عندما انحرف الاقتصاد الأميركي فجأة باتجاه أعنف أزمة تضخم منذ أربعة عقود، اندفع المستثمرون إلى ركن من أركان "وول ستريت" بدا ملاذاً آمناً، وهو سندات الخزانة التي تقدم تعويضاً إضافياً من أجل مواكبة ارتفاع أسعار المستهلك.
ثم تمزق هذا الإحساس بالأمان بسبب الحقيقة القاسية لحسابات سوق السندات.
تسببت زيادات الاحتياطي الفيدرالي الحادة وغير المعتادة في أسعار الفائدة في تهاوي أسعار الأوراق المالية بشدة مع بقية سوق السندات، وقد بلغت الأسعار من الانخفاض حداً جعل النسبة التي انخفضت بها تلتهم أي مدفوعات إضافية مرتبطة بارتفاع معدل التضخم.
حتى مع انتعاش السندات خلال الشهرين الماضيين على خلفية تكهنات بأن "الاحتياطي الفيدرالي" مستعد لإبطاء رفع أسعار الفائدة، فإن مؤشر بلومبرغ للأوراق المالية المحمية من التضخم في الخزانة يشير إلى خسارة ما يقرب من 10% العام الحالي، وهو الأسوأ منذ تأسيسها في التسعينيات، وأصغر قليلاً من الانهيار الذي تعرضت له سندات الخزانة التقليدية.
هذه الضربة سببت إحجاماً عن الأوراق المالية لجزء كبير من العام، إذ شعر المستثمرون فعلياً أنها تخسر تماماً في الوقت الذي كانت الحاجة ماسة إليها، وكأنها بوليصة تأمين لم تدفع التعويضات عندما حدثت الكارثة.
السندات المحمية من التضخم
مسؤول استراتيجية الاقتصاد الكلي في الولايات المتحدة في بنك "ميتسوبيشي يو اف جاي فاينانشال غروب"، جورج غونكالفيس قال: "الأوراق المالية المحمية من التضخم في الخزانة ليست مجرد مناورة للتحوط من التضخم... ربما ظننت أنك تنوعت في محفظتك، لكن هذه الأوراق هي كباقي السندات، عرضة لمخاطر رفع أسعار الفائدة. كان هذا في النهاية درساً لمتداولي هذه الأوراق، وربما يكون درساً حتمياً نظراً إلى نقطة البداية المنخفضة للعوائد، فلم نر مثيلاً لهذا منذ عقود".
الأوراق المالية توضح كيف أن النهاية المفاجئة لسياسة الأموال السهلة التي اتبعها "الاحتياطي الفيدرالي" زعزعت كل أركان الأسواق المالية الأميركية بشكل واسع، حتى تلك التي ينظر إليها على أنها أكثر الملاذات الخالية من المخاطر.
الأوراق المالية المحمية تشبه باقي سندات الحكومة الأميركية، في أن سعر الفائدة ثابت وقت البيع. الفرق الرئيسي يكمن في أن المبلغ الذي يستحق تسديده في أجله لمتداولي هذه السندات يُعدل بشكل متصاعد لمواكبة مؤشر أسعار المستهلك. وتستند مدفوعات الفائدة على هذا المبلغ الأساسي مرتين في السنة، فهي تنمو أيضاً مع ارتفاع التضخم.
هذا الترتيب يضمن للمستثمرين الربح إذا ما احتفظوا بالسندات حتى آجال استحقاقها. لكنها لا توفر إلا قدراً قليلاً من الحماية من الخسائر عندما تنخفض الأسعار بسبب زيادات الفائدة، وهو ما فعلوه هذا العام حين شرع "الفيدرالي" في تطبيق سياسات مالية هي الأكثر تشدداً منذ الثمانينيات.
التضخم يهدد الاقتصاد
مع ارتفاع أسعار الفائدة، وزيادة ثقة المستثمرين في أن "الاحتياطي الفيدرالي" سيسيطر على التضخم، ارتفع عائد الأوراق المالية المحمية لمدة عشر سنوات من 1.25% سالب في نوفمبر 2021، إلى 1.82% نهاية أكتوبر.
وفقاً لمسؤول الدخل الثابت في "أموندي يو اس" (Amundi US) جوناثان دوينسنغ: فإن التأرجح "يسلط الضوء على حقيقة أن المستثمرين دفعوا الكثير من أجل الحماية من التضخم".
أدت هذه القفزة الحادة في العوائد من أدنى مستوياتها بعد الوباء إلى إعادة إحياء الطلب على السندات بشكل عام عبر وول ستريت، وسط تكهنات بأن التضخم ينخفض من ذروته وأن "الاحتياطي الفيدرالي" سيتوقف عن رفع أسعار الفائدة في منتصف 2023. ينطبق هذا أيضاً على السندات المحمية التي حققت عوائد إيجابية خلال الشهرين الماضيين والتي قد تستمر في تحقيقها، لا سيما إذا بقي التضخم في ارتفاعه أكثر من المتوقع.
الرئيس المشارك لاستراتيجية أسعار الفائدة الأميركية في "جاي بي مورغان تشيس اند كو"، جاي باري، قال إن مقياس التعادل للأوراق المالية المحمية متوسطة الآجال، أو معدل التضخم خلال حياة السند اللازم لتحقيق عوائد أعلى من تلك الموجودة على سندات الخزانة التقليدية "تبدو رخيصة" الآن.
النسبة الآن تبلغ 2.4% تقريباً للأوراق المحمية لخمس سنوات، وهي أقل بكثير من معدل التضخم الحالي: يتوقع الاقتصاديون أن تعلن وزارة العمل الثلاثاء أن مؤشر أسعار المستهلك ارتفع بمعدل سنوي 7.3% في نوفمبر، بانخفاض طفيف من 7.7% الشهر الماضي.
ضغوط أسعار الفائدة
غاري شاودهوري، رئيسة استراتيجية الاستثمار للأميركتين في شركة "اي شيرز" التابعة لشركة "بلاك روك" توقعت أن نقص العمالة وقيود العرض ستبقي التضخم فوق مستويات ما قبل الوباء. وذكرت أن الأسعار الحالية لسندات الخزانة المحمية من التضخم لمدة 10 و30 سنة توفر "فرصة للعملاء لشراء التأمين حيث إن التضخم أعلى مما تتوقعه السوق حالياً... إن خفض التضخم إلى 5% هو الجزء السهل، لكن المعركة الحقيقية تكمن في العودة به إلى 2%، وهذا سيستغرق بعض الوقت".
قد لا يكون المستثمرون في عجلة من أمرهم للعودة مجدداً إلى السندات المحمية من التضخم، بالنظر إلى بيانات العام الحالي، خاصة إذا أدى التباطؤ في النمو الاقتصادي إلى تعزيز القناعة بأن "الاحتياطي الفيدرالي" سينتصر على التضخم.
دوينسنغ من "أموندي" قال: "إن استعادة شعور التفاؤل بين المستثمرين الأفراد من نوعية من يستثمرون في صناديق المؤشرات المتداولة تجاه السندات المحمية من التضخم مرة أخرى ربما تتطلب نوعاً من الذعر من التضخم".
إيرا جيرسي، كبير المحللين الاستراتيجيين لأسعار الفائدة الأميركية في بلومبرغ انتيلجنس كتب: "بينما ينخفض التضخم، ويدرك المستثمرون أن تعرض الاستثمار في السندات المحمية من التضخم لمخاطر أسعار الفائدة قد طغى على تعويضات التضخم في 2022، قد يستمر بعضهم في سحب الأصول من هذا المنتج"، وقد يمثل هذا التراجع "تحدياً في مواجهة أي صعود مستدام".