حين أطلقت شركة "أبل" متجر التطبيقات الخاص بها في عام 2008، حمل مؤسس الشركة ورئيسها التنفيذي آنذاك ستيف جوبز، رسالة إلى مطوري تطبيقات "أيفون"، إذ قال في مقابلة مع صحيفة نيويورك تايمز: "نحن لا نحاول أن نكون شركاء عمل".
قصد جوبز حينها طمأنة المطورين حتى لا يشعروا بالتهديد، بما أن تركيز "أبل" التجاري الأساسي هو على بيع أجهزة الهاتف النقال، لا أخذ عمولة بنسبة 30% على مبيعات التطبيقات.
إلا أن هذا التصريح يمكن تفسيره بطريقة مختلفة تماماً اليوم، إذ لم يعُد كثير من المطورين، ولا حتى المسؤولين الحكوميين، ينظرون إلى "أبل" كشريك يفاوض بنيّة حسنة، بل كسيّد إقطاعي يفرض ضرائب لا مفرّ منها.
في العاشر من سبتمبر سوّغت قاضة فيدرالية جزئياً، الانتقادات الموجهة إلى شركة "أبل"، من خلال الحكم الذي أصدرته، والذي سمحت بموجبه لمطورّي التطبيقات بتوجيه المستخدمين نحو أنظمة دفع عبر الإنترنت من أجل إتمام عمليات الشراء. ويأتي هذا القرار على خلفية النزاع بين "أبل" وشركة "إبيك غيمز" (Epic Games)، صاحبة لعبة "فورت نايت" (Fortnite) ذات الشعبية الكبيرة، حول إمكانية استخدام "إبيك" لخدمات الدفع الخاصة بها، وبالتالي تجنب الرسم الاعتيادي الذي تفرضه "أبل". فحين فعلت "إبيك" ذلك رغم معارضة "أبل"، أزالت شركة صناعة الهواتف لعبة "فورت نايت" من متجر التطبيقات الخاص بها، مما دفع "إبيك" إلى رفع دعوى قضائية ضدها.
متجر تطبيقات "أبل" يتلقى ضربة قوية في قضية "إيبك" لمكافحة الاحتكار
الحكم في قضية "أبل" يفرض عقبات أمام تعهد بايدن بالتعامل مع عمالقة التكنولوجيا
في الحكم الصادر عنها، وجدت القاضية إيفون غونزاليس روجرز، أن تخفيف سيطرة نظام الدفع من "أبل" سيسهم في تعزيز المنافسة. مع ذلك لم توافق على اتهام "إبيك" لـ"أبل" بالاحتكار. وقالت إن "النجاح ليس أمراً غير شرعي". وأمرت "إبيك" بدفع 6 ملايين دولار كعوائد ملكية فكرية لـ"أبل". وفيما تعتزم "إبيك" استئناف الحكم، أعلنت "أبل" انتصارها.
التصدُّع الأول
على الرغم من أن "أبل" تمكنت من تفادي السيناريو الأسوأ، فإن هذه الدعوى قد تشكّل التصدع الكبير الأول في أساسات قطاع تطبيقات الهواتف الذكية البالغ حجمه 142 مليار دولار، الذي كانت أنشأته "أبل" إلى جانب شركة " ألفابت"، الأم لشركة "غوغل"، حين أطلقتا متاجر تطبيقات متوازية قبل 13 عاماً.
كانت موجة تطبيقات الهواتف التي تلت ذلك أحدثت ثورة في طريقة تفاعل المستهلكين مع الأجهزة الإلكترونية، إلا أنها ركزت جزءاً كبيراً من النفوذ، سواء المالي أو غيره، في يد "أبل" و"غوغل" اللتين رسختا نفسيهما كحارستين لبوابة هذا القطاع.
وعلى الرغم من أن عديداً من مطوري التطبيقات استفادوا من هذا الاتفاق، فإن موجة من الاستياء بدأت تتصاعد مؤخراً، فقد قادت كلّ من "إبيك" و"سبوتفاي" (Spotify) و"شركة "ماتش غروب" (Match Group) المالكة لـ"تندر"، التهم ضد متجرَي التطبيقات، إذ اعتبرت أنهما يأخذان حصة مالية ضخمة فيما يروجان لخدمات منافسة خاصة بهما (كلّ من "أبل" و"غوغل" تقدّم خدمات موسيقى منافسة لـ"سبوتفاي". وكانت كلّ من "ماتش" و"سبوتفاي" أشادت بقرار "إبيك").
وفي حال بقي الحكم الصادر في قضية "إبيك" قائماً، فهو سيُطبَّق فقط على طريقة دفع المستخدمين لمطوري التطبيقات، بدل أن يمتدّ الأمر إلى سلوكيات أخرى تعتبر مانعة للمنافسة. مع ذلك، يدفع زخم هائل باتجاه إعادة هيكلة طريقة عمل متاجر التطبيقات.
قال ديفيد بوس، مدير العمليات في شركة "مابل ميديا" (Maple Media,)، وهي شركة قابضة تملك مجموعة من تطبيقات المستهلكين من (Stocks+) إلى (Mahjong)، إن "الأمر مهم جداً". إذ يمكن للمطورين أن يبدؤوا توجيه الأشخاص الذين ينفّذون عمليات شراء داخل التطبيقات نحو الإنترنت، بعيداً عن متجر تطبيقات "أبل"، حيث تضع برامج الدفع مثل "باي بال القابضة" (PayPal) و"سترايب" (Stripe) رسوماً تتراوح بين 2% و3% (لم تفرض القاضية على "أبل" السماح للمطورين بإدماج أنظمة الدفع الخاصة بهم ضمن التطبيقات نفسها).
سيظلّ بعض التكاليف العامة المتعلقة بالمهامّ التي تتولاها "أبل" حالياً من خلف الكواليس، من ضمنها إدارة المبالغ المسترَدّة وكشف عمليات الاحتيال. مع ذلك يرى بوس أنه في العالم الجديد، ستشكل الوفورات المتبقية "نسبة مئوية مهمة".
الالتفاف حول "أبل"
في هذا الصدد، يرى الخبير الإستراتيجي في القطاع ريتشارد كرون، أن المطورين يمكن أن يخفضوا ربع التكلفة من خلال الالتفاف حول "أبل". وخلال العام الماضي أجرت الشركة بعض التنازلات في ما خصّ الدفع للتطبيقات، بينها خفض الرسوم المفروضة على صغار المطورين، فيما أعلنت أنها سوف تسمح للخدمات الإعلامية القائمة على الاشتراكات مثل "نتفلكس" و"هولو" (Hulu) بتوجيه مستخدميها نحو الدفع عبر الانترنت، ابتداءً من عام 2022. ويمكن لـ"أبل" أن تقدم مزيداً من التنازلات من أجل إقناع المطورين بالتزام نظام الدفع التابع لها.
في غضون ذلك، من شأن تحسين الاقتصادات والمنافسة أن يساعد المطورين على تعزيز المبيعات، وقال بوس: "كلما زادت الأماكن التي يمكن للناس أن يدفعوا من خلالها، زاد عادةً عددُ الناس الذين يدفعون".
من جانبها، تعتبر "أبل" أن الرسوم التي تفرضها، وسيطرتها الصارمة على متجر "أبل"، ضرورية من أجل المحافظة على مستوى عالٍ من المعايير والخصوصية والأمن. إلا أن مطوري التطبيقات المستائين يتهمون "أبل" باستخدام قوتها في السوق، لإجبارهم على إعطائها حصة من إيراداتهم.
على هذا الصعيد، شكَت شركة "بروتون تكنولوجيز" (Proton Technologies) السويسرية المتخصصة في صناعة البريد الإلكتروني والبرامج المشفرة، من أن "أبل" دفعتها نحو إطلاق نظم شراء دخل التطبيق الخاص بها عام 2018، عن خصائص سبق لها أن فوترتها عبر الإنترنت. وقد وصف الرئيس التنفيذي لـ"بروتون" أندي يين، خطوة "أبل" بـ"الابتزاز المافيوي".
وقد وافقت "بروتون" على ذلك، إلا أنها رفعت أسعار الاشتراك بالبريد الإلكتروني على أجهزة "أبل" بنسبة 26%. وقالت مسؤولة السياسات في الشركة جورجيتا ميسيفيشيوت، إن "الأمر مضرّ جداً". وتابعت: "تحاول (أبل) إظهارنا بصورة المنافسين الطماعين الأقلّ نجاحاً، ولكن في مجال الخصوصية، لا بدّ أن تدفع مقابل الخدمة".
على الرغم من أن "أبل" غيّرت سياساتها في سبتمبر 2020 من أجل تمكين الشركات مثل "بروتون" من تفادي الدفع داخل التطبيقات، فإن "بروتون" تقول إن تغيير القواعد هذا لا يعالج قلقها.
لسنوات عدّة، كانت "أبل" مكتفية بتحقيق الأموال من بيع الأجهزة الإلكترونية، إلا أن الخدمات مثل متجر "أبل" بدأت تكتسب أهمية إضافية في الوقت الذي تبحث فيه الشركة عن طرق جديدة للنموّ تكون أكثر إدراراً للربح.
خسائر بسبب الحكم
في عام 2020 بلغت إيرادات "أبل" من عمولات بيع التطبيقات 21.7 مليار دولار، حسب شركة بحوث السوق "سنسور تاور" (SensorTower). ويقول المحللون إن "أبل" قد تخسر 1-4 مليارات دولار سنوياً، في حال بقي الحكم في قضية "إبيك قائماً"، مع العلم أنه يطبق في الولايات المتحدة فقط.
ويُتوقع أن يكون التغيير الأكبر في مجال الألعاب، فنحو 70% من مبيعات التطبيقات لصالح "أبل" مصدرها الألعاب الخاصة بالهواتف النقالة، إذ قالت القاضية روجرز إن "أبل" تدير "متجر ألعاب في الدرجة الأولى ومتجراً لكلّ التطبيقات الأخرى بدرجة ثانية". وأشارت إلى أن متجر "بلاي" من "غوغل" يعمل بالطريقة ذاتها، على الرغم من توافر عدد أقل من الأدلة التي تشير إلى ذلك.
اقرأ أيضاً: روسيا تستهدف "غوغل" و"أبل" في حملة إجراءات صارمة قبل الانتخابات
وكانت أسهم شركات إنتاج الألعاب للهواتف النقالة مثل "زينغا" (Zynga) و"أكتيفيجن بليزارد" (Activision Blizzard) ارتفعت عقب الحكم. وترى شركة البحوث حول الأسهم "بيريد آند كو" (Baird & Co) أن أرباح "زينغا" قد تحلّق بنسبة 115% في حال انخفضت رسوم "أبل" إلى النصف.
أمّا التأثير في "غوغل" التي يحظى متجر تطبيقاتها بعدد أكبر من المستخدمين، ولكنه يحقق إيرادات أقل، فلم يتضح بعد. فعلى عكس "أبل"، تسمح "غوغل" لمتاجر التطبيقات الأخرى بالعمل على الهواتف التي تشتغل بنظام "أندوريد"، كما أن "غوغل" أكثر ليونة على صعيد الرسوم. مع ذلك، تقاضي "إبيك" شركة "غوغل" أيضاً، إذ يتهم النقاد عملاق محركات البحث باللجوء كذلك إلى سياسة التخويف. فخلال جلسة استماع في الكونغرس حول متاجر التطبيقات في أبريل، قدم جاريد ساين، كبير مسؤولي شؤون الأعمال والشؤون القانونية في شركة "ماتش" (Match)، أحد كبار المعلنين في "غوغل"، شهادة قال فيها إن ممثلين عن "غوغل" اتصلوا بشركته في الليلة التي سبقت، من أجل استجوابه حول ما سيدلي به أمام الكونغرس. وقال: "يمكن أن يؤذونا جدّاً، ونحن جميعاً خائفون". إلا أن محامياً لـ"غوغل" أكد في جلسة الاستماع أن الشركة "لا تهدّد قَطّ" شركاءها.
لكن في نهاية المطاف، على الأرجح سوف تُضطرّ "غوغل" التي رفضت التعليق على الحكم، أن تتبع أي إجراء تتخذه "أبل" على صعيد الدفع.
هذه هي البداية فقط
بالنسبة إلى كبار منتقدي "أبل"، فإن وسائل الدفع ليست سوى البداية. وبعد إصدار الحكم، دعا أعضاء في الكونغرس من الحزبين إلى سنّ قوانين جديدة لمكافحة الاحتكار، إذ اقتُرح عدد من مشاريع القوانين التي تدعو إلى الحدّ من المعاملة المميزة التي تمنحها "أبل" و"غوغل" أحياناً لتطبيقاتهما، وتُلزِم "أبل" السماح لمتاجر التطبيقات الخارجية بالعمل على أجهزتها. مع ذلك، حتى هذه الإجراءات لن تقضي بالضرورة على سطوة الشركتين الرائدتين. فبعد الهزيمة التي تعرضت لها "غوغل" على أيدي الهيئات التنظيمية في أوروبا، اضطُرّت إلى إنشاء شاشة اختيارية على أجهزة أندرويد لتمكين المستخدمين من اختيار محرك البحث الخاص بها، أو أحد محركات البحث المنافسة الأصغر. مع ذلك، اختارت الأغلبية "غوغل".
يدرك المطورون الذين يتخيلون أنهم سيحققون مكاسب من إعادة هيكلة متجر التطبيقات، أن الأمر لن يتحقق بين ليلة وضحاها، كما أن الأمر لن يحصل بسهولة، إذ لا يزال على هذه الشركات أن تقنع المستهلكين بالتخلي عن وسائل الدفع التي توفرها "أبل" و"غوغل"، من خلال بضع نقرات بسيطة.
قال بوس: "عادة يفعل الناس ما هو أسهل، والناس ببساطة، اعتادوا منذ أكثر من عقد من الزمن، الدفع داخل التطبيق".