كانت محاولة شركة "وي ورك" (WeWork) طرح أسهمها في اكتتاب عام قبل عامين، بمثابة كارثة موصوفة. فقد كانت الشركة تبدّد الأموال بمعدل يصل إلى 2 مليار دولار سنوياً، وكان رئيسها التنفيذي الذي يتسم بالعشوائية وجنون العظمة، آدم نيومان، قد أثرى نفسه ببيع الأسهم، مع إقناع مستثمري القطاع الخاص بتقييم "وي ورك" بمبلغ ضخم يصل إلى 47 مليار دولار.
مع ذلك، رفض المستثمرون من القطاع العام هذا السعر، واضطرت الشركة الناشئة إلى سحب ملف طرحها العام الأولي بشكل رسمي، كما استقال نيومان وخسر آلاف الموظفين وظائفهم، وكل ذلك حدث في غضون بضعة أشهر فقط.
ثم تفشى وباء كوفيد-19، وبالتالي أصبح المكان الأخير الذي يريد الناس التواجد فيه هو مساحة مغلقة مشتركة مع مئات الغرباء الذين يتنفسون نفس الهواء، ويلمسون أزرار المصعد ذاتها وموزعات المياه ذاتها. انخفض معدل إشغال "وي ورك" من 67% إلى 46% خلال الأشهر التسعة الأولى من الوباء.
اقرأ أيضاً: شركات في أمريكا وأوروبا تتراجع عن الطرح العام بسبب الأسواق المتقلبة
محاولة جديدة
الآن، تجري "وي ورك" محاولة أخرى لطرح أسهمها للاكتتاب العام من خلال عملية اندماج مع شركة شيك على بياض بقيمة 9 مليارات دولار في أواخر أكتوبر. بهذه الطريقة تبلغ "وي ورك" المستثمرين بأنها خرجت من أزمة كوفيد في وضع أقوى من ذي قبل، كما أنها تجادل بأن العملاء يبحثون بشكل متزايد عن مكاتب مرنة لاستيعاب القوى العاملة الراغبة في تقسيم الوقت بين المنزل والمكتب.
في عرض تقديمي أجرته أمام المستثمرين في 7 أكتوبر، أعلنت "وي ورك" عن تحقيق عوائد بقيمة 228 مليون دولار في سبتمبر، وهو أفضل شهر لها هذا العام، فضلاً عن عودة نسبة الإشغال إلى 60%.
كذلك، تحرص "وي ورك" على تسليط الضوء على كافة الطرق التي اتبعتها للتخلص من الفوضى التي أحدثها نيومان في عام 2019. وفي أوائل عام 2020، تم تعيين الرئيس التنفيذي الجديد والمخضرم في قطاع العقارات، سانديب ماثراني، الذي اشتهر بأنه قادم من عملاق مراكز التسوق "جنرال غروث بروبرتيز" (General Growth Properties)، وبأنه لا يحب الأضواء ويبتعد عن الحفلات، ويميل للمشي حافي القدمين على الرصيف، وهو ما جعل منه رجلاً سيئ السمعة.
اقرأ المزيد: هل تسترد "سوفت بنك" استثمار 17 مليار دولار بعد إدراج "وي ورك"؟
المهمة الكبرى المكلف بها ماثراني، هي أن يثبت للمستثمرين أن الفكرة الأساسية لـ"وي ورك" كانت جيدة بصفة دائمة، حتى لو لم يكن مستوى إدارتها يشير إلى ذلك. كما أنه قال في يوم المستثمر: "المرونة هي جوهر مستقبل المكاتب".
إعادة ترتيب الاستثمارات
في ظل توجيهات ماثراني الأكثر حذراً، تخلّت "وي ورك" عن العديد من الاستثمارات التي دخلت فيها خلال عهد نيومان، والأعمال الجانبية المثيرة للجدل، مثل المدرسة الابتدائية (التي كان أطفال نيومان طلاباً فيها) وشركة حمامات السباحة الداخلية.
كما تخلصت "وي ورك" أيضاً من 500 من أسوأ عقود إيجار للمباني، إما عن طريق الخروج منها بالكامل أو إعادة التفاوض على الصفقات، فضلاً عن تخفيض مصروفات الإيجار بمقدار 400 مليون دولار، والنفقات الإدارية بمقدار مليار دولار. بالإضافة إلى ذلك، بدأت في تسليم التزامات الإيجار في الخارج عبر توقيع اتفاقيات امتياز مع مشغلين آخرين، بدلاً من إدارة مبانيها الخاصة. والآن، تحتسب الشركة استحواذ عملائها من المؤسسات -الذين يميلون إلى أن يكونوا عملاء أكثر استقراراً وأطول أمداً من العمال الأفراد- على أكثر من نصف قاعدة المستأجرين.
حتى مع ميل نموذج إيراداتها بعيداً عن العمال الأفراد، لا تزال جاذبية "وي ورك" تعتمد بشكل كبير على فكرة توفيرها تجارب عمل ممتعة بالنسبة إلى العاملين لحسابهم الخاص ورجال الأعمال الذين كانوا يعملون بجد في المقاهي أو على طاولات المطبخ الخاصة بهم. وفي بعض الحالات، أدى الوباء إلى زيادة مستوى جاذبية نقاط القوة الرئيسية في "وي ورك"، وهذه النقاط هي الراحة والمجتمع.
اعتاد آدم كوهين-أسلاتي، المؤسس والرئيس التنفيذي لتطبيق المواعدة "إس مور" (S’More)، على شغل مكتب صغير في موقع "وي ورك" في وسط مانهاتن لموظفيه الثمانية. ثم أغلق المكتب مؤقتاً للتعقيم بعد تفشي كوفيد في مارس 2020، وعند إعادة فتحه، كان كوهين-أسلاتي هو الوحيد الذي عاد إلى هناك.
مكاتب فارغة
"وي ورك" كان لديها ستة طوابق من المكاتب في ذلك الموقع، لكن في معظم الأيام لم يتواجد هناك سوى كوهين-أسلاتي، وعدد قليل من الأفراد الآخرين وموظفي التنظيف والإداريين.
عن ذلك، يقول: "لقد شعرت حقاً أنني أتوهم. فقد كان لدي ستة طوابق لنفسي. يمكنني أن أركض هنا عارياً، ولن يعرف أحد بذلك على الإطلاق".
كان كوهين-أسلاتي يسير إلى مكانه الخاص في "وي ورك" يومياً، والذي كان يعتبره في الغالب ملاذاً من شقته ذات غرفة النوم الواحدة، حيث كان هو وزوجه يبذلون مجهوداً كبيراً للعمل سوياً.
وبعد بضعة أسابيع، أقام صداقة مع شخص آخر يأتي باستمرار إلى مكتب "وي ورك"، وهذا الشخص هو مؤسس شركة ناشئة من نفس الحجم كان يعمل في الردهة. بدأ الثنائي في التلويح للترحيب ببعضهما البعض عبر الألواح الزجاجية، ثم أخذا يطلبان مشورة بعضهما البعض بشأن محامين لتوظيفهم، وأي الأدوات التحليلية المناسبة للشراء، ثم تقدم الأمر إلى احتساء مشروب البيرة معاً بعد العمل.
يقول كوهين-أسلاتي: "لمدة عام لم يكن هناك أحد سوانا نحن الاثنان فقط، وأصبحنا أصدقاء مقربين". نقلت الشركتان الناشئتان موظفيهما البالغ عددهم 15 موظفاً إلى مكتب مشترك في موقع مختلف لـ"وي ورك" في أغسطس.
بعد ذلك، بدأ المكتب في وسط مانهاتن بالامتلاء بموظفي "وي ورك" الذين كانوا يعملون هناك أثناء تجديد الموقع الرئيسي للشركة. وفي مايو، عادت الامتيازات المكتبية -التي تتمثل في الكمبوتشا وماء صودا سيلتزر والشاي المثلج بالفاكهة وقهوة نيترو، كما يقول كوهين أسلاتي- حتى وإن كان ذلك من دون بعض المعتقدات السابقة لـ"وي ورك". كذلك، يقول: "لم يعد هناك بيرة، وهذا أمر جيد".
لا تزال الشركات غير متأكدة مما ينبغي فعله في ظل مرورها بواقع جديد، حيث يفضل العديد من الموظفين الدمج بين العمل من المنزل وفي المكتب. وقد قدمت "وي ورك" منتجات مثل تصاريح للدخول والوصول عند الطلب، والتي تسمح بتقديم مساحات مكتبية للعمل المشترك بشكل فوري.
كما أنها تحاول التودد للشركات العقارية التي واجهت أعمالها تعقيدات بسبب الوباء. فقد عقدت شراكة مؤخراً مع شركة الخدمات العقارية "كوشمان آند ويك فيلد" (Cushman & Wakefield) لتوفير مساحة مكتبية مرنة للمستأجرين غير المتأكدين من المساحة التي سيحتاجونها في مستقبل ما بعد كوفيد.
صفقات جديدة
بدأت "وي ورك" في استكشاف الصفقات لتحويل مساحات البيع بالتجزئة غير المستغلة إلى مساحات عمل مشتركة تحمل العلامة التجارية للشركة، بما في ذلك صفقة حديثة عقدتها مع "ساكس فيفث آفنيو" (Saks Fifth Avenue)، ما يسهل وصولها إلى المزيد من العقارات دون الحاجة إلى الحصول على عقود إيجار جديدة.
مما لا شك فيه أن "وي ورك" بحاجة إلى التأكد من أن مكاتبها مثيرة بما يكفي لتستحق المال والانتقال إليها مهما كان الحل المطروح.
من هذا المنطلق، يقول توماسو توسي، مؤسس الشركة الناشئة "تيتانس" (Titanss)، إنه شعر بخيبة أمل في بداية تفشي الوباء عندما جرب مكاتب "وي ورك" وكان الشخص الوحيد المتواجد في ثلاثة طوابق فارغة. لكنه انتقل مؤخراً من لندن إلى سان فرانسيسكو ووجد ما كان يبحث عنه، وهو بعض شبكات المكاتب الودودة.
في شهر مايو، في موقع "وي ورك" في الحي المالي بسان فرانسيسكو، كان المستأجرون مستعدين للعودة إلى الاختلاط، وكان الحضور يشربون القهوة باستمرار، والأهم من ذلك، كان هناك طاولة بينغ بونغ وشركاء على أهبة الاستعداد في لعبة المجداف.
وبحلول الصيف، كان المكتب يتسم بالازدحام مرة أخرى، وكان هذا أمراً جيداً بالنسبة إلى توسي، الذي كان متعطشاً لمقابلة رواد أعمال آخرين.
يقول توسي: "أذهب وأعمل في مكتب (ووي ورك)، وألتقي بمؤسسين آخرين هناك ممن ينشئون مشاريعهم الخاصة. هكذا هو الأمر في وادي السيليكون، هل تدرك ذلك؟".