عمل البنوك لا يخلو أبداً من الأزمات وعدم تحديد المخاطر مبكراً يفاقم الأضرار

استقرار القطاع المصرفي وهم كبير

عملاء مصطافون أمام باب "سيليكون فالي بنك" - المصدر: بلومبرغ
عملاء مصطافون أمام باب "سيليكون فالي بنك" - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

خلال الأسبوع الماضي، صرح جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك "جيه بي مورغان تشيس"، بعد استحواذه على مصرف "فيرست ريبابليك" المتعثر، بقوله: "لا توجد توقُّعات دقيقة بالكامل، لكن برغم ذلك؛ أعتقد أنَّ النظام المصرفي مستقر للغاية". والسؤال الأهم هنا هو: ما الذي لم يصرّح به رئيس أكبر بنك أميركي في حديثه؟

الإصرار على تأكيد أنَّ كل الأمور تحت السيطرة ينتشر على نطاق واسع بين قادة القطاع ومسؤولي الجهات التنظيمية وصانعي السياسات على حد سواء. ويمكن فهم أسباب هذا الإصرار إلى حد كبير، حيث لا يرغب أي شخص في نشر موجة من الذعر، لكن هذا هو لب المشكلة أيضاً.

فالأعمال المصرفية تتسم بالأساس بأنَّها عمل غير مستقر. وقد لا يكون لدى المودعين سبب وجيه للاعتقاد بأنَّ البنك الذي يتعاملون معه في خطر على وجه التحديد، ولكن إذا سحبوا أموالهم بسرعة منه؛ فستتحول هذه المخاوف إلى حقيقة.

تشديد اللوائح التنظيمية

جعل البنوك أكثر أماناً من خلال تشديد اللوائح التنظيمية - وهو أمر مرغوب فيه بالطبع- لا يحل دائماً هذه المعضلة، إذ يحتاج المودعون أيضاً إلى الشعور بأنَّ أموالهم آمنة. لكنَّ جعل البنوك أكثر أماناً ودفع الناس لتصديق ذلك في الوقت نفسه معادلة صعبة قليلاً ما تتحقق.

من المسؤول عن الأزمة المصرفية الأخيرة في أميركا؟

بالتالي؛ يتكرر ظهور نمط معين في الأزمات المالية، حيث تتردد الجهات التنظيمية في اتخاذ خطوات استباقية للتعامل مع الضغوط قبل أن تتحول إلى مخاطر حقيقية، لأنَّ تحديد مشكلة والتصرف مبكراً لمعالجتها قد يتسببان في إثارة موجة الذعر التي يرغبون في منعها بشدة. لذلك؛ يجري التغافل عمداً عن علامات التحذير، وتركها دون مواجهة، فالتقاعس سلوك مؤسسي أصيل.

أما الأكثر لفتاً للنظر؛ فيتمثل في أنَّ البنوك نجت من التعرض للمساءلة العلنية المرتبطة بالامتثال لمبادئ المحاسبة مثل إعلان القيمة العادلة لأصولها للسوق، ويرجع ذلك جزئياً إلى أنَّ مثل هذه الإعلانات قد تثير موجة من الذعر بين الناس.

نقاط ضعف القطاع المصرفي

بعد الانهيارات المصرفية الأخيرة، ظهر نمط جديد، إذ حلت الجهات التنظيمية مجلسي إدارة مصرفي "سيليكون فالي بنك" و"فيرست ريبابليك" عن طريق تعديل المعايير التنظيمية الخاصة بضمان موثوقية وسلامة القطاع المصرفي، بما في ذلك تعديل ثلاثة قواعد طُبّقت في النظام بعد الأزمة المالية 2008.

كان لابد من إدخال "سيليكون فالي بنك" رسمياً في شريحة أعلى - وهو مصرف متوسط الحجم كان يعتبر حتى الآن غير خاضع للوائح التنظيمية المشددة- بحيث يصبح في مستوى نظامي يجبره على توسيع نطاق تأمين الودائع ليشمل جميع ودائعه.

أوضح ذلك عدة أشياء، أولاً: وجود نقاط ضعف على نطاق أكبر بكثير مما كان معلوماً سابقاً. ثانياً: ترَك ذلك لمديري البنوك سلطة تطبيق القيود المفروضة على تأمين الودائع الضرورية لضمان انضباط السوق.

ثالثاً وأخيراً: في حالة بنك "فيرست ريبابليك"؛ تجنبت الجهات التنظيمية الانهيار التام عن طريق السماح لـ" جيه بي مورغان" بالاستحواذ عليه، وهو استحواذ جرى إقراره رسمياً لعلاج انهيار البنك الصغير من خلال ضمه لبنك آخر "أكبر من أن يفشل".

ما أكبر درس مستفاد من الأزمة المصرفية الأميركية الأخيرة؟

شكّل "سيليكون فالي بنك" و"فيرست ريبابليك" حالتين خاصتين، ولكن ليس على نحو إيجابي، فقد انهار كلاهما بسبب استنفاد الودائع القابلة للسحب بشكل مفاجئ إلى جانب الخسائر غير المحققة على الأصول طويلة الأجل.

استقرار وهمي

لم يكن وجود نقاط ضعف في البنوك أمراً مفاجئاً، فالمديرون والمنظمون لديهم كل البيانات بالفعل. لكنَّ الادّعاء بأنَّ البنوك مستقرة قد يدفع المرء إلى الاعتقاد بأنَّ الودائع ثابتة، وأنَّ انخفاض قيم الأصول بسبب ارتفاع أسعار الفائدة سيؤدي إلى خسائر على الورق فقط، وليس إلى خسائر حقيقية.

قد يدفع هذا المرء إلى الشعور الوهمي بالأمان، إلى أن تحين لحظة معينة يختفي فيها ذلك الشعور، بل ويصبح الدفاع عن الوضع برمته غير ممكن. وفجأة يصبح النظام المصرفي غير مستقر إلى حد كبير.

لم يكن "سيليكون فالي بنك" معتاداً فعلاً على الاعتماد كثيراً على الودائع الكبيرة غير المؤمنة، لكنْ هذا جانب واحد فقط من الحقيقة. فعندما تكون أسعار الفائدة على النقد وما يشبهه من أصول صفرية؛ لا يكون هناك طائل من البحث عن مزايا مصرفية أفضل. ولكن على النقيض من ذلك؛ عندما ترتفع أسعار الفائدة، يبدأ المودعون في دراسة خياراتهم ونقل أموالهم. وسهلت التكنولوجيا هذا الأمر كثيراً الآن.

تضاؤل رأس مال البنوك

مع أو من دون تطبيق التأمين على الودائع؛ فإنَّ هذا المزيج من الودائع غير المغطاة بالكامل وأسعار الفائدة المتزايدة يجعل الاحتفاظ بالعملاء أكثر تعقيداً. كما أنَّه يؤثر بالسلب أيضاً على الميزانية العمومية للبنوك، لأنَّها لو اضطرت لزيادة الفوائد حتى تجذب الودائع، فقد تدفع أموالاً للدائنين على المدى القصير أكثر مما تحصله من المقترضين على المدى الطويل. وإذا حدث ذلك فعلاً؛ ستخسر البنوك، وتعاني من تضاؤل رأس المال قريباً جداً، وليس في المستقبل البعيد.

يقلق هذا بشكل خاص جميع البنوك التي لديها محافظ تركز بشدة على الإقراض طويل الأجل بسعر فائدة ثابت للإسكان أو العقارات الأخرى، مثل "فيرست ريبابليك"، أو تعتمد على الأصول التي يُفترض أن تكون آمنة مثل السندات الحكومية الأميركية طويلة الأجل، وهو ما حدث في حالة "سيليكون فالي بنك". ضع في اعتبارك هنا أنَّ أسعار العقارات السكنية والتجارية، ومن ثم قيمة القروض المرتبطة بتلك الأصول، ربما لم تُعدّل بالكامل حتى الآن في ظل ارتفاع أسعار الفائدة.

فصل جديد من الرأسمالية يبزغ من قلب الأزمة المصرفية

من المستحيل تقريباً تطبيق المعايير القوية التي نتمناها، في ظل تغاضي الجهات التنظيمية عن نقاط ضعف النظام المصرفي، وخوفها من المخاطرة بانتشار موجة ذعر بين المودعين. وأفضل نهج بلا شك هو قبول أنَّ العمل المصرفي محفوف بالمخاطر بشكل حتمي، وتعلم كيفية التعايش مع ذلك.

إذا تقبلنا ذلك؛ لن يشعر أحد بالقلق على نحو غير ملائم من التقلبات في قيمة الأصول، التي سيكشف عنها احتساب القيمة العادلة، أو نتيجة اتخاذ إجراءات مبكرة حكيمة لتقليل الرافعة المالية، مثل بيع الأسهم في الأسواق الهابطة، أو استخدام آليات تحويل السندات التي تجذب الانتباه عند إعادة تعبئة رأس المال.

طمأنة المودعين

برغم ذلك؛ يصعب التخلي عن الحاجة إلى طمأنة المودعين بأنَّ البنوك مستقرة بشكل أساسي. وتصر الجهات التنظيمية مجدداً على أنَّ التعديلات الصغيرة للقواعد ستجعل العمل المصرفي آمناً، دون التسبب في انهياره بالكامل. لكن هذا يتجاهل الموازنة بين المخاطرة والعائد على أقل تقدير، فالبنك الذي يتمتع برأس مال أكبر، على سبيل المثال، أو أصول والتزامات ذات آجال استحقاق متقاربة يعتبر بالفعل أكثر أماناً، لكنَّه في الوقت نفسه أقل ربحية، كما سيصبح ضعيفاً إلى حد ما في تخصيص الموارد.

الأسوأ من ذلك كله؛ هو أنَّ هناك العديد من الأفكار التي تُطرح لجعل البنوك أكثر أماناً، لكنَّها تأتي بنتائج عكسية. وأبرز مثال على ذلك قرار التأمين على جميع الودائع، الذي اتُّخذ رداً على انهيار "سيليكون فالي بنك"، إذ يقلل ذلك من احتمالات سحب المودعين لأموالهم، لكنَّه يشجع البنوك على تحمّل مخاطر أكبر. كما أنَّ الاعتقاد بأنَّ هناك بنكاً "أكبر من أن يفشل" مثلما ظهر في حالة استحواذ "جيه بي مورغان" على "فيرست ريبابليك" ينذر بتكرار الأزمة نفسها مجدداً.

ختاماً، علينا الاعتراف بأنَّه طالما استمر عمل البنوك؛ سيظل احتمال نشوب أزمات مصرفية وارداً جداً. وكلما تأخرنا في تحديد المخاطر؛ سيزداد الضرر النهائي.

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك