يعيد ملايين الأشخاص حول العالم التفكير في كيفية عملهم وطريقة معيشتهم، وفي كيفية تحقيق توازن أفضل بين الأمرين.
تسببت ظاهرة "الاستقالة العظيمة" في ترك أعداد قياسية من العمال في الولايات المتحدة لوظائفهم. اتخذ أكثر من 24 مليون شخص هذه الخطوة بين أبريل وسبتمبر من هذا العام، وسيبقى العديد منهم خارج قوة العمل. كما تشهد ألمانيا واليابان وغيرهما من الدول الغنية، شيئاً من هذا الاتجاه أيضاً.
اقرأ أيضاً: مسح حكومي: زيادة وتيرة الاستقالات في أمريكا.. وتكساس تتصدر
تسبّب تفشي الوباء بخسائر فادحة، مع ارتفاع مستوى الشعور بالإنهاك، وتدهور الصحة العقلية في دول عديدة، بحسب ما تظهره الاستطلاعات. لكنَّ الدول المتقدمة تشهد المزيد من الضغوط منذ عقود زمنية، فقد تراجعت مداخيل الأفراد، وأصبح الأمن الوظيفي هشاً، وارتفعت تكاليف الإسكان والتعليم، مما أدى إلى انخفاض عدد الشباب القادرين على بناء حياة مستقرة مالياً.
اقرأ المزيد: 4.4 مليون أمريكي استقالوا من وظائفهم في سبتمبر
ظاهرتان متزامنتان
برغم أنَّ "الاستقالة العظيمة" ظاهرة ناشئة بين أولئك الذين تقل أعمارهم عن 40 عاماً؛ فإنَّ صداها يتردد أيضاً في كل أنحاء الاقتصاد، مما يفرض إجراء نقاش موسّع بشأن العمل. فأبناء جيل الألفية (الذين ولدوا بين 1980، وأواخر عقد 1990)، والجيل "زد" (الفئة الديموغرافية التالية)، يميلون إلى الزواج، وشراء المنازل، وإنجاب الأطفال في وقت متأخر عن أسلافهم، إن تحقق لهم ذلك أصلاً.
حركة "الاستلقاء" (lie flat) التي ظهرت في الصين (وهي تعني عدم القيام بأكثر من الحد الأدنى مما هو مطلوب)، والتي بدأت من خلال منشور على وسائل التواصل الاجتماعي حصلت منه على اسمها، تتعلق أيضاً بمغادرة مقر العمل. وهذا ردّ فعل طبيعي ضد نظام يكون فيه جدول العمل الشاق (996) -أي العمل من 9 صباحاً إلى 9 مساء لمدة 6 أيام في الأسبوع- شائعاً في صناعات مثل التكنولوجيا، في ظل ضغوط متواصلة من جانب الأسرة والمجتمع وحتى من قبل الحكومة، لمواصلة تسلّق السلم وتحقيق النجاحات.
ضاعفت دول عديدة حجم اقتصادها خلال العقد الماضي، إلا أنَّ الفوائد لا يجنيها الجميع، فقد كانت تكاليف المعيشة المتزايدة تفوق نمو الأجور في العديد من المدن الكبرى.
ركود أم تمرّد على الواقع؟
نتيجة لذلك؛ يرى بعضهم أنَّ ظاهرة "الاستلقاء" بمثابة تحذير من ركود وشيك يأتي على غرار اليابان، وهي ظاهرة برزت دون سابق إنذار في عملية تنمية الاقتصاد. أما بعضهم الآخر؛ فيجادل بأنَّها أشبه بالحركات المناهضة للثقافة، على غرار الحركات التي ظهرت في الستينيات في الولايات المتحدة، وفي أجزاء من أوروبا الغربية، حيث يسعى الأشخاص العاديون إلى مجتمع أقل ضغطاً، ويركز بشكل أكبر على التنمية الشخصية.
يقول شيانغ بياو، مدير "معهد ماكس بلانك للأنثروبولوجيا الاجتماعية" في ألمانيا إنَّ "ظهور هاتين الحركتين في الوقت ذاته كان من قبيل الصدفة، لكن يمكننا إيجاد ترابط بينهما. الأمر يتعلق بالأسباب التي جعلت النشاط الاقتصادي محموماً وغير مستدام، سواء من الناحية البيئية أو العقلية".
كثيرون يفكرون بالاستقالة
يوضح استطلاع للرأي أجرته شركة "مايكروسوفت" أنَّ نحو نصف العاملين في العالم يفكرون في الاستقالة. فقد قال أربعة تقريباً من كل عشرة مشاركين منتمين إلى جيل الألفية وجيل "زد"، إنَّهم أكثر قابلية لترك وظائفهم إذا طُلب منهم العودة إلى المكتب بدوام كامل مقارنة بأي جيل آخر، بحسب استطلاع عالمي أجرته شركة الاستشارات "كوالتريكس إنترناشونال" (Qualtrics International).
انتقد بعض الأجيال الأكبر سناً هذه السلوكيات معتبرين أنَّها سلوكيات "خاصة ومتكاسلة". لكن حقيقة الأمر تدور حول انخفاض ساعات العمل في الدول الغنية منذ عقود زمنية عبر كل الفئات العمرية.
في مواجهة التهديدات الوجودية مثل الوباء وتغيّر المناخ؛ فإنَّ "الاستقالة العظيمة" والاستلقاء يمكن أن يثيرا نقاشاً أعمق بشأن السعي الحثيث لتحقيق الثروة على مستوى الفرد، وللدول ككل.
تعليقاً على الأمر، يقول بنجامين غرانغر، رئيس الخدمات الاستشارية لتجربة الموظف في "كواليتريكس" (Qualtrics): "عند مواجهة خطر الموت، الناس بالتأكيد يتصرفون بطريقة مختلفة. ينظر الناس إلى العمل بمنظور مختلف تماماً، وهذا المنظور ينطوي على أمور مثل (أنا لا أعمل مقابل أجر. هذا ليس ما يدور حوله الأمر. أنا بحاجة إلى الشعور بالرضا".
"الاستلقاء" في الصين
ما قد بدأ كتعبير بارع عن تمرّد الشباب الصيني، أصبح حركة تم الاعتراف بها حتى من قبل شي جين بينغ، الذي حث مواطنيه -في خطاب ألقاه في أغسطس- على "تجنب الخمول والاستلقاء"، وبدلاً من ذلك "إتاحة المجال للترقيات".
هناك منشور نُشر في أبريل على منصة "بايدو تيبا" (Baidu Tieba) تسبب في انتشار فكرة الاستلقاء بشكل سريع، وهذا المقال يقول: "لم أعمل منذ عامين، ولا أرى أي خطأ في هذا. يأتي الضغط أساساً من المقارنات مع أقرانك، وقيم الأجيال الأكبر سناً، لكن لا يتعين علينا اتباعهم". أجرى ناشر المقال، الذي يشتهر باسم "المسافر طيب القلب" (Kind-Hearted Traveler)، مقارنة بالفيلسوف اليوناني القديم "ديوجانس الزاهد" الذي عاش في برميل، قائلاً: "الاستلقاء هو حركتي الفلسفية".
ربما تكون شينزن، في جنوب شرق الصين، هي الموطن الروحي للحركة. فهذه المدينة التي تعتبر مركز التكنولوجيا المزدهر، هي موطن لمصانع وشركات الإلكترونيات العملاقة مثل "هواوي تكنولوجيز" (Huawei Technologies)، و"تينسنت هولدينغز" (Tencent Holdings)، فضلاً عن 18 مليون شخص جاء الكثير منهم من أجزاء أخرى من الصين لتحقيق أحلامهم في الثراء. والآن؛ مع تباطؤ الاقتصاد، يتساءل بعضهم عمّا إذا كانت هذه الأحلام تستحق كل هذه الجهود المبذولة.
فقدان الأمل
كان جاك، وهو عامل تكنولوجيا يبلغ من العمر 32 عاماً، طموحاً للغاية عندما وظفته شركة اتصالات قبل خمسة أعوام. لكنَّ عبء العمل القاسي لم يُترجم إلى النجاح الذي كان يأمل فيه جاك، الذي أفصح عن اسمه الأول فقط، خوفاً من انتقام رب العمل. وبمرور الوقت تلاشت حماسته. مازال جاك يعمل في الوظيفة ذاتها، لكن ليس بالحماس الذي تمتع به سابقاً.
يقول جاك، إنَّ "العديد من صناعات الإنترنت وصلت إلى مرحلة لم تعد تتمتع معها بنمو هائل. لكن كل العمل الشاق مازال مستمراً، وكل التوتر مازال مستمراً. ستجد أنَّك تفقد الأمل".
يبدو أنَّ اعتبار شينزن واحدة من المدن الأقل تكلفة في العالم يزيد من مشكلات جاك، إذ يقول، إنَّ "الأمر ما يزال مثيراً للجنون حتى بالنسبة إلى المهنيين من ذوي الأجور الجيدة، مثلي أنا وصديقتي". وأضاف: "لكي تدفع دفعة مقدمة لشقة في شينزن؛ فإنَّك بحاجة إلى 2,3 مليون يوان (ما بين 314 ألف دولار إلى 471 ألف دولار تقريباً)، وهذا معناه تقديم مدخراتنا ومساعدة كبيرة من والدينا".
في أكتوبر، شارك آلاف الموظفين في شركات، من بينها "علي بابا غروب هولدينغ" (Alibaba Group Holding)، و"بايت دانس" (ByteDance) مالكة تطبيق "تيك توك"، في حملة عبر الإنترنت تحمل اسم "حياة العامل مهمة" (Worker Lives Matter)، من خلال نشر معلومات عن موعد بدء وانتهاء عملهم في جداول البيانات العامة. ومنذ ذلك الحين، فرضت "بايت دانس" ساعات عمل أسبوعية أقل.
غياب الطموح
في الميمات والمنشورات المتداولة عبر الإنترنت، يطلق الصينيون الأصغر سناً على أبناء جيلهم أسماء مثل: "الشعب الفأر" (mouse people)، و"السمك المملح" (salted fish). (الأسماك المملحة في اللغة الكانتونية تعد استعارة لجثة، لكنَّها قد تعني أيضاً الأشخاص الذين يفتقرون إلى الطموح أو القيادة).
إذا انتشرت مثل هذه المواقف والآراء، فإنَّها قد تتسبب بتسريع خفض عدد السكان، إذ انخفض معدل المواليد في الصين إلى مستوى قياسي في عام 2020، وهو ما يشكل مصدر قلق كبير، خصوصاً أنَّ القوى العاملة تتقلص بالفعل.
يوم بثلاثة أيام
في مكتب سانهي للعمل الواقع شمال مدينة شينزن، يتجمع عشرات الوافدين الجدد من أجزاء أخرى من الصين لمعرفة الوظائف الشاغرة. وبرغم أنَّ العمال المهاجرين في البلاد كانوا يحتفلون من قبل بمثابرتهم، لكنَّهم عُرفوا بقضاء وقتهم في لعب الألعاب عبر الإنترنت أو البث التلفزيوني، فضلاً عن أنَّهم لا يحصلون على وظائف يومية إلا عند حاجتهم إلى المال لدفع فاتورة الهاتف أو الإيجار. ويتلخص أسلوب حياتهم القائم على تجنب العمل الأطول أجلاً ووظائف المصانع لصالح أدوار الخدمة الأقل طلباً في شعار بسيط وهو: "اعمل ليوم واحد، واستمتع بثلاثة".
في صباح أحد الأيام القليلة الماضية، قام السيد لي، وهو رجل من مقاطعة شنشي يبلغ من العمر 32 عاماً، ورفض ذكر اسمه بالكامل، بمسح لوحة إعلانات في السوق بقدر ضئيل من الحماسة. وعندما تواصل معه أحد المسؤولين عن التوظيف في مصنع يبحث عن عمال من خلال مكالمة فيديو عبر الهاتف الذكي، رفض لي الوظيفة بعدما عرف أنَّها تتعلق بتشغيل آلات ثقيلة.
يشير موقف لي إلى أنَّ "ظاهرة الاستلقاء" قد تكون أحد أعراض مرحلة جديدة من التنمية الاقتصادية في الصين. فمع ثراء دولة ما؛ يصبح بوسع عمالها أن يكونوا أكثر انتقائية. في الولايات المتحدة وأوروبا، كان تشكيل طبقة متوسطة كبيرة عاملاً أساسياً في صعود الثقافة المضادة في الستينيات، وفيما بعد ما يسمى بجيل التسعينيات المتكاسل.
تعريف النجاح
في صدى لتلك الحركات الغربية، يقول الشباب الصيني المنتمي إلى الطبقة المتوسطة -الذين يملكون آفاقاً تتجاوز أي شيء كان آباؤهم يتمنونه- إنَّ مجتمعهم ممتثل للعادات والتقاليد، ومادي للغاية. تقول تشين زيانغ، البالغة من العمر 25 عاماً، والتي تعيش في شينزن أثناء دراستها عبر الإنترنت للحصول على درجة الماجستير من جامعة شيكاغو: "هناك تعريف محدود إلى حدِّ ما للنجاح".
تضيف زيانغ أثناء تناولها لمشروب في مقهى راق: "كلنا نعرف جاك ما وأمثاله من الرؤساء التنفيذيين، لكن إذا سعى الجميع إلى شغل مثل هذا النوع من المهن، فبالطبع سيكون هناك المزيد من المنافسة والاكتئاب. بعض الناس يستسلمون ويتبعون نهج الاستلقاء".
استقالة أمريكية
في الولايات المتحدة، تعتبر المخاوف المالية التي يتصف بها جيل الألفية، سابقة بفترة طويلة للمخاوف المتعلقة بكوفيد-19. ففي ظل المزيج المكوّن من ارتفاع ديون الطلاب والتعافي البطيء من الركود الاقتصادي، سيكون هذا الجيل على الأرجح الجيل الأول في تاريخ الولايات المتحدة الأقل ثراءً من الآباء.
يبدو أنَّ الوباء تسبب في وصول هذه المخاوف إلى ذروتها. فقد أشار ثلثا جيل الألفية الذين تركوا وظائفهم في عام 2021 إلى أسباب تتعلق بالصحة العقلية، وفقاً لمسح أجرته منظمة "مايند شير بارتنرز" (Mind Share Partners). وكانت نسبة الجيل "زد" أعلى، فقد بلغت 81%. كما أنَّ المذبحة البشرية والاقتصادية الناتجة عن كوفيد، جعلت العديد من الشباب يتشككون بشأن أولوياتهم.
في يوليو 2020، طلبت الوكالة الفيدرالية في العاصمة واشنطن، حيث عمل بن أندرسون، من موظفيها العودة إلى المكتب دون توفير معدات السلامة، أو توفير تجهيزات تتيح تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي. بعد أن أصبح زميل أندرسون في العمل يعاني من أعراض كوفيد لفترة طويلة؛ بدأ يتساءل عما إذا كانت الوظيفة الثابتة هي مفتاح الأمان والحياة الجيدة في النهاية. ويقول الشاب البالغ من العمر 29 عاماً: "في ظل انهيار العالم، لا أعتقد أنَّهم يهتمون بشأني".
بيروقراطية هائلة
كان أندرسون يفكر في الاستقالة قبل بضعة أعوام بالفعل. فقد حصل على أعلى الدرجات في الكلية، وانتقل إلى مدينة كبيرة للعمل، وقضى سبعة أعوام في وظيفة بدوام كامل من وظائف ذوي الياقات البيضاء، لكنَّه مازال غير قادر على إدخار ما يكفي لشراء منزل. وعلق أندرسون قائلاً: "كان العمل مرهقاً للغاية، وكنت بعيداً عن عائلتي. وفي مرحلة معينة كان الأمر أشبه بـ (لماذا؟).. فقد كنت أعمل في بيروقراطية هائلة لا تستطيع إحداث أي تغيير فيها، فهي ليست مصممة لذلك. لقد شعرت بالإرهاق".
الآن، يعيش أندرسون في لوس أنجلوس، ويمثل في البرامج التلفزيونية والإعلانات التجارية، إذ يقول: "لدي فرصة كبيرة في شيء جنوني مثل هوليوود، وهو شيء شبيه بخوض التحدي في وظيفة حكومية".
برغم أنَّ "الاستقالة العظيمة" غالباً ما يُنظر على أنَّها حركة شبابية، لكنَّ دراسة واحدة على الأقل تُظهر أنَّ الموظفين بين 30 و45 عاماً، يستقيلون أيضاً بمعدلات مرتفعة.
قضى نيت مان، البالغ من العمر 40 عاماً، وهو من بين الفئة الأقدم في جيل الألفية، نصف حياته تقريباً كنادل في العاصمة الأمريكية واشنطن. فقد تقبّل فكرة العمل حتى وقت متأخر من الليل، والضغط الشديد مقابل حوالي 80 ألف دولار سنوياً. لكن عندما تفشّى الوباء، وأُغلقت الحانة التي كان يعمل بها في مارس 2020، قرر التركيز على الرسم، وهو الشيء الذي كان يفعله بشكل هامشي لفترة من الوقت. ويقول: "فجأة وجدت عندي كل هذا الوقت، لذلك اختفيت وركزت على الفن فقط".
الكثيرون من أصدقاء مان، يتخلون عن وظائفهم ذات الأجور الزهيدة أو غير المريحة. و يقول مان عن ذلك الأمر: "الناس شعروا بقوتهم الآن. ولن يخجلوا من الدفاع عن أنفسهم، أو قول كلمة لا. لن أفعل ذلك. هذا ليس عدلاً أو أمراً صائباً".
كان مان واحداً من الكثيرين الذين استخدموا الأموال التي ادخرها على مر السنين لتسهيل إعادة اكتشاف نفسه من جديد. الجدير بالذكر أنَّ معدل المدخرات الشخصية في الولايات المتحدة ارتفع بشكل كبير خلال الوباء بفضل إعانات البطالة المعززة، وشيكات برامج التحفيز.
الإنهاك العالمي
تبدو المحادثات الجارية في الصين والولايات المتحدة حول كيفية تحقيق التوازن بين العمل والأنشطة الأخرى أمراً مألوفاً في اليابان. ففي التسعينيات؛ رسمت وسائل الإعلام صورة غير جذابة لـ"العمال غير الدائمين" من فئة الشباب الذين رفضوا ثقافة المكتب المتطلبة في اليابان، بتسلسلها الهرمي الصارم، وأيام العمل التي تستغرق 15 ساعة نظير العمل في وظائف غريبة.
قال الشباب، إنَّهم أُرغموا على أسلوب حياتهم هذا، نظراً للركود الاقتصادي، وإلغاء القيود التنظيمية لسوق العمل، مما أدى إلى انخفاض عدد الوظائف ذات الأجر، والمزيد من انعدام الأمن الوظيفي.
بحلول عام 2010، أطلق على العمال غير الدائمين لقب "جيل ساتوري" (satori generation)، وهو لقب أقل استخفافاً كجزء من ظاهرة أكبر تشير إلى حالة من التوعية في البوذية اليابانية المحققة عبر التخلي عن الرغبات المادية.
يعمل كايرو تايرا، البالغ من العمر 22 عاماً، في شركة سلع استهلاكية في مدينة كوبي، ويدير مدونة "جيل ساتوري". برغم أنَّه ليس واحداً من العمال غير الدائمين؛ فإنَّه يعتبر نفسه شخصاً بسيطاً لديه خزانة ملابس محدودة تشمل أربعة قمصان، وأربعة قمصان طويلة الأكمام فقط.
ما هو المهم في الحياة؟
يقول تايرا، إنَّ "جيل ساتوري" يُلام على "عدم مساعدة الاقتصاد بما يكفي"، لأنَّهم ينفقون القليل جداً. ويضيف: "لكني أعتقد أنَّ كل واحد منا أكثر قدرة على رؤية ما هو مهم حقاً في الحياة. وفي هذه الحالة، أنا أحب مصطلح جيل ساتوري".
ربما يشير القبول المتزايد لجيل ساتوري إلى أنَّ معدلات النمو المنخفضة والعمالة الأقل استقراراً وجدت كي تبقى. كذلك؛ انخفض عدد المواليد الجدد في البلاد، الذي بدأ بالفعل في الانخفاض منذ عقود، إلى مستوى قياسي منخفض في عام 2020.
يقول روبن أوداي، وهو أستاذ بجامعة شمال جورجيا الذي يدرس ثقافة الشباب الياباني: "مع وجود العمال غير الدائمين، كان هناك الكثير من الخجل والخوف والغضب. والآن يبدو أنَّه لا يوجد أي شيء يمكن فعله".
تلقت توقُّعات صغار السن ضربة مماثلة من التباطؤ الاقتصادي في تايوان في أوائل عقد 2000. في ذلك الوقت، كان إيه-غوي يعمل كمحرر فيديو في تايبيه، ثم استقال في عام 2006، وأصبح عاملاً مستقلاً بعد أن أنهكته وظيفة جعلته ذات مرة يقضي ثلاثة أيام متتالية في المكتب لإنهاء مشروع ما.
علّق إيه-غوي قائلاً: "طالما لدي ما يكفي للعيش، فإنَّه كافٍ"، وأضاف: "أموالي تكاد تنفد في بعض الأوقات، لكنَّ شيئاً ما كان يحدث دائماً".
في النهاية، تزوج إيه-غاي، ثم عاد إلى العمل بدوام كامل في عام 2016، لكنَّه يرى الشباب المحبطين اليوم يسلكون اتجاهاً مماثلاً. ويقول: "مهما عملت بجد؛ فإنَّك لن تتمكن من شراء منزل. ترتفع أسعار المنازل دائماً، لذلك أصبح من الصعب الحصول على واحد. ما المغزى من ذلك؟".
حتى في أوروبا التي تتسم بقدر أكبر من الرفاهية، حيث حالت برامج الاستبقاء دون تسريح العمالة بسبب الوباء على نطاق شوهد في الولايات المتحدة؛ فإنَّ أشخاصاً كثيرين يعيدون التفكير في حياتهم المهنية. أما في جميع أنحاء منطقة اليورو؛ فقد انخفض عدد العاملين بنحو 2 مليون شخص عما كان عليه قبل تفشي الوباء.
شعرت ميلينا كولا، البالغة من العمر 26 عاماً، براحة بمجرد انتهاء عقد عملها في منظمة غير ربحية في برلين تركز على السياسة، وذلك في أبريل 2020. وقالت: "كرهت العمل في وظيفة مكتبية، وكان الجزء الأفضل في يومي هو الـ45 دقيقة التي أستغرقها في قيادة الدراجة للذهاب إلى العمل".
تعيش كولا الآن في ريف براندنبورغ، كما تخطط لإنشاء مساحة مشتركة لأشخاص مثلها يريدون العيش بطريقة أكثر استدامة بيئياً. تشير إلى أنَّ الفكرة لا تكمن في ترك المجتمع، بل في المساعدة على خلق مجتمع يؤمنون به. وتضيف: "كنت بحاجة إلى نهج مختلف لكيفية القيام بالأشياء والتحرر من المناورات لخلق حياة أريدها".
ما يُصوّر على أنَّه تغيير في سلوكيات الشباب، هو في الغالب مجرد مظهر من مظاهر الاتجاهات طويلة المدى، على حدِّ قول بوبي دافي، مدير معهد السياسات في "كينغز كوليج لندن". دافي لديه كتاب اسمه "أسطورة الجيل" (The Generation Myth) يتحدى فيه الأفكار النمطية المتعلقة بتغييرات الأجيال.
تحوّل هيكلي ونفسي
يفيد دافي بأنَّ أشخاصاً كثيرين في العشرينيات والثلاثينيات من العمر، يسعون إلى أشياء مختلفة عن العمل مقارنة بنظرائهم الأكبر سناً، مثل إعطاء الأولوية لتعلم مهارات جديدة على الاستقرار. لكنَّ الفئات الأكبر كانت لديها وجهات نظر متشابهة بشكل كبير عندما كانوا صغاراً.
مما لا شكَّ فيه أنَّ كثرة الأشخاص الذين يتركون وظائفهم في الولايات المتحدة وأوروبا، يشكّل علامة على تحوّل هيكلي ونفسي، بحسب غرانغر، من "كواليتريكس". ويقول إنَّ الناس يتجهون إلى "العمل على شيء ذي مغزى، ويكون له غرض أسمى، وقد رأينا أدلة كثيرة على ذلك".
ربما يكون التحول في الصين أكثر جوهرية، إذ يحاول الحزب الشيوعي التصدي لظاهرة الاستلقاء من خلال الوعد باستمرار الترقيات، ومع خطط لمضاعفة حجم الشريحة السكانية متوسطة الدخل بحلول عام 2035. لكنَّ تباطؤ النمو الاقتصادي يدفع الحزب إلى التركيز أكثر على كيفية توزيع هذه المكاسب. وتهدف السياسات الأخيرة الرامية إلى تحسين ظروف العمال في الوظائف المؤقتة، وخفض تكاليف الإسكان والتعليم، إلى تحسين جودة الحياة.
إذا استمرت هذه المخاوف بشأن قيمة العمل، فقد يكون لها تأثير بمرور الوقت على مسار الاقتصادات.
يقول شيانغ، من معهد ماكس بلانك، إنَّ "الاستلقاء والاستقالة العظيمة يثيران أسئلة صعبة دون تقديم مطالب محددة للتغيير، وهو ما يشكّل زخماً جيداً. ويمكن أن يبث هذا الأمر طاقة للتحرك نحو تبني نماذج نمو جديدة".