ينبغي على كُتَّاب روايات الجريمة، ومنتجي هوليود معرفة أنَّ الحسابات المصرفية السويسرية، لم تعد سرية كما كان الأمر سابقاً، فقد تكون سويسرا نجحت، بفضل سمعتها في التكتم عن الأموال في جذب الدكتاتوريين والمتهربين من الضرائب، إلى جانب القاتل في قصة فيلم "جيسون بورن" (Jason Bourne).
وأوجد الإبلاغ عن الفساد، واتخاذ إجراءات مشددة بعد الأزمة المالية في 2008 عالماً أقل تساهلاً مع الملاذات الضريبية في الخارج، الأمر الذي مكَّن الولايات المتحدة ودولاً أخرى من اختراق سرية المصارف السويسرية التي دفعت الغرامات، ونقضت عهودها تجاه عملائها، وطلبت منهم دفع ضرائبهم، أو إغلاق حساباتهم.
لم يتضح ما إذا كانت المصارف السويسرية قادرة على التمسك بعملائها دون ضمان إخفاء هويتهم، وإلى أيِِّ مدى سيستمر هذا القطاع في التراجع. وهناك أيضاً تساؤلات حول ما إذا كان تصويب الوضع، سيؤدي إلى الحدِّ من التهرُّب الضريبي، أو دفعه إلى مكان آخر.
الوضع الحالي للمصارف السويسرية وحسابات العملاء السرية
تلقَّت المصارف السويسرية مليارات الدولارات بسبب استفادة عملائها من برامج العفو الضريبي الحكومية في أوروبا والأمريكيتين، لكن من المحتمل أن يؤدي إنهاء السرية إلى جانب الضغوط الأخرى، مثل أسعار الفائدة السلبية إلى اختفاء ثلث المصارف السويسرية.
وسرب أحد المبلغين عن قضايا فساد في أوائل عام 2015 تفاصيل حسابات الآلاف من عملاء فرع مصرف "إتش إس بي سي"في سويسرا، مما أدى إلى مطالبة السلطات الضريبية بتكثيف التحقيقات، كما أبرم كبار مسؤولي إدارة الثروات في البلاد خلال السنوات القليلة الماضية صفقات مع الحكومة الأمريكية، واعترفوا بأنهم ساعدوا الأمريكيين في التلاعب بضرائبهم.
ووافق مصرف "يو بي إس" في عام 2009 على تسليم تفاصيل حسابات 4700 عميل، بعد أن كشف أحد المصرفيين الذي قبض عليه متلبساً عن استخدام حسابات سرية، وشركات وهمية، وأساليب أخرى لمساعدة الأثرياء على تجنُّب الكشف عن تهربهم الضريبي.
وأقرَّ مصرف "كريدي سويس"في محكمة أمريكية في عام 2014، بأنه مدان، ودفع مبلغ 2.6 مليار دولار، كما لجأ أكثر من 80 مصرفاً سويسرياً آخر إلى التسوية لتجنب المحاكمة، أملاً في تجنُّب مصير مصرف "فيغيلين" (Wegelin)، الأقدم في البلاد، الذي أُجبر على الإغلاق في عام 2013 بعد إقراره بالاتهامات الموجهة إليه.
هناك عدد من التحقيقات الأمريكية التي لم تصل إلى نتيجة بعد، وتواصل السلطات في فرنسا وبلجيكا وألمانيا والأرجنتين التحقيق، في حين وُجهت الاتهامات إلى مصرفيين ودافعي ضرائب. وتجنبت سويسرا إدراجها على القائمة السوداء لـ "منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية" (OECD) في عام 2009، بالموافقة على اعتماد المعايير الدولية لتبادل المعلومات بشأن أصحاب الحسابات الأجنبية، التي مهَّدت الطريق للنظام العالمي التلقائي لنقل البيانات.
خلفية الموضوع
لم يبتكر السويسريون السرية المصرفية، فقد استخدام المصرفيون الإيطاليون سرية مشابهة لتلك المستخدمة في سويسرا خلال القرن السادس عشر، إلا أنَّ سويسرا تميَّزت في هذا المجال بفضل قانون عام 1934، الذي يجرِّم الكشف عن هوية العملاء، فتعهَّد المصرفيون بالسرية للعملاء تماماً، كما يتعهد بها الأطباء أو المحامون أو الكهنة، وعززوا تاريخ البلاد في الحياد في النزاعات الأوروبية، كما ادعوا أن هذا القانون ساعد في منع النازيين من الكشف عن ثروات اليهود (وهو ما ثبت زيفه لاحقاً).
وأشار المصرفيون أيضاً إلى النهج المتساهل الذي تتبعه الدولة في التعامل مع التهرُّب من الضرائب، الذي لا يعدُّ جريمة جنائية بالنسبة لدافعي الضرائب السويسريين. وبذلك، تنامت الودائع القادمة من فرنسا وألمانيا وإيطاليا، خاصة خلال فترات ارتفاع الضرائب، بالرغم من أن المصارف السويسرية فرضت رسوماً مرتفعة عليها.
وقبل تسوية مصرف "يو بي إس" (UBS)، تمَّ الكشف عن معلومات الحسابات من حين لآخر للحكومات التي تتعقب الإرهابيين والجريمة المنظمة فقط. وحافظت سويسرا خلال التحقيقات على ثبات حصتها من الودائع الخارجية عند حوالي ربع الإجمالي العالمي، لكن من المتوقَّع أن تنخفض هذه الحصة مع استفادة هونغ كونغ وسنغافورة من تنامي الثروات في آسيا.
الجدل الدائر حول سرية عملاء المصارف وانتهاك القوانين
أفادت الولايات المتحدة وغيرها من الدول أنَّ المصارف السويسرية قامت بتسويق خدمات التهرب الضريبي بقوة، وبحسب المُشرِّعين، يجب أن تقدِّم تلك المصارف في تسوياتها عدداً أكبر من أسماء العملاء الذين انتهكوا القانون، لأنَّ المصرفيين السويسريين ملزمون بموجب القانون بعدم الوشاية بعملائهم، ويريدون حماية القطاع الذي يعملون فيه، مؤكدين أن الإيداعات من الخارج، يجذبها استقرار البلاد والخبرة في الاستثمار، وهي مقوِّمات ستستمر في جذب الأسر الثَّريَّة.
وبما أنها الملاذ الضريبي الشهير كما تصوِّرها الروايات والأفلام، ترى المصارف السويسرية أنها استُخدمت كبشَ فداء مناسب لمشكلة عالمية، فالملاذات الضريبية الشهيرة الأخرى، تشمل دول التاج البريطاني، مثل: جزر القناة وميامي، وهي ملاذ لأموال أمريكا اللاتينية. وبما أن الولايات المتحدة ترفض تبادل بيانات الحسابات تلقائياً، فإنَّ المصارف الأمريكية الآن تجذب نوع الأعمال الخارجية نفسها التي أجبرت الحكومة الأمريكية سويسرا على التخلي عنها.