اختار الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن رئيسة مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابقة جانيت يلين لقيادة وزارة الخزانة الأمريكية، بسبب الجاذبية التي تتمتَّع بها، فضلاً عن قدرتها على تحقيق توافق في الآراء، واهتمامها بالبيانات، وهي الصفات ذاتها التي ساعدتها بشكل جيد طوال مسيرتها المهنية التي استمرت لعقود في البنك المركزي. كذلك؛ فإنَّ الديموقراطيين والجمهوريين على حدٍّ سواء، يمتدحون تقييمها للأمور.
الآن، تخضع نقاط القوة هذه للاختبار، إذ تحتاج يلين، البالغة من العمر 75 عاماً، إلى إقناع الكونغرس المنقسم حزبياً بشدَّة، برفع سقف الدين العام، دون تطبيق إحدى سياسات حافة الهاوية السياسية التي أدَّت إلى أوَّل خفض لتصنيف الدين العام في أمريكا قبل عقد من الزمان. (قالت يلين إنَّه يجب رفع سقف الدين بحلول 18 أكتوبر الجاري. وفي وقت نشر هذا التقرير، كان هناك إجراء قصير المدى قيد الدراسة لتمديد الفترة إلى ديسمبر)، كما يتعيّن عليها أيضاً أن تكافح من أجل خطة بايدن لتحفيز الاقتصاد الأمريكي، عبر خوض تجربة تاريخية مشحونة سياسياً للإنفاق على البنية التحتية والبرامج الاجتماعية.
اقرأ أيضاً: يلين تحذّر من مخاطر التخلف عن السداد بحلول أكتوبر إذا لم يُرفع سقف الاقتراض
بسبب منصبها الجديد، تجد يلين نفسها في منطقة غير مألوفة بالنسبة إليها، إذ تضطر إلى خوض مفاوضات في كونغرس منقسم بشدَّة، تدور مشاجراته في العلن. وستحتاج إلى الدهاء في عالم من المساومات، وعقد الصفقات بين المشرِّعين، لتفادي ما وصفته بـ"كارثة اقتصادية واسعة النطاق" من شأنها أن تجعل الأمة الأمريكية "أضعف بشكل دائم"، إذا لم يتم رفع سقف الدين العام.
وزيرة أكاديمية
استطاع أسلاف يلين في المنصب: روبرت روبين، و هانك بولسون، وستيفن منوشين، الاستفادة من خبرتهم التي تمتد لعقود في إدارة علاقات العملاء في بنك "غولدمان ساكس غروب"، عندما وصلوا إلى واشنطن. لكنَّ يلين تُعدُّ مديرة ذات طابع أكاديمي أكثر. ويقول نائب رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي السابق، آلان بليندر: "لا تعتبر يلين أكثر وزيرة خزانة محنكة سياسياً تتولى هذا المنصب".
بالنسبة إلى بعضهم؛ هذا يجعلها مصدراً للطمأنينة، في وقت بات فيه الاستقرار المالي للأمة الأمريكية على المحك. ويقول مايكل بينيت، وهو نائب ديمقراطي من كولورادو يعمل ضمن اللجنة المالية في مجلس الشيوخ: "لا أفكر في يلين كسياسية بقدر ما أنظر إليها كخبيرة اقتصادية". وأضاف: "هذا يدفعها إلى أن تكون صاحبة رأي مهم لا يتأثَّر بالنزعة الحزبية".
كما أنَّ منتقدي بايدن من الشرسين، وضعوا خبراتها في حسبانهم. وقال النائب الجمهوري ذائع الصيت في لجنة الخدمات المالية في مجلس النواب، باتريك ماكهنري، موجهاً حديثه إلى يلين ورئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، في جلسة الاستماع التي عُقدت الشهر الماضي، وانتقد فيها الإدارة الأمريكية باعتبارها غير ذات أهلية: "مصداقيتكما كأفراد ذات أهمية جوهرية في الوقت الحالي، ومهمة للغاية بالنسبة إلينا في الحكومة الأمريكية". رفضت يلين إجراء مقابلة معها بخصوص هذه القصة.
اقرأ المزيد: ما هو تأثير إعادة تحديد سقف للدين الأمريكي على الأسواق؟
خلال العام الماضي، كانت يلين تسمتع بحياتها الخاصة بعد تقاعدها من مجلس الاحتياطي الفيدرالي. وكانت تقضي وقت فراغها المكتشف حديثاً في تجربة الوصفات الهندية مع زوجها الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل جورج أكيرلوف، وإلقاء الخطب أمام المصرفيين في "وول ستريت"، مما جنى لها ملايين الدولارات. ثم أقنعها بايدن بالانضمام إلى حكومته. وكان من الصعب رفض منصب وزيرة الخزانة، مما جعلها أول شخص يشغل المناصب الاقتصادية الثلاثة الكبرى في الحكومة الأمريكية، وهي: إدارة وزارة الخزانة، والاحتياطي الفيدرالي، ومجلس البيت الأبيض للمستشارين الاقتصاديين.
بينها وبين الموظفين؛ كانت يلين صريحة حول إحجامها عن تولي المنصب، وتمزح بالقول، إنَّها خرجت من التقاعد للعمل لدى بايدن، وذلك وفقاً لما أكَّدته مصادر مطَّلعة طلبت عدم الكشف عن هويتها، لأنَّه غير مصرح لها بالتحدُّث إلى الصحافة. وهذا ما جعل "وول ستريت"، بالإضافة إلى مسؤولي الإدارة يتساءلون عن موعد تنيحها عن وزارة الخزانة. كما أنَّ بعض المساعدين داخل الإدارة يراهنون على ما إذا كانت ستستقيل قبل أو بعد انتخابات التجديد النصفي في عام 2022، وفقاً لمصادر مطَّلعة على الأمر.
في داخل البيت الأبيض، يقول المسؤولون، إنَّ رغبة يلين في العودة إلى التقاعد واضحة، وانتقد بعضهم بشكل خاص نهجها باعتباره غير نشط، أو ظاهر بما فيه الكفاية. ويعارض رئيس موظفي البيت الأبيض رون كلاين ذلك. وقال في بيان: "لا يمكنك تخيّل مدى قيمة الوزيرة يلين بالنسبة إلى الرئيس بايدن". وأضاف: "هي تضيف خبرة ومصداقية لا مثيل لهما إلى المنصب".
يقول تيم دوي من شركة "إس جي إتش ماكرو أدفيزورز" (SGH Macro Advisors) بعد 8 أشهر من تولي يلين منصبها: "أصبحنا نستشعر جميعاً أنَّها لا تتحدَّث كرئيسة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي، وإنَّما كوزيرة للخزانة".
ضعف وتوتر
لكن في بعض الأوقات، تبدو يلين وكأنَّها مازالت تتصرَّف كمصرفية في البنك المركزي، وتدلي بتصريحات عامة حول السياسة النقدية بطرق تجنَّبها أسلافها، مما تسبَّب في حدوث كبوة في الأسواق المالية في أحد أيام شهر مايو الماضي، بعد أن قالت، إنَّ أسعار الفائدة سترتفع على الأرجح مع زيادة الإنفاق الحكومي. وعلى الرغم من أنَّ مضمون هذا البيان كان بديهياً، إلا أنَّ الإعلان النادر لأحد أعضاء مجلس الوزراء عن النظرة المستقبلية لأسعار الفائدة، أدت إلى توتر بعض من هو في البيت الأبيض. وعندما سُئلت يلين خلال مقابلة مع بلومبرغ؛ تمَّت خلال يونيو الماضي، عمَّا إذا كانت الإدارة ستتخلى عن خطط الإنفاق الضخمة، إذا خرج التضخم عن السيطرة؛ سرعان ما أطلقت خطاباً حول بيئة أسعار الفائدة الأعلى.
حتى فيما يتعلَّق بقضايا مجلس الاحتياطي الفيدرالي، وهو المجال الذي تتمتَّع فيه بأكبر قدر من الخبرة، لم تتمكَّن يلين من توحيد الحزب الديمقراطي وراء توصيتها بإعادة تعيين باول كرئيس للمجلس، في حين تحافظ على تقاليد "الفيدرالي"، فيما يتعلَّق بإجاباتها بشكل نادر عن أسئلة الصحفيين.
لم تلعب يلين دوراً مباشراً في صياغة سياسات بايدن الرئيسية، التي تمَّ تشكيلها قبل تنصيبه من قبل مستشاريه المقربين له منذ فترة طويلة على غرار جاريد بيرنشتاين. ومن وجهة نظر تيم دوي، كخبير اقتصادي يقدِّم المشورة لعملاء "وول ستريت"، يبدو أنَّ يلين "تلعب دوراً ثانوياً" في وضع أجندة السياسة الاقتصادية التي "يقودها البيت الأبيض إلى حدٍّ كبير". ويوافق بليندر، المسؤول السابق في الاحتياطي الفيدرالي على هذا الرأي، مشيراً إلى أنَّ معظم خطة بايدن الاقتصادية تمَّ وضعها قبل انضمام يلين إلى الإدارة. وقال: "لم ينتظروا تعيين يلين في المنصب".
لا تصنع السياسات
يشير هذا الدور إليها كمتلقية بدلاً من كونها صانعة للسياسة، إلى أنَّ وزارة الخزانة باتت تتمتَّع بظهور أقل مما كانت عليه في الإدارات السابقة، عندما كان وزراء الخزانة ينتقلون من مكتب إلى آخر في "الكابيتول هيل" للتحدُّث إلى المشرِّعين، ويظهرون بانتظام على التلفزيون للترويج للأجندة الاقتصادية للرئيس.
وقال مسؤول في الإدارة الأمريكية طلب عدم الكشف عن اسمه لمناقشة مسألة داخلية، إنَّ يلين هي المسؤولة الوحيدة في مجلس الوزراء التي تشارك في مكالمات يومية مع كبار موظفي البيت الأبيض، كما تتفاعل بانتظام مع أعضاء الكونغرس في كلا الحزبين، بحسب المصدر، كما تتواصل مع الديمقراطيين أصحاب المراكز القيادية في الكونغرس، لكن ليس مع الجمهوريين.
حتى الآن، كان دور وزارة الخزانة في عهد يلين يتضاءل في مجال رئيسي واحد، وهو: إدارة العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين. والشيء الوحيد الذي يبدو أنَّها غير متوافقة فيه مع بقية الإدارة الأمريكية؛ هو الموقف المتشدِّد تجاه الحكومة الصينية. وفي يوليو الماضي، قالت يلين، إنَّ التعريفات الجمركية التي وضعها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب أضرَّت بالمستهلكين الأمريكيين، وهو تعليق أثار حفيظة البيت الأبيض. وبعدها ببضعة أسابيع، أشادت وزيرة التجارة جينا ريموندو -التي تستضيف اجتماعات استراتيجية منتظمة حول سياسة الصين من مشاركة دون وزيرة الخزانة- بهذه التعريفات، ووصفتها بأنَّها "مؤثِّرة للغاية". وقالت المتحدِّثة باسم وزارة الخزانة، ألكسندرا لامانا، إنَّ يلين متوافقة مع رؤية بايدن في ملف الولايات المتحدة والصين.
إنجازات لافتة
اقتنصت يلين بالفعل بعض الإنجازات المهمة. وفي يوليو الماضي، قادت وزيرة الخزانة الأمريكية وزراء مالية مجموعة العشرين في إبرام اتفاق بشأن الضرائب العالمية، وهو الاتفاق الذي استعصى إجراؤه على المفاوضين لما يقرب من عقد من الزمان. وخلال شهر مارس؛ وقَّع بايدن مشروع قانون للإغاثة من الوباء بقيمة 1.9 تريليون دولار، وأقرَّه الكونغرس بعد أن ساعدت يلين في إقناع المشرِّعين أنَّ الاقتصاد بحاجة إلى دفعة مالية أخرى، وخصصت أكثر من 700 مليار دولار للعائلات والشركات، كما دعمت وزارة الخزانة بالمجموعة الأكثر تنوعاً من كبار المسؤولين في تاريخ الوزارة.
ووصفها كلاين، رئيس موظفي البيت الأبيض في إدارة بايدن، بأنَّها "قوة دافعة لا تتوقَّف" لتنفيذ أجندة الرئيس، وقال: "عندما تتحدَّث؛ يستمع إليها الجميع داخل البلاد وخارجها".
أيضاً، تستخدم يلين صوتها لمحاولة إقناع الناخبين، والمشرِّعين، والعاملين في "وول ستريت" بأنَّ حزم التحفيز الهائلة لن تتسبَّب في ارتفاع مستمر بالأسعار. وحتى الآن، كانت هي وباول في حالة اتفاق في الرأي القائل بأنَّ الارتفاع المفاجئ في الأسعار ما هو إلا مشكلة مؤقتة نتجت عن تكيّف الاقتصاد مع أزمة تحدث مرة واحدة كل قرن من الزمان... مدى صحة هذا التقييم قد لا تتضح لسنوات، لكن على الأرجح ستؤخذ نتائج ذلك بالاعتبار في إرث يلين.