باشر مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي رفع أسعار الفائدة في مارس 2022 بهدف إبطاء التضخم، ومنذ ذلك الحين، يطرح الاقتصاديون وصانعو السياسات والمستثمرون تقديراتهم- ويعيدون مراجعتها مع تطور البيانات- حول فرص البنك المركزي في تحقيق ما يعرف بـ"الهبوط السلس"، عبر إبطاء الاقتصاد بالقدر الذي يتيح كبح جماح الأسعار دون التسبب في ارتفاعٍ حادّ في البطالة.
وبعد مرور عام، أخذ التضخم في التقهقر، لكن الجدل لا يزال محتدماً حول ما إذا كان من المرجّح أن يحقق الاحتياطي الفيدرالي الهبوط بشكل آمن، أم يتجاوز المستهدف أم يعجز عن الوصول إليه. بعد ذلك، أجّجت أكبر أزمة مصرفية منذ 2008 اضطراباً جديداً. فبينما تركزت انهيارات البنوك في الولايات المتحدة فقط إلى حد كبير، وجدت البنوك المركزية الأخرى أنفسها في مواجهة خيارات صعبة، إما مواصلة رفع أسعار الفائدة، أو إيقافها مؤقتاً، أو خفضها.
1. ما مخاطر الإفراط في رفع أسعار الفائدة؟
الركود هو ما يتوقعه العديد من الاقتصاديين، لأن أجرأ حملة يقودها الاحتياطي الفيدرالي لتشديد ظروف الائتمان منذ ثمانينات القرن الماضي تكبّد الاقتصاد الأميركي ضرراً متزايداً. فإذا كان المطلوب لكبح التضخم اتخاذ إجراء قاسٍ للغاية- أو إذا ارتكب "الاحتياطي الفيدرالي" خطأً– فستتصدع سوق العمل- التي كانت قوية باستمرار- بنهاية المطاف، مما سيرفع معدلات البطالة بشكل كبير، ليفقد ملايين العمال وظائفهم. هذا بالتأكيد ليس ما يسعى إليه رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول- ولا جو بايدن الذي يتطلع إلى إعادة انتخابه رئيساً في 2024.
2. ما مخاطر التهاون في التشديد النقدي؟
ذلك من شأنه أن يدفع بالولايات المتحدة إلى براثن معدلات تضخم مرتفعة بشكل غير مقبول. يقول العديد من الاقتصاديين إن هذا ما حدث في سبعينات القرن الماضي، عندما اعتقدوا أن الاحتياطي الفيدرالي فشل في الحفاظ على أسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة مناسبة لفترة كافية. يكمن جزء من المشكلة التي تواجه الاحتياطي الفيدرالي والبنوك المركزية الأخرى الآن في عدم اليقين بشأن المدة التي ستستغرقها أسعار الفائدة المطبقة بالفعل حتى تؤدي وظيفتها بالكامل لكبح (نمو الاقتصاد). وهذا يُصعِّب عليهم تقدير الوقت المناسب للعودة للتيسير النقدي من جديد. وبحلول أبريل، وصل مقياس التضخم الأكثر متابعةً من قبل الاحتياطي الفيدرالي إلى 4.4%- وهو أقل بكثير مما سجله في يونيو الماضي عند 7%- ولكنه لا يزال أكثر من ضعف هدف التضخم الرسمي الذي وضعه البنك المركزي البالغ 2%. شدّد باول على أن الاحتياطي الفيدرالي لن يُنهي معركته ضد التضخم حتى يتأكد من عودة الأسعار إلى المستوى المستهدف.
3. أليس هناك مسار وسطي؟
في الواقع - نعم هناك العديد من المسارات. الحل الذي نال القدر الأكبر من المداولات هو "الهبوط السلس"- وهو ما نجح الاحتياطي الفيدرالي في إنجازه مرة واحدة في 1994-1995. كان ذلك في عهد رئيس البنك آنذاك آلان غرينسبان، حينما ضاعف البنك المركزي أسعار الفائدة إلى 6% ونجح في إبطاء النمو الاقتصادي دون الإضرار به تماماً. ثم هناك ما يسميه بعض الاقتصاديين "ركود النمو"، وتشير هذه الفرضية إلى فترة مطوّلة يتباطأ فيها النمو، ولكن دون انكماش الاقتصاد فعلياً. وفي أوائل 2023، كان هناك حديث عن "عدم الهبوط"، حيث بدأ الاقتصاد العام بتطورات مُدوّية، فقد ارتفع التوظيف، وزادت مبيعات التجزئة وأصبحت شركات الإنشاءات أكثر تفاؤلاً حتى مع تراجع التضخم. في ظل هذا السيناريو، يتسارع النمو مجدداً بعد تراجع سرعته العام الماضي. في الواقع، لم ينكمش الاقتصاد أبداً، ولكن بحلول منتصف العام، تعقدت الصورة بسبب الانهيارات التي شهدها النظام المصرفي الأميركي.
4. كيف غيّرت الأزمة المصرفية المشهد؟
جعلت الأزمة المصرفية الهبوط مخادعاً. فقد كانت البنوك تشدّد بالفعل معايير الإقراض بشكل تدريجي قبل انهيار ثلاث مؤسسات مصرفية إقليمية في وقت سابق من هذا العام. وإذا دفعت التوترات المالية البنوك إلى التراجع بقوة أكبر، فإن أزمة الائتمان التي تلت ذلك قد تجر الاقتصاد إلى الركود.
5. لماذا لم ينخفض التضخم أسرع؟
يرجع ذلك جزئياً إلى ضيق سوق العمل، حيث تحوم البطالة حول أدنى مستوى لها منذ عدة عقود. يتعين على أرباب الأعمال توفير أجور لتوظيف المزيد من العمال أو الاحتفاظ بالعاملين لديهم، ثم يلجؤون لرفع الأسعار لتجنّب تضرر أرباحهم من هذه التكاليف. تمنح هذه الأجور المرتفعة الأسر السيولة الكافية- على الأقل في الوقت الحالي- لمواكبة الأسعار المرتفعة.
6. ما موقف البنوك المركزية الأخرى؟
يتراجع معدل التضخم في معظم أنحاء العالم،ولكن بوتيرة متباينة، مما يترك صانعي السياسات أمام مجموعة متباينة من التحديات.
رفع البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة المستهدف إلى 3.75% في مايو الماضي، من الصفر في يونيو الماضي،- وللمقارنة، زاد الاحتياطي الفيدرالي الفائدة من الصفر في مارس 2022 إلى 5.25%-.
انخفض التضخم في منطقة اليورو من ذروة بلغت 10.6% في أكتوبر. أما في أبريل، فقد تعهدت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد بمواصلة رفع أسعار الفائدة لخفض التضخم إلى هدف البنك المركزي البالغ 2%.
وفي المملكة المتحدة، بلغ معدل التضخم 8.7% في أبريل، مما يؤجل أي آفاق لوقف زيادات الفائدة التي يجريها بنك إنجلترا قريباً.
أما في جميع أنحاء أميركا اللاتينية، بدأ التضخم في الانحسار، لكن مسؤولي بنوك مركزية قالوا إنهم يتحركون بحذر بعد أن رفعوا أسعار الفائدة إلى خانة العشرات. تسببت هذه الزيادات في صدامات مع القادة السياسيين، وأبرزهم الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي انتقد قرار البنك المركزي بعدم خفض سعر الفائدة الرئيسي البالغ 13.75% الذي وضعه في أغسطس 2022، رغم انخفاض التضخم بشكل حادٍّ في أوائل 2023.