عملت نايفة أبو محارب، التي تبلغ من العمر 63 سنة، والأم لسبعة أطفال، في تنظيف المكاتب بمدينة الزرقاء، ثاني أكبر المدن في الأردن. لكن عندما اقترضت مبلغاً يصل إلى نحو ألفَي دولار من شركة تمويل متناهي الصغر في سنة 2013 لتصلح منزلها، كان لديها تصور محدود بأن الأمر قد ينتهي بها إلى دخول السجن.
تخطت الأقساط الشهرية البالغة 138 دولاراً لسداد قرض إصلاح سقف منزلها حجم راتبها. وعندما ظهرت مجدداً إصابة قديمة في الظهر، ما جعل العمل مسألة صعبة بالنسبة إليها، تخلفت عن السداد.
رفع المُقرِض، الممثل في شركة "تمويلكم"، دعوى قضائية أمام المحكمة لأجل المبلغ المتبقي الذي يبلغ 845 دولاراً، وفي سنة 2017 صدر حكم غيابي صدها بالسجن لمدة 3 أشهُر، وجرى وضعها على قائمة المطلوبين لدى الشرطة.
يأتي الأردن بين آخر البلدان التي تسجن أشخاصاً بسبب عدم سداد الديون، وهو إرث لم يُتصدَّ له إلا مؤخراً. لكن في سنة 2019 قال مسؤولون بوزارة العدل إن ما يزيد على 23 ألف سيدة مثل "أبو محارب" مطلوبات من قِبل الشرطة إثر التخلف عن سداد قروض بمبالغ صغيرة. جرى الإبلاغ عن عديد من مؤسسات التمويل متناهي الصغر لدى السلطات، بما فيها شركة "تمويلكم"، حسب ملفات المحكمة التي راجعتها "بلومبرغ نيوز" ومقابلات مع محامين ونشطاء حقوقيين ومقترضين. على مدى أعوام، كان لدى هذه المؤسسات داعمون كبار، من بينهم بنوك التنمية الأمريكية والأوروبية التي يمولها دافعو الضرائب وواحد من أكبر المقرضين التجاريين على مستوى العالم.
بالنسبة إلى شركة "تمويلكم"، التي تقول إن 1286 سيدة اقترضن منها أموالاً كُنّ على قوائم المطلوبين لدى الشرطة حتى مارس 2020، وحصلن على ما يفوق من 70 مليون دولار في صورة قروض من بنوك التنمية والمقرضين التجاريين، بما فيها نحو 20 مليون دولار من البنك الدولي و10 ملايين دولار منذ سنة 2007 من "سيتي غروب".
أقرضت شركة "أوفرسيز برايفت إنفستمنت" الأمريكية (Overseas Private Investment Corp)، المعروفة اختصاراً بـ"OPIC"، شركة "تمويلكم" 3.5 مليون دولار في سنة 2019، ووافق بنك الاستثمار الأوروبي على تقديم تمويل بقيمة 6 ملايين يورو (6.4 مليون دولار) خلال السنة الماضية.
تُعَدّ شركة الإقراض الأردنية واحدة من بين عدد من شركات التمويل متناهي الصغر في كل أنحاء العالم التي حصلت على مئات الملايين من الدولارات من بنوك التنمية، على الرغم من الممارسات العنيفة التي تتراوح بين فرض أسعار فائدة سنوية من الممكن أن تتخطى 100% في أمريكا اللاتينية وأساليب عنيفة لتحصيل ديون في كمبوديا، التي كشف تحقيق أجرته "بلومبرغ" أنه جعل بعض المقترضين يعيشون بلا مأوى. في حين وعدت الجهات المانحة والهيئات التنظيمية وشركات التمويل متناهي الصغر بتعديلات قبل عقد عقب حدوث موجة من حالات الانتحار من قبل المقترضين الهنود، توقفت جهود تصفية القروض المتعسرة مع إسناد بنوك التنمية، بطريقة متزايدة، عملية فحص حماية المستهلك إلى مجموعات يقودها القطاع أو جهات تنظيمية وطنية هزيلة.
حالات استثنائية
تؤكد شركة "تمويلكم" أنه لم تُبلَغ بأن أياً من عملائها سيذهب إلى السجن في غضون الأعوام الـ5 الماضية، رغم أن البعض ربما جرى القبض عليه واحتجازه في مراكز الاحتجاز لبضع ساعات أو لليلة، فيما جرى تسديد قروضهم أو إلغاؤها.
قال رئيس الشركة التنفيذي باسم خنفر إنه لم تُوضَع أي سيدة على قوائم المطلوبين لدى الشرطة منذ توليه المنصب في شهر نوفمبر 2019، وذلك قبل بضعة أشهُر من إعلان الحكومة عن تعليق حبس المدينين بأقل من 100 ألف دينار (ما يعادل 141 ألف دولار) مع بداية تفشي وباء كورونا.
تقول الشركة إنها لا تزال تُبلِغ المحاكم عن المقترضين المتأخرين عن السداد لفرض عقوبات قد تتضمن المنع من السفر، لكنّ المسؤولين التنفيذيين لم يقدموا أرقاماً، وقالوا إن الأمر يعود إلى السلطات القضائية في إصدار قرار في ما يتعلق بالعقوبات.
وفقا لخنفر فإن الشركة لا تبلغ عن المقترضين إلا كحلّ أخير، عقب محاولة تحصيل الديون في ما يطلق عليه أسلوب "ودّي"، وهي عملية يمكن أن تشتمل على تأجيل مدفوعات القروض أو إجراء عملية إعادة جدولة لها. ويضيف أن شركة "تمويلكم" تعوّل على المحاكم لأن عدم فعل ذلك سيعطي مقترضين آخرين مؤشراً بأنه لا توجد ضرورة لتسديد قروضهم. ويوضح خنفر: "يحصل أولئك الذين لا يريدون السداد على ائتمان ومزايا.. لا نرغب في أن نبعث بهذه الرسالة".
في وقت سابق من هذا الشهر، دعت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحكومة الأردنية إلى إنهاء كل حالات السجن المرتبطة بالديون، واعتبرتها بمثابة "انتهاك واضح للالتزامات الدولية لحقوق الإنسان". قبل أيام قليلة، صوّت المشرعون على فرض حظر على صدور عقوبات بالسجن لعدم تسديد ديون تبلغ قيمتها أقل من 7 آلاف دولار، مع استثناء حالات التأخر عن دفع الإيجار أو مستحقات العمالة غير المدفوعة.
قضية مُلغَّمة
قال متحدث باسم مصرف "سيتي غروب" إن البنك يسعى إلى ضمان امتثال مؤسسات الائتمان متناهي الصغر التي يدعمها للوائح المحلية، وإنه "ليس من المفترض أن يُسجن أي شخص لعدم قدرته على تسديد ديونه".
ذكر متحدث باسم بنك الاستثمار الأوروبي أن حبس المقترضين "من الممكن اعتباره معاملة متجاوزة أو مسيئة، ويُعَدّ استعمالاً للقوة"، ويُعتبر انتهاكاً لإرشادات الإقراض التوجيهية الخاصة به، وأكد أنه يعتزم إجراء تحقيق في الأمر.
باتت حالات السجن في الأردن قضية مُلغَّمة، حتى إن الملك عبد الله الثاني سدد قروضاً عن 1500 سيدة في سنة 2019. في تلك السنة، حسب منظمة "هيومن رايتس ووتش"، حُبس نحو 2630 شخصاً بسبب عدم تسديد ديون، أي ما يصل إلى 16% من إجمالي أعداد المسجونين. رغم ذلك، واصلت بنوك التنمية التي تمنع مبادئها التوجيهية بصفة عامة إقراض شركات التمويل متناهي الصغر التي تتورط في ممارسات تحصيل ديون مسيئة، في تقديم التمويل لشركة "تمويلكم".
تأسست شركة "تمويلكم" في سنة 1999 من قِبل مؤسسة "نور الحسين" التي أنشأتها الملكة نور، الزوجة الرابعة لوالد الملك وحاكم الأردن السابق. ومنذ ذلك الوقت، باتت واحدة من أكبر شركات التمويل متناهي الصغر في الأردن، وقدمت ما يزيد على 800 ألف قرض للسيدات. لم تردّ المؤسسة، التي ما زالت تمتلك الشركة المقرضة، على رسائل البريد الإلكتروني التي تطلب التعليق على الموضوع.
يتفاخر الموقع الإلكتروني لشركة الإقراض بأنها تقدم "بوابة للاستقرار المالي والاستدامة وحماية النفس للأفراد الذين لا يمتلكون حسابات مصرفية في الأردن"، لكن بالنسبة إلى بعض المقترضين، أسفرت القروض عن تفاقم مشكلات مالية موجعة بالفعل.
سجينات محتملات
تنطبق نفس الحالة على نهاد سعيد، التي تبلغ من العمر 40 سنة، والتي تلقت قرضاً جماعياً من شركة "تمويلكم" مع صديقة لها في سنة 2012. عقب توقف الصديقة عن تسديد المدفوعات وهروبها إلى تركيا، أبلغت شركة "تمويلكم" السلطات عن "سعيد"، وجرى وضعها على قوائم المطلوبين لدى الشرطة.
لا يعني التسجيل في قائمة المطلوبين أن الشرطة ستحضر إلى باب المنزل للمقترضين، لكن هذا يعني أنه من الممكن أن القبض عليهم سيكون في أي وقت تجري فيه عملية التحقق من هويتهم. ويلجأ عديد من السيدات للاختباء لتفادي خطر التعرض للتوقيف.
تقول "سعيد"، وهي عاطلة عن العمل وأم لأربعة أطفال، إنها اضطرت إلى العيش مثل الفارّين من وجه العدالة، على مدى ما يفوق 5 أعوام، إذ تخشى مغادرة منزلها في الزرقاء.
عندما قامت بذلك، تركت بطاقة هويتها وراءها في المنزل، واستعملت اسماً مزيفاً. قالت شركة "تمويلكم" إنها شطبت القرض في شهر فبراير لسنة 2021. تقول سعيد: "عشت سجينة في بيتي. كان يساورني الخوف في كل مرة أخرج فيها من المنزل. سيطر علي الشعور بالخوف، وأصبحت أعاني من الاكتئاب. لم أتمكن من القيام بأي من أمر في حياتي".
ازداد عدد السيدات المتخلفات عن السداد في الأردن، خصوصاً على صعيد القروض متناهية الصغر، 10 أضعاف في غضون الأعوام الـ5 حتى سنة 2019، وفقاً لبيان صادر السنة الماضية عن وزير العدل أحمد زيادات. كانت هناك قروض عديدة تهدف إلى القيام بتحسينات في المنزل أو شراء جهاز تليفزيون حديث، أو تسديد ديون أخرى، إذ كانت بشكل أكثر في مجال إقراض المستهلكين، بالمقارنة بالدور التقليدي للتمويل المتناهي الصغر المتمثل في احتضان عملية تطوير الأنشطة التجارية المُدرّة للدخل.
مخاوف دولية وثناء أمريكي
كان القلق يساور مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي، والمعروفة اختصاراً بـ"IFC"، بما فيه الكفاية في ما يتعلق بالمديونية المفرطة في الأردن، لدرجة أنها كلفت في سنة 2018 "مؤشر التمويل متناهي الصغر للوصول إلى الأسواق والتشبع"، أو ما يطلق عليه اختصارا "ميموزا"، الذي يموله القطاع، إعداد تقرير في هذا الشأن. ووجد التقرير أن 34% من مقترضي التمويل متناهي الصغر في الأردن حصلوا على قرض لسداد ديون في المقام الأول.
كشف "مؤشر التمويل متناهي الصغر للوصول إلى الأسواق والتشبع" أيضاً أن نحو 6% من عملاء التمويل متناهي الصغر يمتلكون 3 قروض أو أكثر، وأن نحو 18% اقترضوا أموالاً أيضاً من مقرضين غير رسميين.
قال مارتن هولتمان، مسؤول التمويل متناهي الصغر في مؤسسة التمويل الدولية، إنّ سجن أي فرد نتيجة التخلف عن تسديد قرض صغير يُعَدّ "أمراً غير مقبول". لكن مؤسسة التمويل الدولية، التي تتعاون مع شركة "تمويلكم" منذ سنة 2010، تفكر في تمديد قرض الشركة الذي تبلغ قيمته 5 ملايين دولار.
أفاد متحدث باسم مؤسسة التمويل الدولية بأنه في حال الحصول على الموافقة على تقديم القرض ستكون شركة "تمويلكم" ملزمة تطبيق معايير الأداء البيئي والاجتماعي الخاصة ببنك التنمية، بما فيها عدم انتهاك حقوق الإنسان بالنسبة إلى العملاء.
نشرت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، التي تعمل بجانب شركة "أوفرسيز برايفت إنفستمنت" لإنفاق المساعدات الفيدرالية، تقريراً لها في سنة 2019 عن التمويل متناهي الصغر في الأردن الذي أثنى على شركة "تمويلكم" لالتزامها عملية تحسين الظروف الاجتماعية للمقترضين. ولم يتضمن التقرير المؤلف من 73 صفحة إشارة إلى تحويل المقترضين المتأخرين عن التسديد إلى السلطات القضائية.
"فقيرة ولست مجرمة"
لم تردّ مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأمريكية، التي جرى تأسيسها في سنة 2019 من خلال إدماج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ومؤسسة "أوفرسيز برايفت إنفستمنت"، على أسئلة حول ما إذا كانت الوكالة على دراية بطريقة الممارسة أو ما إذا كانت تنتهك الإرشادات التوجيهية للتمويل الخاصة بها.
وقال متحدث رسمي في وقت سابق إن عمليات التدقيق لدى المؤسسة "صارمة" وإنها تطبق معايير حماية المستهلك التي وضعتها مجموعة تقود القطاع. وتحظر هذه الإرشادات القيام بممارسات التحصيل التي تشتمل على عنف جسدي أو تحرش أو مساومة على خصوصية المقترض، لكنها لا تذكر سجن الأشخاص المدينين.
أفاد متحدث باسم بنك التنمية الهولندي "إف إم أو" FMO، الذي وفر لشركة "تمويلكم" تمويلاً بقيمة 1.4 مليون دولار في صورة ضمانات قروض في سنة 2019، بأن البنك "طالب شركة (تمويلكم) بالتحفظ في استعمال هذا النهج القانوني"، ويوجد لديه اعتقاد بأن الشركة المقرضة قد أظهرت رحابة صدر.
كانت أول مرة تعلم "أبو محارب" بأن اسمها كان مدرجاً على قائمة المطلوبين من قبل الشرطة عندما كانت تزور شقيقها في السجن عقب بضعة أشهُر من صدور حكم المحكمة في قضيتها في سنة 2017.
تقول إنها قدمت هويتها للحراس، لتُنقل بعدها إلى سجن الجويدة المخصص للسيدات، وتوضع في زنزانة مع 4 سجينات سخرن منها وامتهنَّ كرامتها. تصف "أبو محارب" الأمر، وهي تجلس على وسادة أرضية في منزلها غير المكتمل في الزرقاء، الذي يخلو من زجاج النوافذ، مع جص متساقط من سقف البيت، وتقول: "كان أمراً فظيعاً.. أنا فقيرة. أنا لست مجرمة".
توضح "أبو محارب" أنها استعملت المال الذي تلقته من شركة "تمويلكم" للمساهمة في إطعام عائلتها الكبيرة، التي يتشارك 8 إفراد منها منزلها الصغير، وللقيام بإصلاحات. تقول شركة "تمويلكم" إنها منحتها القرض بناءً على مستوى دخل العائلة بالكامل، الذي تقول إنه كان يبلغ نحو 845 دولاراً شهرياً.
عقب معرفة أن والدتها كانت في السجن، باعت واحدة من بنات "أبو محارب" غالبية جواهرها، واستطاعت مع أشقائها جمع ما يكفي لتسديد الديون المتبقية. جرى الإفراج عن "أبو محارب" في اليوم التالي. تقول: "قد تعد تلك الليلة التي قضيتها هناك بمثابة عمر كامل لكل الأشياء المريعة التي رأيتها وعشتها". وتابعت: "لقد جرت معاملتي على أنني مجرمة".
يقول خنفر إنه يشعر بالحزن تجاه "أبو محارب" وإن شركة "تمويلكم" شطبت قروضاً بلغت قيمتها 600 ألف دولار تقريباً خلال فترة تفشي الوباء. ويضيف: "بصفة شخصية، أنا ضد الزج بالناس في السجن لعدم سداد أموالهم"، لكنه يستدرك أيضاً أنه يتوجب على الشركة العثور على وسيلة للحفاظ على استدامة أنشطتها، وتقديم الخدمة لعملائها الجدد، وإرضاء دائنيها، "وإلا سيتضرر كل الأسواق الاقتصادية والمالية".