تُصنف السندات الفرنسية حالياً بأنها أكثر خطورة من السندات الإسبانية للمرة الأولى منذ 2007، وهو تحول رمزي يعكس حجم المشكلات التي تواجهها فرنسا في الأسواق المالية.
في ظل التحديات التي يواجهها التحالف الحكومي ذو الأقلية والذي شكله حديثاً رئيس الوزراء ميشيل بارنييه من أجل السيطرة على العجز بعد انتخابات غير حاسمة، يُبرز هذا التحول كيف أن المتداولين يربطون الفوضى المستمرة في باريس بتقلبات أسعار الديون الحكومية الفرنسية.
وبعد أيام قليلة من تأدية حكومته اليمين أمام الرئيس إيمانويل ماكرون، أصبحت فروق المخاطر التي يطلبها المستثمرون مقابل السندات الفرنسية أكثر وضوحاً، بالنظر إلى التصنيفات الائتمانية الأدنى التي حصلت عليها إسبانيا، التي كانت في السابق هدفاً للمضاربين خلال أزمة الديون السيادية في أوروبا.
تراجع الشهية لديون فرنسا
قال غاي ميلر، كبير استراتيجيي السوق في شركة "زيورخ للتأمين" (Zurich Insurance) :"كمستثمر، لست متأكداً مما سيحدث مع الحكومة الحالية أو ما سيأتي بعدها". تم تداول عائد السندات الفرنسية لأجل 10 سنوات عند 2.98% يوم الخميس، وهو أعلى قليلاً من نظيراتها الإسبانية. كما أن هذا المعدل أصبح أعلى من عائد السندات البرتغالية، وهو الأقرب منذ أكثر من عقد للعوائد المشابهة في إيطاليا واليونان.
يعكس هذا التحول تراجع شهية المستثمرين لأحد أكثر الأصول أماناً في أوروبا، وسط شهور من الاضطرابات السياسية، مما يزيد من احتمالية تعرض الاقتصاد الفرنسي لخطر تصنيفه بشكل دائم بجانب الدول الأوروبية المعروفة بضعف ماليتها العامة. خاضت البلاد أزمة سياسية منذ أن حاول ماكرون تعزيز الاستقرار السياسي بالدعوة إلى انتخابات مبكرة في يونيو. وانعكس هذا الرهان عليه سلباً، حيث أصيب المستثمرون بالذعر من احتمالية وصول اليمين المتطرف إلى السلطة، ثم أعادت الانتخابات جمعية وطنية منقسمة إلى ثلاثة كتل متنافسة بشدة غير قادرة على الحكم بشكل منفرد.
أمضى ماكرون الصيف متردداً حيال تعيين حكومة لن يتم إسقاطها سريعاً في تصويت بحجب الثقة. وأخيراً، تم تشكيل الحكومة يوم السبت وضمت توليفة من الوسطيين والمحافظين من حزب بارنييه، الذي حصل على أقل من 50 مقعداً من أصل 577 في الجمعية الوطنية.
خطر العجز بفرنسا
خلال فترة الجمود الحكومي المؤقت، تفاقمت الأوضاع المالية في فرنسا مع ضعف العائدات الضريبية، وتسارع الإنفاق المحلي أكثر من المتوقع. الحكومة الجديدة مطالبة بإعداد ميزانية في الأيام المقبلة، وسط عجز هذا العام الذي قد يتجاوز 6% من الناتج الاقتصادي.
في هذا السياق، اتسعت الفجوة في العوائد التي يطلبها المستثمرون للاحتفاظ بالديون الفرنسية مقارنة بالسندات الألمانية الأكثر أماناً إلى حوالي 82 نقطة أساس، بعدما كانت دون 50 نقطة أساس في يونيو عندما دعا ماكرون إلى الانتخابات.
الأحزاب المعارضة، من اليسار المتطرف إلى اليمين المتطرف، التي حسّنت حصتها من المقاعد في البرلمان، شنت حملات لعكس أجزاء كبيرة من أجندة ماكرون المؤيدة للأعمال التجارية، مثل خفض الضرائب على المستثمرين ورفع سن التقاعد.
حزب التجمع الوطني الذي تتزعمه مارين لوبان، والذي يلعب دوراً محورياً في أي تصويت بحجب الثقة عن حكومة بارنييه، يواصل الضغط باقتراح تشريع لإلغاء إصلاح نظام التقاعد. ورغم أنه من غير المرجح أن ينجح، فإنه يمثل تحدياً آخر في الأسابيع المقبلة.
كتب استراتيجيا أسعار الفائدة لدى "بنك باركليز" (Barclays) ماكس كيتسون وروهان خانا في مذكرة: "أي عناوين سلبية في السياسة الفرنسية في المستقبل القريب، مثل الميزانية أو إلغاء إصلاح التقاعد، قد تضيف زخماً إلى هذا الاتجاه". أشارا إلى أن مبررات الاحتفاظ باستثمار طويل الأجل في السندات الإسبانية مقارنة بالفرنسية لن تتراجع إلا في حال "تدهور الوضع الداخلي في إسبانيا بشكل كبير".
تراجعت فرنسا عن خططها طويلة الأجل لخفض العجز، الذي وصل إلى 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي في 2023.
تحذير فيليروي
كانت الحكومة السابقة قد تعهدت بخفض العجز إلى 5.1% هذا العام، وضمن الحد الأقصى للاتحاد الأوروبي البالغ 3% بحلول 2027، لكن مسؤولين مثل محافظ بنك فرنسا فرانسوا فيليروي دي جالو حذروا من أن الالتزام بهذه الخطط سيلحق أضراراً اقتصادية كبيرة.
قالت الحكومة الجديدة إنها ستقدم ميزانية عام 2025 في 9 أكتوبر، بعد أسبوع من الموعد الذي ينص عليه القانون الفرنسي. كما أجلت تقديم خطتها المالية طويلة الأجل إلى بروكسل حتى نهاية أكتوبر.
وزير المالية الجديد، أنطوان أرمان، قال يوم الأربعاء إن هناك إجراءات صارمة في الالتزامات المالية المقبلة، تركز بشكل أساسي على خفض الإنفاق. لكن الحكومة قالت أيضاً إنها تدرس فرض ضرائب مستهدفة على الأثرياء والشركات الكبرى، فيما يعد انحرافاً عن نهج ماكرون خلال السنوات السبع الماضية.
سيقدم بارنييه مزيداً من التفاصيل حول خططه عندما يعرض أجندته السياسية على البرلمان في 1 أكتوبر، والتي ستكون أول فرصة للمشرعين المعارضين للدعوة إلى تصويت بحجب الثقة.
اندفاع نحو السندات الإسبانية
يعكس التحول في نظرة السوق تجاه الديون الفرنسية أيضاً كيف اندفع المستثمرون إلى السندات الإسبانية نظراً لتحسن التوقعات الاقتصادية هناك، وانخفاض الاقتراض الذي ارتفع خلال أزمة الديون في العقد الماضي.
في بداية العام، كانت السندات الإسبانية لأجل 10 سنوات لا تزال تدفع أكثر من 40 نقطة أساس مقارنة بنظيراتها الفرنسية. يقول استراتيجيا "بنك باركليز" إن إسبانيا ستواصل التفوق على فرنسا، رغم الانخفاض الحاد الأخير في الفارق.
الأرقام القياسية في عدد السياح والصادرات القوية والنمو السكاني السريع تجعل إسبانيا تمتلك واحدة من أعلى معدلات النمو في أوروبا، على الرغم من الحكومة المشرذمة في البلاد.
قال ميلر من زيورخ للتأمين "في الوقت الحالي، العوامل الدافعة ما زالت في مصلحة إسبانيا، مع احتمال حصولها على ترقية فيما يتعلق بوضع الديون، وتصور المستثمرين للنمو، وحتى التطورات السياسية". أضاف: "كل هذه الأمور معاً تعني أن إسبانيا ما زالت في الصعود".