ثارت مخاوف المشاركين في السوق بسبب التداعيات المتوقَّعة لانهيار "سيليكون فالي بنك"، لكن هناك أزمة جديدة تختمر تحت السطح ناتجة عن تعرض القطاع المصرفي للعقارات التجارية الذي يتدهور سريعاً هو الآخر.
تتوالى أنباء تخلف إحدى شركات العقارات الكبرى عن السداد كل بضعة أيام، ففي الأسابيع الماضية، تخلّف مالك مبنى تجاري تديره شركة "باسيفيك إنفستمنت مانجمنت" (Pacific Investment Management) عن سداد سندات رهونات عقارية بقيمة 1.7 مليار دولار تقريباً تخص 7 من المباني ضمن مناطق مثل سان فرانسيسكو وبوسطن ونيويورك.
قبل تلك الواقعة، تخلفت إحدى شركات مجموعة "بروكفيلد" (Brookfield) عن سداد قروض مرتبطة ببرجين للمكاتب في لوس أنجلوس. ظهر على قائمة القروض المعرضة للخطر رهن عقاري بقيمة 1.2 مليار دولار على مجمع في سان فرانسيسكو يملكه الرئيس السابق دونالد ترمب بالاشتراك مع "فورنادو ريالتي تراست" (Vornado Realty Trust).
زيادة العقارات المتخلفة عن السداد
إذا عجلت قصة "سيليكون فالي بنك" بمجيء الركود المرتقب؛ سيكون علينا إذاً أن نتوقَّع زيادة عدد العقارات المتخلفة عن السداد عاجلاً، لا آجلاً. وهذا خبر سيئ للبنوك لأنَّهم زادوا تمويلهم للعقارات.
منذ منتصف 2021، تجاوز إجمالي القروض والتمويلات التأجيرية للعقارات في سجلات المقرضين بشكل كبير 725 مليار دولار، أو ما يعادل 16%، ليصل إلى مستوى قياسي يبلغ 5.31 تريليون، وفقاً لبنك "الاحتياطي الفيدرالي".
على الجانب الآخر، تعادل زيادة العام الماضي بنسبة 11.2% زيادات السنوات الأربع السابقة معاً، وهي الأكبر منذ 2006. ليس هذا وحسب؛ لكنَّ القروض العقارية تشكّل ما يقارب 24% من القروض المصرفية ككل، وهي النسبة الأكبر منذ الأزمة المالية، وفقاً لما قاله جون فيليس، المخطط الاستراتيجي ببنك "بي أوف نيويورك ميلون" (BNY Mellon). زيادة صعوبة نقل المخاطر إلى المستثمرين هي أحد أسباب استثمار البنوك بهذا القدر.
أشار فيليس إلى أنَّ الإصدار السنوي في سوق الأوراق التجارية المدعومة بالرهن العقاري انخفض من 240 مليار دولار في 2007 إلى 60 مليار دولار فقط في 2020، أي بنسبة 75%.
فيما يلي نستعرض ما كتبه فيليس في مذكرة بحثية قبل إخفاق "سيليكون فالي بنك":
"في كتاب السياسة النقدية، كان الغرض من رفع أسعار الفائدة هو تشديد الأوضاع المالية والائتمانية، مما يؤدي إلى تراجع النشاط الاقتصادي. مع ذلك؛ فهناك قطاعات محددة في الاقتصاد توجد بها مديونية كبيرة، وقد تتعرض تلك القطاعات لتهديدات تؤدي في الأغلب لتوترات في القطاع المالي. نراقب القروض العقارية التجارية باعتبارها أحد جوانب النظام المالي التي تعاني من نقاط ضعف".
خطر العقارات التجارية
يرى بيتر بوكفار، مدير الاستثمار التنفيذي في مجموعة "بليكلي فايننشال" (Bleakly Financial)، العقارات التجارية باعتبارها تمثل خطراً واضحاً، كما حذر عملاءه منها على مدار عدة شهور ماضية.
أوضح بوكفار، في إحدى المذكرات البحثية الصادرة أواخر العام الماضي، الأمر للقراء بالأرقام. وفي المثال الذي قدّمه، دفع المستثمر 50 مليون دولار مقابل شقة في 2020، وأخذ قرضاً لمدة ثلاث سنوات بـ70% من قيمة العقار، وبفرض شراء العقار بمعدل رسملة 5%؛ فسيجلب نحو 2.5 مليون دولار كإيجار سنوي إجمالي، وهو ما يكفي لسداد 960 ألف دولار أو ما يقاربها كفائدة سنوية على قرض بفائدة أقل من 3%، وسداد النفقات الأخرى مثل التأمين والضرائب والصيانة وإدارة العقار.
لم يتوقَّع أي أحد ارتفاع أسعار الفائدة بهذه السرعة، وأصبح هذا المستثمر مجبراً الآن على إعادة التمويل بمعدلات أعلى من 7%، مما سيرفع نفقات الفائدة السنوية إلى نحو 2.63 مليون دولار، حتى لو تمكّن المستثمر من رفع الإيجارات 10% في 2021، وبالمقدار ذاته في العام الماضي، لن يصل الدخل الإيجاري إلا لنحو 3 ملايين دولار، ويتبقى 400 ألف دولار أخرى لكل النفقات المتبقية، كما أنَّ ضريبة العقارات وحدها في بعض الولايات قد تبتلع هذا المبلغ بالكامل، وفقاً لبوكفار.
بالطبع تلك حسابات تقريبية؛ لكنَّها تبدو صحيحة، وتوضح المشكلات القابعة للمستثمرين في العقارات ومقدمي قروضها. القدرة على تحمّل القرض يمكنها أن تموّل نفسها بسرعة في العقارات التجارية مع ارتفاع أسعار الفائدة، إذ تصبح إعادة التمويل أكثر كلفة، ويصعب العثور عليها، بينما تنظر البنوك في خفض استثماراتها، مما يؤدي لزيادة مبيعات العقارات بأسعار أقل ومخاطر خسارة أكبر على المقرضين.
تدهور قيمة العقارات
نحن لا ننتظر تدهور قيمة العقارات، بل هو موجود بالفعل. فمؤشر أسعار العقارات التجارية الذي يتابعه الكثيرون والصادر عن "المجلس الوطني الأميركي للائتمانات العقارية" (National Council of Real Estate Fiduciaries)، انخفض 3.5% في الربع الماضي، وهو الانخفاض الأكبر منذ 2009 وثاني انخفاض ربعي منذ وقتها. كما قادت العقارات من مكاتب وشقق هذا التدهور.
إذاً؛ أين يكمن الخطر على البنوك؟ يكمن في الأغلب في البنوك الصغيرة وبعض كبار المقرضين المتخصصين في العقارات. ففي اختبارات القدرة على تحمّل القروض التي أجراها "الاحتياطي الفيدرالي" في 2022؛ حققت "ويلز فارغو آند كو" (Wells Fargo & Co) القيمة الدولارية الأكبر في خسائر العقارات التجارية، لكنَّ "إم آند تي بنك" (M&T Bank) و"هنتنغتون بانكشيرز" (Huntington Bancshares) حققا الخسائر الأكبر في مقابل حصتهما من إجمالي خسائر القروض وحصتهما من قاعدتي رأسمالهما.
رفع "إم آند تي" مخصصاته للديون الرديئة بشكل كبير في العام الماضي بالنسبة إلى ديون الأفراد والشركات بدلاً من العقارات، كما خفّض البنك استثماراته في المشروعات قيد الإنشاء على مدى السنوات الأخيرة وقال إنَّ العبء في قطاع الفنادق تضاءل. لكنَّ مساكن الرعاية الدائمة والمكاتب هما المجالان اللذان قد يبدأ منهما تفاقم المشكلات.
تشديد معايير الائتمان
النبأ السعيد هو أنَّ المقرضين بدأوا في تشديد المعايير عند تقديم الائتمان للعقارات التجارية. أظهر أحدث استقصاء ربع سنوي لمسؤولي القروض أجراه "الاحتياطي الفيدرالي" أنَّ 57.6% من المشاركين أبلغوا عن معايير مشددة. النبأ السيئ هو أنَّ هذا التشديد جاء بعد فوات الأوان، إذ سُهلت المعايير بشكل كبير بعد بدء الجائحة.
من المنصف أن نسأل ما إذا كان الوضع الحالي للعقارات التجارية يدق ناقوس الخطر في القطاع المصرفي حول احتمال تكرار أزمة المدخرات والقروض التي وقعت في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، عندما أدى الارتفاع الكبير في القروض والاستثمارات العقارية إلى ركود؟.
لكنَّ الإجابة على هذا السؤال ما تزال سابقة لأوانها، فما تعلمناه من هذه الأزمة وغيرها من الأزمات هو أنَّه من دون نظام مصرفي قوي لن نحظى باقتصاد قوي، وأزمة "سيليكون فالي بنك" تشير إلى أنَّ النظام المصرفي ليس بالقوة التي توقَّعناها.