انهيار العملة التركية، هائل ومخيف، وهو يجبر فريق الإدارة الاقتصادية الجديد في الدولة على الشروع في تحولٍ شاملٍ في السياسة النقدية. فمن بين العوامل التي جعلت الهبوط الحاد للعملة أمراً بديهياً، السياسة النقدية الفضفاضة، وسنواتٌ من الوصفات المعيبة للتضخم المرتفع، والتي عملت على مراكمة المشكلات المتفاقمة إلى أن وصل الوضع إلى ما هو عليه اليوم. غير أن الحل الشامل، سيستغرق وقتاً.
بعد أيام من توليه منصب وزير الاقتصاد والخزانة في تركيا، أطلق محمد شيمشك بعض الإشارات الصحيحة. تعهد بأن يكون عقلانياً وتقليدياً. ورغم أن هذه تبدو خطوة بديهية، فإنها مهمة. لا تحتاج الدولة إلى أن تخالف الاتجاه العالمي، أو أن يحمل حديثها حول التمويل العالمي ملاحظات ومحاذير. على الأرجح، ستتخلى البلاد عن النهج الخاص الذي أعطى الأولوية لخفض أسعار الفائدة في وجه الزيادات الهائلة في الأسعار، تماماً مثلما تم التخلي عن محافظ البنك المركزي الذي دافع عن ذاك النهج. ونظرياً، قد يقطع مثل هذا التجديد شوطاً في تعزيز وضع عملة البلاد المتداعية.
هل يسلم الفريق المالي الجديد من الإقالة؟
حبذا لو كان الأمر بسيطاً. غازل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، صاحب القوة المطلقة في تركيا، السياسات النقدية التقليدية مباشرة قبل أن يعكس المسار ويقيل كبار المسؤولين عندما أصبحت التكلفة ضخمة جداً. لذا، سيظل الفريق المالي بحاجة إلى ما يحميه. أيضاً قد لا تنتهي التقلبات الحادة التي تشهدها الليرة، وأي سلسلة صعود يُرجح أن تكون قصيرة الأجل.
استقبلت الليرة وصول شيمشك إلى وزارة المالية بانهيارات حافلة بمستويات متدنية قياسية. ويوم الأربعاء، أخذ الهبوط العملة التركية إلى مستوى منخفض جديد مقابل الدولار، وفي وقت ما أثناء الجلسة، كان الانخفاض هو الأكبر منذ أكثر من عام. وفي ظل انخفاض الليرة 24% خلال الأرباع الأربعة الماضية، لم تكن هناك عملة أسوأ أداءً من الليرة التركية في كل الأسواق الناشئة، سوى البيزو الأرجنتيني.
لكن، هذه لا يجب أن تكون نهاية العالم كما يقال. فأساساً، السماح لليرة بالهبوط، يمكن تفسيره كدليل على الوضع الجديد الذي تعهد به شيمشك. توقفت البنوك عن دعم العملة بطلب من الحكومة، وبينما كان الهبوط حاداً، فإنه مزّق أيضاً ضمادة تخفي الجرح ولا تعالجه. وبعد الآن، لن تحصل الأسواق على حماية من خيارات السياسة النقدية السيئة التي اتُخذت في السنوات القليلة الماضية، والتي تجسدت بشكل رئيسي في خفض الفائدة عندما كان ارتفاع الأسعار يقضي بعكس ذلك. إذاً، يستحضر شيمشك تحولاً هائلاً.
أحداث مشهودة من قبل.. فما المختلف هذه المرة؟
لكننا كنا قد بلغنا تلك المرحلة من قبل. فرغم كل الانتقاد الملقى على شهاب قاوجي أوغلو، المعيّن رئيساً للبنك المركزي في أوائل 2021، فقد فعل ما كان يُفترض عليه فعله؛ وعكس النهج الذي لاقى استحساناً لسلفه، ناجي إقبال، في معالجة التضخم. فقد دفع إقبال بزيادات حقيقية في الفائدة، والتي كانت فعالة لدرجة أن أردوغان ظن أنه ذهب لأبعد مما ينبغي، ما كلف المصرفيّ وظيفته بعد أشهر قليلة فقط من توليها.
حتى إقبال نفسه، اختير ليكون النقيض لرجل سابق فشل في كسب المستثمرين. يتلاعب أردوغان بالسياسة حتى يحصل على ما يريد في الأجل القصير، سواء كان ذلك استقراراً في الليرة أو تكاليف اقتراض أقل، ثم يحيد عن هذا الطريق ويقيل الأشخاص ويعطي المنصب لشخص يسير في اتجاه مختلف. وبعد فوزه أخيراً في انتخابات الرئاسة، لماذا سيتصرف أردوغان بطريقة مختلفة هذه المرة؟
في قرارة نفسه، أردوغان مقتنع على الأغلب برأيه القائل إن أسعار الفائدة الأعلى تغذي التضخم بدلاً من كبحه. لكنه أظهر استعداداً سابقاً لتخفيف حدة هذا الخطاب عندما كانت المصالح المباشرة تتطلب ذلك. لكن ورغم كل شيء، ستعود قناعاته لتطفو على السطح، عاجلاً أم آجلاً.
القصر الرئاسي هو الأهم
وبالتالي، إذا كانت هناك زيادات كبيرة قادمة في أسعار الفائدة، فيستحسن بالمسؤولين أن يتحركوا الآن، ولا يمكننا استبعاد اتخاذ خطوة قبل اجتماع قرار الفائدة المزمع في 22 يونيو. فهل سيفوح من هذه الخطوة رائحة فزع؟ بالتأكيد، وربما عليهم أن يشعروا بالفزع.
أياً كان ما يفعله كاوجي أوغلو أو خليفته، فسيكون التواصل هو الأهم. وأنا هنا لا أتحدث عن الإرشادات التوجيهية الذكية أو عقد المؤتمرات الصحفية، وإنما ما سيكون ضرورياً هو اكتساب القصر الرئاسي ليكون في الصف ذاته. سيقرأ القاصي والداني البيان الصحفي، لكن الأهم هو، كيف ستنظر الرئاسة إلى تحركات البنك المركزي.