بدأ الاحتياطي الفيدرالي الأميركي التفكير في التراجع تدريجياً عن جهوده لإزالة تريليونات الدولارات من النقد الفائض من النظام المالي–وهي ما تبقى من دعم طارئ ضخته الإدارة في الاقتصاد إبان جائحة كورونا. وهذه الجهود، المعروفة باسم التشديد الكمي، جارية منذ عامين تقريباً، والمسؤولون عازمون على وقفها قبل أن تتسبب في ذلك النوع من الاضطرابات المالية التي شهدناها خلال آخر جولة من التشديد الكمي، من 2017 إلى 2019. ومع ذلك، فإن الجدول الزمني لإنهاء الجولة الحالية من هذا الإجراء ليس واضحاً، ويختلف المشاركون في السوق على المدة التي يمكن أن تستمر فيها دون حدوث اضطرابات مرة أخرى.
1- ما هو التشديد الكمي؟
الجواب السهل هو أنه عكس التيسير الكمي، الذي من خلاله يشتري البنك المركزي عادةً السندات، مما يساعد على خفض أسعار الفائدة الطويلة الأجل، ليكمل بذلك مهمة خفض تكاليف الاقتراض، والذي عادة ما يكون معياراً لليلة واحدة. يوجِد البنك المركزي الأموال بالأساس عن طريق الاستثمار في السندات الحكومية والاقتراض بفائدة بضمان معظم ودائعه، حيث يكون للمشتريات تأثير على زيادة المعروض من احتياطيات البنك في النظام المالي. ونظرياً، تدعم هذه الزيادة الإضافية في الاحتياطيات شهية البنوك لمواصلة تقديم الائتمان، مما يساعد الاقتصاد. وعندما يتحول بنك مركزي إلى التشديد الكمي، فإنه يبدأ في سحب تلك السيولة الإضافية من أسواق السندات.
ما يزال طريق التشديد الكمي طويلاً أمام الاحتياطي الفيدرالي
2- كيف يعمل ذلك؟
في حالة الاحتياطي الفيدرالي، يسمح البنك بوصول جزء كبير من السندات التي اشتراها إلى أجل الاستحقاق دون استبدالها. وسيكون لهذه العملية، بمرور الوقت، تأثير على إزالة السيولة من النظام المالي الذي ضخّمه التيسير الكمي. يحدث ذلك في سلسلة من العمليات. فعندما تصل السندات التي يحتفظ بها الاحتياطي الفيدرالي إلى تاريخ الاستحقاق، فإن وزارة الخزانة "تدفع" لمجلس الاحتياطي الفيدرالي عن طريق خصم المبلغ المطلوب من الرصيد النقدي الذي تحتفظ به مودعاً لدى البنك المركزي. ومن أجل تجديد أموالها النقدية -وهو أمر حيوي، لأن هذا هو ما تستخدمه وزارة الخزانة لسداد التزامات الحكومة- تحتاج الخزانة إلى بيع أوراق مالية (سندات) جديدة. ومع قيام المشترين من القطاع الخاص بشراء سندات الخزانة الجديدة، فإن هذه العملية تستنزف السيولة من النظام المالي، وهي عكس إتاحة الأموال عن طريق التيسير الكمي.
3-ما نطاق سياسة التشديد الكمي الحالية للاحتياطي الفيدرالي؟
يقلص الاحتياطي الفيدرالي حيازاته من الأصول -معظمها سندات خزانة ورهون عقارية مدعومة من الوكالات الحكومية- منذ يونيو 2022. وتسمح الوتيرة الحالية بحلول آجال حد أقصى من سندات الخزانة بقيمة 60 مليار دولار و35 ملياراً من الأوراق المالية المدعومة بالرهن العقاري كل شهر دون استبدال. وتمثل هذه الوتيرة البالغة 95 مليار دولار نحو ضعف معدل الذروة البالغ 50 مليار دولار في المرة الأخيرة التي قلص فيها الاحتياطي الفيدرالي ميزانيته العمومية، من 2017 إلى 2019. وقد أدى عدم تجديد محفظة السندات إلى انخفاض الحجم الإجمالي للميزانية العمومية للاحتياطي الفيدرالي بأكثر من تريليون دولار كما في نوفمبر، من ذروة قياسية قاربت 9 تريليونات دولار في أوائل عام 2022. وزادت الميزانية العمومية بأكثر من الضعف منذ اندلاع جائحة كورونا، إذ اشترى الاحتياطي الفيدرالي سندات بتريليونات الدولارات.
لماذا يصعب التخلص من إدمان التيسير الكمي؟
4- هل يقضي التشديد الكمي على احتياطيات البنوك التي تراكمت خلال التيسير الكمي؟
في الواقع، لم يحدث ذلك في الآونة الأخيرة. وذلك لأن الأموال التي ضخها الاحتياطي الفيدرالي في النظام من خلال التيسير الكمي تحركت بمرور الوقت، وتدفق الكثير منها إلى ما يعرف في الاحتياطي الفيدرالي بتسهيلات إعادة الشراء العكسي، أو (RRP). ونظراً لأن الصناديق النقدية هي غالباً التي تستخدم هذه التسهيلات، فهي ليست مرتبطة ارتباطاً مباشراً بتدفق الائتمان في الاقتصاد مثل احتياطيات البنوك التجارية. وحتى الآن، كانت فترة التشديد الكمي السبب الرئيسي في تقلص إعادة الشراء العكسي، وليس الاحتياطيات. وإذا استمر التشديد الكمي، فسوف يتغير ذلك في مرحلة ما. وبمجرد استنزاف آلية إعادة الشراء العكسي، يجب أن تنخفض الاحتياطيات.
5- هل كان التشديد الكمي دون عواقب حتى الآن؟
ليس تماماً. وبغض النظر عن المكان الذي تستنزف منه السيولة -الاحتياطيات أو إعادة الشراء العكسي- فالعملية لا تزال تجبر وزارة الخزانة على اقتراض المزيد من الجمهور. وساهم ذلك في زيادة تكاليف الاقتراض. في الأساس، مثلما أدى التيسير الكمي إلى انخفاض أسعار الفائدة، فمن المتوقع أن يدفعها برنامج التشديد الكمي إلى الارتفاع. وفي حين تراجعت عوائد السندات منذ أكتوبر بفضل التفاؤل بأن الاحتياطي الفيدرالي سوف يخفف سياسته النقدية هذا العام، فإن القلق بشأن حجم الاقتراض الفيدرالي، الناجم جزئياً عن التشديد الكمي، أدى إلى ارتفاع أسعار الفائدة في الخريف الماضي. وترددت أصداء هذه الزيادة في عوائد سندات الخزانة في جميع أنحاء النظام المالي، حيث اقترب معدل الفائدة على القروض العقارية ذات السعر الثابت لأجل 30 عاماً من 8%، في المتوسط، في نوفمبر. وكان هذا هو أعلى معدل منذ 2000، مما رفع كلفة الإسكان. وتظل معدلات الفائدة على القروض السكنية أعلى بكثير من 6%، مقارنة بمتوسط يبلغ نحو 4% خلال العقد المنتهي في 2019. ومع قيام الشركات بإعادة تمويل قروضها المستحقة، فإن تكاليف الفائدة المرتفعة سوف تقوض إيراداتها وقد تقلل شهيتها للاستثمار والتوظيف.
استطلاع "جيه بي مورغان": السيولة مصدر قلق المستثمرين في 2024
6- ما السيناريو الأسوأ؟
تعطي تجربة التشديد الكمي ملمحاً لذلك. فقد جاءت أول علامة على وجود مشكلة في ديسمبر 2018، خلال وقت من العام يميل فيه الطلب على النقد للارتفاع موسمياً، عندما ساهم إعلان رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بأن سياسة التشديد الكمي ستستمر في وضع "الطيار الآلي" في تراجع سوق الأسهم 7% في أسبوع. وفي الشهر التالي، تخلى الاحتياطي الفيدرالي عن خططه الخاصة برفع أسعار الفائدة، وفي مارس 2019، أعلن عن الإلغاء التدريجي للتشديد الكمي. وعلى الرغم من ذلك، وبحلول سبتمبر 2019، كان هناك ارتفاع كبير في تكاليف الاقتراض في جزء أساسي من الروابط المالية للاقتصاد، سوق إعادة الشراء أو "الريبو". وهذا يشير ببساطة إلى عدم وجود احتياطيات مصرفية كافية في النظام. وبعبارة أخرى، سحب الاحتياطي الفيدرالي الكثير من السيولة. وضخ صناع السياسات النقدية الأموال، ثم شرعوا في تنفيذ ما أطلق عليه البعض برنامج "التيسير الكمي المخفف"، حيث اشتروا سندات الخزانة.
7- كيف يفكر صناع السياسات النقدية في الأمور الآن؟
سلط باول الضوء العام الماضي على تصميم الاحتياطي الفيدرالي على تجنب نوع الاضطرابات التي أحدثها التشديد الكمي المرة الماضية. والتزم صناع السياسات النقدية بالتوصل إلى خطة للتخلص التدريجي من الحيازة، ثم التوقف، مع الحفاظ على مستوى "وافر" من الاحتياطيات في النظام المالي. وفي 31 يناير، قال باول إن المسؤولين يخططون لبدء مناقشات متعمقة بشأن قضايا الميزانية العمومية في الاجتماع التالي للجنة السوق المفتوحة الفيدرالية، والذي ينتهي في 20 مارس، مما يشير إلى إمكان ظهور مخطط للتخلص التدريجي من التشديد الكمي بعد ذلك. وتتراوح الاحتمالات بين الإعلان الصريح عن تاريخ بدء تقليص حيازة السندات إلى مناقشة غير محددة للمعايير العامة التي سيستخدمها الاحتياطي الفيدرالي لتحديد متى سيتم إبطاء وتيرة التشديد الكمي.
الاحتياطي الفيدرالي يوجه لكمة لأسعار السندات والأسهم
8 -إلى متى سيستمر التشديد الكمي؟
سنعرف المزيد بعد اجتماع الاحتياطي الفيدرالي في مارس. وتتباين توقعات المشاركين في السوق اختلافاً كبيراً، وقد يعتمد الكثير على الظروف في الأسواق المالية في الأسابيع أو الأشهر المقبلة. وقال استراتيجيو "بنك أوف أميركا" في فبراير إنهم يتوقعون الآن الإعلان في مايو عن إبطاء وتيرة التشديد الكمي. وتوقع البنك انخفاضاً في وتيرة التخلص من محفظة سندات الخزانة إلى النصف، إلى 30 مليار دولار شهرياً، على أن تستمر هذه الوتيرة حتى نهاية 2024. غير أن ستيفن ستانلي، كبير الاقتصاديين الأميركيين في "سانتاندر يو إس كابيتال ماركتس" (Santander US Capital Markets)، خرج بتوقعات مغايرة ترجح تباطؤ التشديد الكمي في بداية العام المقبل، مع استمرار البرنامج طوال 2025. وسلط الضوء على تصريحات أدلى بها رئيس الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك جون وليامز في يناير والتي قال فيها "إننا لسنا قريبين على ما يبدو" من النقطة التي تكون فيها احتياطيات البنوك عند مستوى يدعو إلى إبطاء التشديد الكمي ثم إيقافه.