتشين"، والرموز (Tokens) ستكون في يوم من الأيام مسؤولة عن عمل جزء كبير من الاقتصاد العالمي، لتشغّل كل شيء بدءاً من تخزين البيانات، وبرامج الألعاب إلى التبادلات المالية، وصولاً إلى الإنترنت نفسه.
يقول كريس زولكه، الرئيس العالمي لشركة "كامبرلاند" (Cumberland)، وهي ذراع العملات المشفَّرة في مؤسسة "دي آر دبليو" (DRW): "نحن نرى الأمر من منظور مماثل". وهو يرى أنَّ هذا هو السبب في أنَّ "دي آر دبليو"، وهي صانعة سوق رئيسية نشأت من منصات التداول الفعلية في بورصة شيكاغو التجارية قبل ثلاثة عقود، قد بدأت مُبكراً في تداول العملات المشفَّرة.
صناع السوق الآليون
لكن، لا يوجد ضمان على الإطلاق لنجاح المتداولين في الأجزاء الأحدث من عالم العملات المشفَّرة. إذ هناك بعض المشاريع التي تم تصميمها حتى تستبعد صناع السوق من المعادلة. وفي العالم المالي اللا مركزي، أو (DeFi)، تم بناء "صناع السوق الآليين" (AMM) ليمثلوا رموز تداول ذات شعبية للعملات المشفَّرة مثل: "يونيسواب" (Uniswap)، و"سوشيسواب" (SushiSwap). وهم صناع سوق لم يعرفهم كريستوفيل على التأكيد.
يتيح صناع السوق لأيٍّ كان أن يضع زوجاً من العملات التي يرغب الآخرون في تداولها ضمن ما يسمى "تجمع السيولة"، إذ يمكنهم كسب رسوم مقابل تقييد عملاتهم مؤقتاً. ويضمن التجمع للمشترين والبائعين إمكانية العثور على عملات لمبادلتها. ويتم ذلك وفق معادلات رياضية يمكنها تعديل الأسعار، وتنفيذ التداولات بشكل آلي.
تعتبر صناعة السوق أمراً مهماً بشكل خاص بالنسبة للأصول المتخصصة، وذات نطاق التداول الضيق. في المقابل؛ فإنَّ اقتصاد العملات المشفَّرة ينتج عملات معدنية جديدة غامضة كل يوم.
تخيّل أنَّك تستطيع يوماً ما تحويل ملكية المباني السكنية في مدينة نيويورك إلى رموز مشفَّرة. يقول دين كارلسون، رئيس استثمار الأصول الرقمية في "سيكوهانا" (Susquehanna International Group): "على الأرجح ستحتاج إلى شخص ما ليصنع السوق". ويضيف: "السؤال هو: هل يجب على صانع السوق هذا أن يكون شركة مثل "سيكوهانا"؟" أو يمكنه أن يكون صانع سوق آلية؟"
ميزات تنافسية
يقول ديف أولسن، رئيس مجموعة "جمب" (Jump Trading Group)، وهي شركة رائدة لصناعة السوق في مجال المشتقات المالية، وهي تتداول أيضاً في العملات المشفَّرة: "صنّاع السوق الآليون هم الذين يشترون الملاذ الأخير". وأضاف أنَّ الوسطاء لا يمكنهم التوصل لعمق السيولة نفسها، وضآلة فروق الأسعار (مصطلح في التداول يشير إلى الفجوة الصغيرة بين أسعار الشراء والبيع) التي يستطيع صانعو السوق من التقليديين على طريقة الأخوين كريستوفيل، القيام بها.
يقول كارلسون، إنَّ ذراع شركة "سي آي جي" لصناعة السوق تساعده عندما يتواصل مع الشركات الناشئة التي تعمل عن طريق رموز التشفير، بخصوص القيام باستثمارات رأس المال المغامر. ويضيف: "إذا استطعنا أن نقول لمشروع: سنستثمر فيك، ونوفر السيولة لرمزك المشفَّر، فنحن نقدم خدمة قيّمة له". مضيفاً: "يكون هذا في بعض الحالات أكثر قيمة مما يوفره رأس المال الاستثماري التقليدي". من جانبه، يتفق زويلك من "دي آر دبليو" بأنَّ صانعي السوق يمكنهم المساعدة في تحفيز المشاريع اللامركزية عن طريق منع "ندرة السيولة الفورية".
سوق جديدة
يعمل بعض صانعي السوق بشكل نشط لبناء أسس اقتصاد العملات المشفَّرة والرموز؛ إذ يقومون بإنشاء نوع من منظومة السوق سريعة الحركة التي يريدون الوجود فيها. على سبيل المثال، تساعد شركة " جمب" في بناء بروتوكول يسمى (Wormhole) إذ يساعد المتداولين على تجاوز السرعة البطيئة، وتكاليف المعاملات باستخدام "إثيريوم"، وتعد التقنية الشهيرة القائمة على "بلوكتشين" داعمة للعديد من مشاريع التشفير.
على سبيل المثال أيضاً في التداولات الحساسة للسرعة، يمكن إصدار أسهم مقابلة قائمة على الرموز المشفَّرة، و يمكن أن تجري معاملاتها على "بلوكتشين" أسرع وتيرة، وتسمى بـ"سولانا"، ويمكن لبروتوكول (Wormhole) بعد ذلك تمرير نتائج العملية المالية إلى "إيثريوم".
يقول أولسن من شركة "جمب": "من نواحٍ متعددة نحن نعود إلى المبادئ الأولى للتداول". متابعاً: "ماذا كان ذلك؟ شجرة خشب الدّلب التي استظل بها الجميع في "وول ستريت"، كانت تمهيداً لبورصة نيويورك". في تلك الأيام، كان يهيمن على البورصة ويحكمها المتداولون الذين كانوا يستخدمونها، ولقد "وضعوا التصميم الأنسب لها". بينما الآن، تسعى "جمب" وغيرها من صنّاع السوق كي يكونوا جزءاً من تصميم السوق التالية في العملات المشفَّرة.
مؤخراً، خاطب زوهلكي مجموعة من زملائه من أتباع المدرسة التقليدية في عالم أسواق المال، ويتذكّر أنَّه قال لهم: "هذه قاعة مليئة بالوسطاء الذين يتم إخراجهم من الوساطة أثناء حديثنا هذا، ذلك يحدث بوتيرة لم تروها من قبل". وأضاف: "إذا لم تكونوا تفكرون في كيفية انتشار عدم الوساطة هذه في الأسواق المالية، وفي بقية أجزاء حياتكم؛ فقد يفوتكم الكثير".