تعد صفقة استحواذ "نيويورك تايمز" على الموقع الرياضي"ذا أثلاتيك" (The Athletic) بقيمة 550 مليون دولار، أكبر عملية استحواذ تجريها الصحيفة العريقة منذ أن دفعت 1.1 مليار دولار لشراء "بوسطن غلوب" (Boston Globe) في عام 1993. تُبشّر الصفقة بتجربة جديدة حول كيفية بيع المزيد من الأخبار إلى جيل القراء الذي نشأ على الإنترنت. وفي حال نجاح هذه التجربة، يمكن أن تشكّل نموذجاً يحتذي به عمالقة وسائل الإعلام الأخرى.
كانت صفقة "شراء بوسطن غلوب" قد شكّلت في وقتها ذروة توسع "السيدة الرمادية" (نيويورك تايمز) في مؤسسات الأخبار الإقليمية، فقد كانت الصحيفة تمتلك في ذلك الوقت 31 صحيفة إقليمية، و20 مجلة، وخمس محطات تلفزيونية، ومحطتين إذاعيتين.
ثم ظهر عصر الإنترنت، مما يعني أنَّ العقدين التاليين لم يكونا كريمين بالنسبة للصحيفة. فمع استحواذ مواقع الإنترنت على أموال الإعلانات، وأعداد القراء على حدٍّ سواء؛ تضخم صافي الدين للمؤسسة بحلول عام 2009 إلى ستة أضعاف من قيمة مقياس "إيبتيدا" (EBITDA) للأرباح الخاصة بها (يشمل إيبتيدا: هامش الأرباح قبل الفوائد، والضرائب، والاستهلاك، وإهلاك الديْن).
وقد أمضت "نيويورك تايمز" العقد الماضي في تخفيض الإنفاق، وبيع شركاتها الإعلامية الإقليمية، وخفض الديون، وتأسيس عملية اشتراكات رقمية هي الأفضل في فئتها. وقد بيعت "بوسطن غلوب" بسعر زهيد بلغ 70 مليون دولار في عام 2013.
إعادة مفهوم الحزم
وهذا ما يقودنا إلى عملية الاستحواذ على "ذا أثلاتيك". والتي يبدو أنَّها محاولة لتشجيع إعادة مفهوم حزم الاشتراكات. فقد كانت الجريدة الكلاسيكية تمثل المفهوم الأصلي للحزم. فحتى إنْ كان اهتمامك ينحصر بالرياضة فقط؛ لكنَّك كنت تتلقى أيضاً أقسام السياسة والأعمال والفنون وغيرها من الأقسام التي تصل مجتمعة في حزمة على عتبة منزلك كل صباح.
كان ذلك قبل أن يقوم الإنترنت ببعثرة هذه الحزم. إذ لم يعد الناس بحاجة لشراء صحف كاملة، فقد بات يمكنهم العثور على القصص التي تهمهم فقط عبر الإنترنت. وتعد خدمات البث عبر الإنترنت مثالاً رئيسياً على تفكيك الحزم. فبدلاً من دفع 100 دولار مقابل اشتراك (كابل) شهري يسمح لك بالوصول إلى 250 قناة تلفزيونية؛ يمكنك على سبيل المثال الدفع مقابل اشتراك في قناة "إي إس بي إن+ " فقط، إذا كان اهتمامك يقتصر على الرياضة.
كذلك تقدّم منصة "سب ستالك" (Substack) مثالاً واضحاً أيضاً على مفهوم تفكيك الحزم. كما تقدّم الشركة خدمة للصحفيين والكتاب يمكنهم من خلالها بيع الاشتراكات لقراءة كتاباتهم بصورة خاصة. كما يمكن للقراء الاشتراك لقاء الحصول على مقالات كاتب واحد أو 10 أو 50 كاتباً، ودفع ثمن لقاء الاشتراك لكل منهم.
أرباح بعيدة الأمد
من جهة أخرى؛ فإنَّ موقع "ذا أثلاتيك" يمثل أيضاً مثالاً ناجحاً في اتجاه تفكيك الحزم. فمع 450 صحفياً يغطون التفاصيل الجوهرية للرياضة في جميع أنحاء الولايات المتحدة، بالإضافة إلى الدوري الإنجليزي لكرة القدم؛ نجح "ذا أثلاتيك" في بناء قاعدة من 1.2 مليون متابع في ست سنوات فقط.
تواجه الصحيفة تحدياً كبيراً؛ إذ إنَّ موقع "ذا أثلاتيك" ليس مربحاً إلى حد بعيد. فقد تكبّد الموقع خسائر تشغيلية بلغت 55 مليون دولار من عائدات بلغت 65 مليون دولار خلال العام الماضي. ولكي يبدأ مستثمرو "نيويورك تايمز" في رؤية عائد من ثمن الاستحواذ هذا؛ ستحتاج الشركة إلى مضاعفة إيرادات "ذا أثلاتيك".
قالت الرئيسة التنفيذية لـ"نيويورك تايمز" ميريديث كوبيت ليفيان، إنَّ الوحدة سيكون لها تأثير ضار على الأرباح للسنوات الثلاث المقبلة. لكنَّها ألمحت أيضاً إلى كيفية تحقيق الربحية. فهم أولاً؛ سيزيدون من عرض الإعلانات. وهذا لا يختلف كثيراً عن صفقة "بوسطن غلوب" قبل 30 عاماً، التي اشترت فيها الصحيفة بالأساس مساحات إعلانية أكثر من تلك التي يمكن أن يحاول فريق المبيعات أن يملأها. وثانياً؛ سيضيفون المزيد من المشتركين. كما أنَّ جزءاً من ذلك في نهاية المطاف سيكون من خلال البيع المتقاطع للمنتجات: كإقناع مشتركي "نيويورك تايمز" الحاليين بالدفع مقابل "ذا أثلاتيك"، والعكس صحيح.
وهو ما يجعل سعر الصفقة يبدو مغرياً للغاية، وفقاً لمحللة "بلومبرغ إنتليجنس" جيثا رانغاناثان؛ فإنَّ "نيويورك تايمز" تدفع حوالي 460 دولاراً لقاء كل مشترك تأخذه من "ذا أثلاتيك" في هذه الصفقة، وهو يعتبر أقل بكثير عن مبلغ 880 دولاراً لقاء كل مشترك في "نيويورك تايمز"، وهو التقدير الذي قُيّمت فيه الصحيفة قبل عقد الصفقة.
منهج جديد
إذا نجح هذا النهج، فسيكون نموذجاً ينبغي على الشركات الإعلامية الأخرى التفكير فيه بجدية. خذ على سبيل المثال شركة "أكسل شبرينغر" (Axel Springer) الإعلامية التي تمتلك الآن "إنسايدر ميديا" (التي كانت سابقاً "بزنس إنسايدر")، وأيضاً "بوليتيكو" في الولايات المتحدة، لكنَّها لا تتيح إمكانية الإشتراك بحزمة للمنصتين بثمن أقل. الشيء نفسه ينطبق على "كونديه ناست"، التي تمتلك مجلات "نيويوركر"، و"فوغ "، و"جي كيو"، و"غلامور"، و"وايرد"، و"فانيتي فير".
يمكن أن يشجع ذلك أيضاً من يملك الصحف الإقليمية على التفكير بشكل أكثر إبداعاً في كيفية تجميع محتوياتهم. خذ على سبيل المثال شركة "جانيت" (Gannett)، التي تجعل ملكيتها لمئات المنصات الإعلامية الإقليمية، بالإضافة إلى "يو إس إيه توداي" أكبر ناشرة للصحف الأمريكية من ناحية عدد النسخ المنشورة يومياً. ربما يمكنها التفكير في تطوير مواقع إخبارية تسحب المحتوى من جميع منصاتها الإعلامية، وتجمعها بحسب الموضوع، سواء كان "اتحاد كرة القدم الأميركي"، أو الموسيقى، أو التكنولوجيا.
إنَّ إعادة تجميع الحزم ليس نهجاً جديداً في صحيفة "نيويورك تايمز"، فهي بالفعل تقدّم إضافات اختيارية للمشتركين رقمياً، منها: موقع "وايركاتر" المتخصص بالتقييمات التقنية، وكذلك الأمر بالنسبة لصفات الطبخ، والكلمات المتقاطعة. لكن حتى الآن يعد ذلك الجهد الأكبر الذي تقوم به الصحيفة بهذا الاتجاه، وهو ليس رهاناً كبيراً جداً. فمع وجود مليار دولار بحوزة "نيويورك تايمز" ومن دون ديون لديها؛ يمكن لميريديث كوبيت ليفيان دفع ثمن الصفقة من الميزانية العمومية الحالية. وإذا نجحت الصفقة؛ فمن المتوقَّع رؤية الصحيفة تتوسع في مجالات أخرى.
قد تكون حزم الصحف الورقية من التاريخ؛ لكنَّ حزم صحف الإنترنت ليست كذلك.