بالطريقة التي يرويها الفرنسيون، لم يدركوا أن ذلك سيحدث. استقبل التلميح الأول للازدراء الوشيك في 15 سبتمبر، عندما تسرب إلى المسؤولين في باريس ووسائل الإعلام اتفاق الشراكة الأمنية الجديد في وقت متأخر من بعد الظهر بتوقيت أوروبا.
سيشهد الاتفاق الذي أُعلنَ في ذلك اليوم، المعروف باسم "أوكوس" (Aukus) ، مشاركة المملكة المتحدة والولايات المتحدة في بناء قدرات عسكرية سرية مع أستراليا لتطوير مزيد من الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية في المحيط الهادئ. يُعَدّ الاتفاق خبطة ناجحة للمملكة المتحدة، التي كانت تواصل سعيها لتأكيد مكانتها على الساحة العالمية بعد مغادرة الاتحاد الأوروبي.
لكن الإعلانات الرسمية لم تذكر فرنسا. اكتشفت القوة البحرية التي لها بصمتها الخاصة في المنطقة، أن أستراليا كانت تتراجع عن صفقة سابقة للحصول على عشرات الغواصات الفرنسية غير النووية، كما استُبعدَت بهمجية من قرار استراتيجي رئيسي يتعلق باحتواء الصين.
أزمة الغواصات أعمق بكثير من الكبرياء الفرنسية
حان الوقت لكي تكون باريس واقعية.. فالسرية ضرورية في فن الحكم والإدارة
كان غضب فرنسا فورياً، وندد وزير الخارجية جان إيف لودريان، الذي كان يتسم بضبط النفس عادة، بالخديعة إزاء المباحثات التي حدثت منذ شهور دون علم بلاده. صبّت فرنسا غضبها على الولايات المتحدة وأستراليا، واستدعت سفيرَيها في واشنطن وكانبيرا، لكنها نحّت المملكة المتحدة جانباً باعتبارها لاعباً صغيراً دوره "كإطار احتياطي" لا يستحقّ صفعة دبلوماسية.
طعنة في الظهر
ما سمَّاه لودريان "طعنة في الظهر" سبق قمة مجموعة السبع في شهر يونيو الماضي، وهي لحظة نادرة خلال فترة الجائحة عندما اجتمع القادة الأربعة المعنيون مع آخرين على أحد الشواطئ الإنجليزية. تشاجر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وعبّر عن إحباطه للرئيس الأمريكي جو بايدن، ودعا رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون إلى باريس. وفقاً لدبلوماسييه، لم يكن على دراية بالخطة السرية التي كان الثلاثة الآخرون يدبّرونها.
كان لكل فرد أجندته، على ما يبدو، وله نسخته الخاصة من الأحداث. تنتمي جميع الدول المعنية إلى تحالف ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها لا تنظر بالضرورة إلى التهديد من الصين التي تثبت نفسها على نحو متزايد بنفس الطريقة. على سبيل المثال، لم تكن فرنسا متشددة مثل حلفائها الناطقين بالإنجليزية.
بالنسبة إلى جونسون، يُعَدّ الاتفاق دليلاً على أن بلاده، التي كانت إمبراطورية بحرية عظيمة، لا يزال بإمكانها استعراض عضلاتها بعد أن أصبحت متحررة من الاتحاد الأوروبي. لا تزال تفاصيل الانفصال من التكتل قيد التفاوض، إذ لا تزال اللوائح المالية والتجارة في أيرلندا الشمالية ومسائل أخرى بلا حل. وتبقى إحدى الفوائد الموعودة -وهي صفقة تجارية سريعة مع الولايات المتحدة– سراباً، إذ قال جونسون نفسه إن بايدن لديه "أمور أكثر أهمية له".
وكتبت وزيرة الخارجية الجديدة في حكومة جونسون، ليز تروس، افتتاحية بعد 24 ساعة من الإعلان، أشادت فيها "باستعداد المملكة المتحدة لأن تكون عنيدة". رأت صحيفتا "نيويورك تايمز" و"لوموند"، وهما صحيفتان راسختان في الولايات المتحدة وفرنسا على الترتيب، في ذلك انتصاراً لبريكست المملكة المتحدة.
خلط أوراق الحلفاء
كما يبعث اتفاق "أوكوس" برسالة إلى فرنسا من الولايات المتحدة: في عهد بايدن، إن إبقاء الصين المنافسة اللدودة تحت الاختبار هو أمر حتمي في السياسة الخارجية، وإذا تأذت المشاعر على طول الطريق، فليكن الأمر كذلك. لم يجرِ كثير من المشاورات مع حلفاء البلاد بشأن الانسحاب من أفغانستان أيضاً. ودخل فريق بايدن في محادثة هاتفية واضحة مع ماكرون الغاضب. في غضون ذلك، سيقف لودريان بدلاً من الرئيس الفرنسي على منصة الأمم المتحدة.
لم تشعر أستراليا بكثير من القلق بسبب تمزيق الصفقة الفرنسية، التي كانت بقيمة 65 مليار دولار. لقد تغيرت الاحتياجات الاستراتيجية طويلة الأجل لأستراليا. أقر موريسون علناً بـ"خيبة أمل" فرنسا، لكنه أصر أيضاً على أن تحفُّظاته على المشروع كانت معروفة للفرنسيين. وتنفي فرنسا قطعاً ما يلي: "لم يخبرنا الأستراليون قط عن رغبتهم في الحصول على قوة دفع نووي، ولا حتى عندما سألناهم صراحة عنها في الأشهر الأخيرة خلال مناقشاتنا" ، حسب ما ذكره لو دريان لصحيفة "وست فرانس".
مَن المسؤول عن عدم تعامل تحالف "أوكوس" وروسيا والصين مع أوروبا بجدية؟
لماذا صُدِمت فرنسا من صفقة الغواصات الأمريكية لأستراليا؟
حتى في الوقت الذي يفسح فيه الغضب الفرنسي الطريق لا محالة للقبول بالأمر، سيكون في المستقبل صراع حول كيفية تعويض أستراليا فرنسا عن الصفقة الملغاة، ومن المحتمَل إعادة التفكير في دور فرنسا في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو التحالف العسكري الذي قال ماكرون ذات مرة إنه يعاني "الموت الدماغي"، وأضاف: "كان الشعور بالمعاملة غير العادلة هو الذي دفع الرئيس الفرنسي السابق شارل ديغول إلى سحب فرنسا من هيكل قيادة حلف شمال الأطلسي في الستينيات".
امتحان ماكرون
مع اقتراب الانتخابات العام المقبل، لدى ماكرون جمهور محلّيّ عليه تلبية احتياجاته. ونددت منافِسته الرئيسية، القومية مارين لوبان، بـ"إذلال فرنسا العلني" فيما يحاول الرئيس حشد الدعم الأوروبي. وصفت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين معاملة فرنسا بأنها "غير مقبولة"، وقد تتأخر المحادثات التجارية رفيعة المستوى مع الولايات المتحدة المقرر إجراؤها في وقت لاحق من هذا الشهر.
لمقدار ما يمكن لفرنسا أن تنتقده حد، والواقع أن لحلفائها في الاتحاد الأوروبي البالغ عددهم 26 الذين يرغبون في دعمها حدّاً. ومع ذلك، هناك رياح تغيير. رسم وزير الخارجية لودريان تمييزاً مهمّاً، إذ وصف كيف ترى فرنسا ميزان القوى في آسيا، وادّعى أن اتفاق "أوكوس" هو "جزء من استراتيجية المحيطَين الهندي والهادئ التي تعطي المواجهة الأولوية... ولا تهتمّ بمسائل السيادة". وقال إن فرنسا لا تقلّل من شأن المنافسة مع الصين، "لكننا نتجنب إعطاء المواجهة العسكرية الأولوية".