مع تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين في الصيف الماضي، كان الرئيس التنفيذي لبنك "جيه بي مورغان تشيس آند كو" يعلن عن رغبته في زيارة هونغ كونغ في أقرب وقت ممكن. وبالفعل زار جيمي ديمون الجزيرة في نوفمبر، ليصبح بذلك أول مسؤول تنفيذي رئيسي لبنك أمريكي يزور الصين العظمى منذ بداية جائحة كورونا. وُصفت رحلته تلك، التي استغرقت 32 ساعة إلى المركز المالي الآسيوي، بأنها فرصة لشكر آلاف الموظفين هناك، لكنها كانت أيضاً تذكيراً بالتزام البنك الذي يرأسه تجاه المنطقة بأسرها، وتجاه البر الصيني الرئيسي على حد سواء، إذ إنّ لدى "جيه بي مورغان" تعرّضاً لاستثمارات تقدَّر بنحو 20 مليار دولار من أعمال الإقراض والودائع والتداول والاستثمار بشكل أساسي.
اقرأ أيضاً: "جيه بي مورغان": عام 2022 سيشهد تعافي الاقتصاد العالمي بالكامل
كان بعض السياسيين الأمريكيين قد دعوا البنوك الأمريكية إلى التراجع عن الاستثمار في الصين، على خلفية مخاوف تتعلق بالأمن القومي وحقوق الإنسان. غير أن بنوك "وول ستريت" تعمل، بدلاً من ذلك، على تعميق علاقاتها مع التنين الصيني. في أغسطس، فرض بنك "جيه بي موغان" سيطرته على مشروع مشترك للأوراق المالية مع إحدى الشركات الصينية بشكل كامل، كما يسعى البنك الأمريكي إلى تكرار الأمر ذاته مع شركة لإدارة الأصول يمتلكها جزئياً.
اقرأ المزيد: "غولدمان ساكس": "وول ستريت" تراهن بقوة على صعود الأسهم الصينية
بدوره، يسعى بنك "مورغان ستانلي" للحصول على خمسة تراخيص مصرفية جديدة في بر الصين الرئيسي خلال عام 2022، فيما يعمل بنك "غولدمان ساكس" على مضاعفة قوته العاملة في الصين. أما بنك "سيتي غروب" فقد تقدم في ديسمبر بطلب للحصول على تصريح لتداول الأوراق المالية والاستثمارات المصرفية، كما يخطط للحصول على ترخيص لتداول العقود الآجلة في عام 2022، مضيفاً بذلك مئة موظف إلى إجمالي قوته العاملة في البلاد.
اقرأ أيضاً: "سيتي غروب" يوظف فريقاً لاقتناص شركات اليونيكورن الأسترالية
الإدراج في نيويورك
سابقاً، اتخذت الحكومتان الأمريكية والصينية إجراءات صارمة ضدّ الشركات الصينية التي تدرج أسهمها في نيويورك، ما أضرّ بشركات مربحة تجري إدارتها من هونغ كونغ. لكن البنوك الأمريكية التي ترغب في الحصول على جزء من ثاني أكبر اقتصاد في العالم -وثاني أكبر مُصدّر للأسهم- تغيِّر توجهاتها لمنافسة كبار المقرضين الصينيين على أرضهم. وتعليقاً على قرار البنك بالتفكير في الصين باعتبارها فرصة كبيرة والمنافسة على تأسيس شركات في البر الرئيسي وكذلك في الخارج، قال جوكول لارويا، الرئيس التنفيذي لعمليات آسيا والمحيط الهادي في بنك "مورغان ستانلي": "لا أعتقد أن لدينا خياراً". وحسب لارويا فإنه على الرغم من أن البنوك العالمية لم تجنِ كثيراً من الأموال في الصين حتى الآن، فإنّ الاتجاه الصعودي المحتمل هائل. وأضاف: "إذا واصلنا القول بأننا لن نستثمر في النظم المحلية لأنها ليست مربحة كنظيرتها الخارجية، فأعتقد بأنه تفوتنا الخدعة التي تجري هنا".
حملة بكين على الشركات
لطالما نظرت "وول ستريت" إلى الصين باعتبارها الجبهة الأخيرة الكبرى لجني الأموال، وكان من المفترض أن يكون عام 2021 هو العام الذي ستبدأ فيه الاستثمارات الضخمة للشركات تؤتي ثمارها. كانت البنوك الأجنبية قد منحت لتوها الحق في السيطرة الكاملة على مشاريعها المشتركة، وتأسيس شركات إدارة الأصول الخاصة بها. ولكن قبل أن يبدأ العام، ألغت بكين الطرح العام الأولي لشركة "آنت غروب" (Ant Group) بواقع 35 مليار دولار في اللحظة الأخيرة، ما حرم البنوك -بما في ذلك "جيه بي مورغان" و"سيتي غروب"- من رسوم بلغت نحو 400 مليون دولار. ثم أدى الضغط التنظيمي على قطاعات، من التكنولوجيا إلى التعليم والعقارات، إلى الحد من الطلب على الاكتتابات الأولية.
أرباح البنوك من الاكتتابات
بالإضافة إلى ذلك، تعمل الولايات المتحدة على تعزيز قواعد الإفصاح المالي للشركات الصينية التي تدرج أسهمها في البورصات الأمريكية. وبعدما أجبر صانعو السياسة في الصين شركة "ديدي غلوبال" (DiDi Global) لخدمات التوصيل على شطب عضويتها من قائمة الشركات المدرجة في بورصة نيويورك في الولايات المتحدة، مشيرين إلى مخاوف بشأن السيطرة على بيانات الشركة، فإنهم يضيقون ثغرة سهلت العشرات من الاكتتابات العامة الأولية في الولايات المتحدة. وعليه، كانت النتيجة انخفاض بنسبة 52% في قوائم البورصات الأمريكية من حيث قيمة الشركات الصينية في عام 2021، ما تسبب في تراجع أرباح بنوك مثل "غولدمان ساكس" الناتجة عن تحصيل رسوم طرح شركة "ديدي" وغيرها من الشركات في بورصة نيويورك. لقد شكّل ذلك نشاطاً تجارياً مربحاً للغاية، لدرجة أن البنوك جمعت أكثر من مليار دولار من رسوم الاكتتاب العامّ في عام 2020 من الشركات الصينية المدرجة في الولايات المتحدة، وذلك قبل أن تنخفض تلك الأرباح بنسبة 42% خلال العام الماضي إلى 625 مليون دولار.
لا حاجة بنا إليكم
في الوقت الذي قد يكون وقف إدراجها في بورصة نيويورك أمراً مؤقتاً، فقد أصبح من الواضح أن الشركات الصينية بحاجة أقل إلى جمع الأموال في الخارج، فيما يمكنها الإدراج بسهولة في هونغ كونغ أو عبر البورصات المتنامية في شنغهاي أو شينزن. يقول بيتر ألكساندر، الذي كان يقدم المشورة لمديري الأصول العالميين في الصين منذ ما يقرب من 20 عاماً، إنّ أحد كبار المسؤولين الصينيين أوضح له هذه النقطة مؤخراً، قائلاً: "بيتر، أخبر عملاءك أنّ رأسمالهم سيكون أكثر من مرحب به، لكننا لم نعُد بحاجة إلى أسواق رأس المال الخاصة بهم".
من جهة أخرى، يُعَدّ التوغل في السوق المحلية الصينية أمراً محفوفاً بالمخاطر. فشركات السمسرة المملوكة للدولة لديها فرق كبيرة على الأرض، تبرم صفقات مع الشركات الصينية القائمة والناشئة. ووفقاً للإيداعات، سجّلت الشركات المالية العالمية خسارة مجمعة في البر الرئيسي بلغت 48 مليون دولار في عام 2020، وذلك مقارنة بأرباح بلغت 24.4 مليار دولار في بنوك الاستثمار الصينية.
لا نجاحات تذكر
تُظهِر نظرة على تصنيفات عقد الصفقات أن البنوك الأجنبية لم تحقق نجاحات كبيرة في الصين بعد سنوات من المحاولة. وحسب بيانات جمعتها "بلومبرغ، فقد احتل "غولدمان ساكس" المرتبة رقم 15 في زيادة الأسهم الصينية المحلية خلال العام الماضي، فضلاً عن أن البنوك الأجنبية لم تخترق سوق السندات المحلية مطلقاً، وذلك رغم كونها تعمل بشكل أفضل في ما يتعلق بعمليات الدمج والاستحواذ في الصين، علماً بأن خمسة من تلك البنوك حلّت بين المراكز العشرة الأولى في قائمة عام 2021. "ليس لدى أي من هذه الشركات ما تقدمه للصين حقاً" في السوق المحلية، كما يقول ديك بوف، المحلل في "أوديون كابيتال غروب" (Odeon Capital Group)، الذي كان يغطي شركات "وول ستريت" منذ عقود، إذ استشهد بالتصنيفات للتدليل على وجهة نظره. وأضاف: "لقد تعلّمت البنوك الصينية كل ما كان لدى البنوك الأمريكية لتعلمها إياه حول كيفية إدارة عملية مصرفية استثمارية، وهي الآن ليست بحاجة إلى نظيراتها الأمريكية".
سوق الـ45 تريليون دولار
يقول المصرفيون العالميون إنهم بدؤوا، للتو، بالحصول على تراخيص جديدة للتوسع بمفردهم بعد عقود من التعاون مع شركاء محليين، وإن كسب جزء بسيط من السوق البالغة قيمتها 45 تريليون دولار سيؤدي إلى تحقيق مكاسب غير متوقعة. كما يؤكدون أنه مع تدفق مزيد من الأموال إلى الصين فإن التداول وإدارة الأصول سيشكلان مجالات نمو ضخمة. حسب بنك "مورغان ستانلي"، فقد شكلت المشتريات الأجنبية من الأسهم الصينية في البر الرئيسي 15% من إجمالي التدفقات النقدية في الربع الثالث، ارتفاعاً من 3% فقط في عام 2013. ويقول جاسبر ييب من "أوليفر وايمان" (Oliver Wyman) في هونغ كونغ إنّ البنوك العالمية ومديري الأموال يمكنهم في النهاية الاستحواذ على 10% من سوق الصناديق المشتركة في الصين على مدى خمس سنوات.
الأرباح وحقوق الإنسان
رغم كل هذه الإمكانات، تواجه الشركات المالية الأمريكية كثيراً من النقد بشأن الصين على الصعيد المحلي، إذ وصف ميت رومني، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية يوتا، استثمارات صندوق التحوط المملوك للملياردير راي داليو في الصين بأنها "زلة أخلاقية محزنة"، فيما اتهم عضو مجلس الشيوخ عن ولاية فلوريدا، ريك سكوت، المصرفيين بوضع الأرباح فوق حقوق الإنسان. يقول مارك ويليامز، الأستاذ في جامعة بوسطن والمدقق السابق ببنك الاحتياطي الفيدرالي: "هذا الاندفاع الأخير وراء الثروات في الصين من قِبل بنوك (وول ستريت) الكبرى على أمل تحقيق أرباح ضخمة يثير مخاوف عديدة، فقد أدى تزايد التوترات بين الولايات المتحدة والصين إلى زيادة المخاطر السياسية واحتمال فرض عقوبات تجارية وتغييرات مفاجئة في السياسات، الأمر الذي يمكن أن يوقف التوسع المخطط له".
لكن بنوك "وول ستريت" لا تزال تتحلى بالجرأة، إذ لم يكُن ديمون هو الرئيس التنفيذي الوحيد الذي كان حريصاً على زيارة الصين. فوفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر، قال ديفيد سولومون، الرئيس التنفيذي لبنك "غولدمان ساكس"، إنه سيزور الصين حالما يُسمح بذلك. وقال سولومون في "منتدى بلومبرغ للاقتصاد الجديد" الذي عُقد في سنغافورة في نوفمبر الماضي: "بالنظر إلى الدور المهم الذي تلعبه الصين اقتصادياً في العالم، لا يليق بـ(غولدمان ساكس) ألا يشارك في ذلك". وقال إنه لم يكن على البنك ضغط مباشر لتغيير مساره في الصين، رغم أن ذلك قد يحدث. وتابع: "لكننا نفكر في الأمر من منظور 10 و20 و30 عاماً قادمة، لا خلال العامين المقبلين". يُذكر أن سولومون كان من بين ما يقرب من ثلاثين من قادة الأعمال الذين شاركوا في اجتماع عبر الفيديو لمدة ساعة في 15 ديسمبر مع رئيس مجلس الدولة الصيني، لي كه تشيانغ، لمناقشة مجموعة من الموضوعات، بما في ذلك خطط إعادة فتح الصين، وذلك وفقاً لما ذكره شخص مطلع على الاجتماع.
التوسّع في الصين
تشمل صفقات "غولدمان ساكس" الأخيرة في الصين مشاركته في الاكتتاب العام الأولي في شنغهاي لشركة "باي جين" (BeiGene)، وهي شركة تكنولوجيا حيوية بقيمة 4 مليارات دولار، في ما يُعَدّ أول صفقة استثمار مشترك له في مجلس أسهم التكنولوجيا في الصين. وبعد 17 عاماً من الانتظار، يمتلك البنك الآن رخصته الخاصة لتداول الأوراق المالية، الأمر الذي يطلق العنان للبنك الأمريكي لمتابعة استراتيجية النمو التي تتضمن مضاعفة قوته العاملة إلى 600 موظف، وتكثيف إدارة الأصول، ما وصفه المدير التنفيذي لعمليات "غولدمان ساكس"، جون والدرون، بأنه "الفرصة الأكبر" في الصين.
من جانبهم، ينضم مديرو الأصول العالمية إلى الدفعة التي تشهدها سوق الصناديق المشتركة في الصين، البالغة قيمتها 24.4 تريليون يوان (3.8 تريليون دولار)، فقد جمعت شركة "بلاك روك" (BlackRock) مليار دولار في سبتمبر لصندوقها الصيني الأول، فيما تهدف "أموندي" (Amundi)، ومقرها باريس، إلى مضاعفة الأصول الخاضعة للإدارة في منطقة الصين الكبرى -بما في ذلك هونغ كونغ وتايوان- إلى 250 مليار دولار بحلول عام 2025. وحسب تشاو فينغ جونغ، رئيس مجلس إدارة "أموندي" في المنطقة، فإنه من شأن مسعى بكين الهادف إلى إبعاد الأفراد عن الاستثمار العقاري أن يعطي هذه الصناديق دفعة إضافية. ومع ذلك، ليس كل مديري صناديق الأموال الكبرى متحمسين بشأن فرصهم في البر الرئيسي، إذ ألغت مجموعة "فانغارد" (Vanguard Group) خططها للتقدم بطلب للحصول على ترخيص لإنشاء صندوق في العام الماضي. يقول ألكساندر، مستشار تمويل شركات الصناديق والعضو المنتدب في "زد-بن أدفايزرز" (Z-Ben Advisors) ومقرها شنغهاي: "أصبحت الصين فرصة عمل يصعب الانتقال إليها للغاية".
توسّع حذِر
في هذا الإطار، كان "مورغان ستانلي" أكثر حذراً في سوق البر الرئيسي من بعض منافسيه، لكنه عزز حصصه في المشاريع المشتركة للأوراق المالية إلى ما يقرب من 100% في عام 2021. ويقول لارويا إنه يخطط للتقدم بطلب للحصول على تراخيص لتداول العقود الآجلة والمشتقات المالية والسمسرة والأبحاث وصناعة الأسواق في عام 2022. ومن بين أمور أخرى، يعتزم "مورغان ستانلي" توفير خدمات التحوّط من النقد الأجنبي وأسعار الفائدة، إلى جانب خدمات صناعة السوق للعملاء المؤسسيين الدوليين والمحليين في قطاع الأسهم والسندات.
أصبح "جيه بي مورغان" أول بنك أجنبي يتمتع بالسيطرة الكاملة على شركة لتداول الأوراق المالية في الصين العام الماضي، وذلك في إطار خطته للتوغل بصورة أوسع داخل البلاد. يقول فيليبو غوري، الرئيس التنفيذي للبنك في منطقة آسيا والمحيط الهادي: "إذا كانت لدينا التراخيص وتحكّمنا بالشركات، فسيكون هناك مزيد منها. أنت بحاجة إلى العمل بكل طاقتك لتنجح. هذه ليست استراتيجية قائمة على شركة واحدة".
كان البنك يمضي قدماً منذ أن جَمَعَ ديمون -الذي قال مازحاً في نوفمبر إن بنكه سيصمد أكثر من الحزب الشيوعي الصيني، قبل أن يتراجع عن ملاحظاته- المديرين التنفيذيين في هونغ كونغ في عام 2016. ووفقاً لأشخاص مطلعين على الأمر، فقد أخبر ديمون الرؤساء التنفيذيين خلال الاجتماع بأنه تصور مقراً في الصين يشبه برج البنك في نيويورك. هذا لم يحدث بعد، ولكن بعد أن حصل البنك على الموافقة على شراء حصة شريكه في شركة الأوراق المالية، قال ديمون: "تمثّل الصين واحدة من أكبر الفرص في العالم لعديد من عملائنا، ولـ(جيه بي مورغان) أيضاً".