قضى المسؤولون الأمريكيون مئات الساعات على مدار خمسة أشهر في المناقشة والصياغة، ثم الترويج لمجموعة من العقوبات الاقتصادية، في محاولة لإخافة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من غزو أوكرانيا، لكن منذ البداية تقريباً، تشارك الكثيرون الرأي نفسه؛ وهو أنَّ هذه الاستراتيجية لن تنجح.
أصبحت هذه المخاوف حقيقة، بحلول الخميس، عندما هاجمت القوات الروسية أهدافاً في جميع أنحاء أوكرانيا، وتعهد بوتين "بنزع السلاح" في البلاد واستبدال قادتها. وصفت الحكومة الأوكرانية الهجوم الروسي بأنَّه "غزو شامل". وفي بيان في وقت متأخر من مساء الأربعاء؛ قال الرئيس الأمريكي جو بايدن، إنَّه سيعلن قريباً عن "عواقب أخرى" على روسيا غير العقوبات التي تم الكشف عنها في وقت سابق من الأسبوع.
كان "بايدن" حدد يوم الثلاثاء "الحزمة الأولى" الجزئية من العقوبات - وهي حزمة متواضعة أحبطت المراقبين السياسيين والأسواق المالية - ثم أعقب ذلك بإجراءات إضافية في اليوم التالي، بما في ذلك العقوبات ضد شركة "نورد ستريم-2"، وهي الشركة التي بنت خط أنابيب للغاز الطبيعي يربط بين روسيا وألمانيا بقيمة 11 مليار دولار. قال مساعدو "بايدن"، إنَّهم يحتفظون بعقوبات جاهزة أشد، لكن خلف الكواليس، هناك شكوك مستمرة بشأن هذه الاستراتيجية.
قال أكثر من عشرة من المسؤولين الأمريكيين الحاليين والسابقين، الذين ساعد الكثير منهم في تحضير الرد، لـ "بلومبرغ نيوز"، إنَّهم يشككون بشدة في أنَّ العقوبات ستغير سلوك "بوتين". لكن بعد أن أوضح "بايدن" العام الماضي أنَّ الولايات المتحدة لن ترسل قوات أو أسلحة ثقيلة إلى أوكرانيا؛ لم تكن هناك خيارات قوية أخرى. للمرة الأولى؛ تُرك لفريق "بايدن" محاولة إثبات أنَّ تهديد الحرب الاقتصادية ضد خصم رئيسي مثل روسيا سيكون كافياً، في الوقت الذي لم يكن الردع العسكري خياراً.
الملاذ الأول
مع تزايد قلق القادة الأمريكيين من تكرار الكوارث العسكرية في العراق وأفغانستان؛ فإنَّ السهولة النسبية لفرض العقوبات الاقتصادية جعلتها خيار السياسة الخارجية الذي يمثل الملاذ الأول، على الرغم من وجود مجموعة متزايدة من الأدلة على أنَّ العقوبات غالباً ما تفشل في تحقيق أهدافها.
في بعض الحالات، أظهرت التجربة أنَّ العقوبات تؤدي فقط إلى ترسيخ السلوك غير المرغوب فيه من الأطراف التي تستهدفها. تتفاقم هذه القيود بسبب احتمال أنَّ العقوبات الأشد صرامة على روسيا - تلك التي قد تغير في الواقع سلوك بوتين - ستهدد أيضاً الاقتصادات الأمريكية والعالمية، التي تعاني بالفعل من ارتفاع أسعار النفط والسلع الأخرى.
قال ستيف بيجيون، نائب وزير الخارجية السابق في عهد دونالد ترمب، وأحد المخضرمين في الإدارات الجمهورية الأخرى، والذي ساعد في صياغة سياسة الولايات المتحدة تجاه كوريا الشمالية: "أصبحت أداة العقوبات أداة ضعيفة". وأضاف "بيجيون" أنَّ إدارة "بايدن" ليس لديها خيارات جيدة لمواجهة "بوتين"، لكنَّ استخدام العقوبات "لا يبدو أنَّه يغيّر بشكل كبير سلوك أي طرف أجنبي تشكل أفعاله مصدر قلق للولايات المتحدة".
اقرأ أيضاً: الروبل الروسي في أدنى مستوى منذ 5 سنوات.. و"المركزي" يتدخل
عقوبات غير رادعة
من المؤكد أنَّ الدفعة الأولى من العقوبات لم تردع "بوتين"، الذي أعلن عن الهجوم الروسي في خطاب متلفز، وقال، إنَّه يهدف إلى الإطاحة بما أسماه "نظام كييف". وأعلن "بوتين" أنَّه يتخذ هذه الإجراءات بشكل جزئي لحماية المدنيين في المناطق الانفصالية من الجيش الأوكراني، على الرغم من عدم وجود دليل على أنَّهم كانوا تحت أي تهديد بالهجوم.
بعد ذلك بوقت قصير، شنت روسيا وابلاً من الهجمات الصاروخية والمدفعية. من جانبه؛ قال حرس الحدود الأوكراني، إنَّه تعرض للقصف من خمس مناطق، بما في ذلك من شبه جزيرة القرم في الجنوب، وبيلاروسيا في الشمال، في حين كانت أرتال الدبابات الروسية تتحرك باتجاه إلى البلاد. وقالت وزارة الداخلية الأوكرانية، إنَّ العاصمة كييف تعرضت للهجوم، وحثت المواطنين على الذهاب إلى الملاجئ.
اعتمد فريق "بايدن" - الذي انتقد بعضهم ترمب وأسلافه لاستخدامهم العقوبات في كثير من الأحيان دون خطط لرفعها - في نهاية المطاف استراتيجية ترتكز على العقوبات. في صباح الأربعاء، اعترف شخص مُطّلع على تفكير الإدارة بأنَّ "جواً من الحتمية يخيم على" احتمالية غزو روسي كامل، لكنَّه قال، إنَّ ذلك يعزز الشعور بأنَّنا على يقين من أنَّنا سنحاول" مواجهة خطط "بوتين" بواسطة عقوبات ذات مغزى. طلب هذا الشخص - مثل الآخرين الذين تمت مقابلتهم من أجل إعداد هذه القصة - عدم الكشف عن هويته أثناء مناقشة المداولات الداخلية.
عارض مسؤول كبير آخر في الإدارة مثل هذه الآراء المتشائمة، إذ قال، إنَّ العقوبات تمثل جزءاً واحداً من جهود الإدارة لردع الغزو، وإنَّ الإدارة كانت "واضحة" بشأن احتمال أن يختار "بوتين" الغزو. وأضاف المسؤول الأمريكي أنَّ الهدف الأساسي كان محاولة إقناع الزعيم الروسي بأنَّ القيام بذلك سيؤدي إلى معارضة موحدة من الدول الغربية، مما يقوّض الاقتصاد الروسي، وبراعتها التكنولوجية في المستقبل.
التنين الصيني
هناك العديد من المخاطر الكبيرة؛ إذ من المفترض أن يكون رد الولايات المتحدة أيضاً بمثابة رسالة إلى الخصوم الآخرين. ويبدو أنَّ أكبر تلك البلدان هي الصين؛ إذ يخشى العديد من كبار المسؤولين الأمريكيين من أنَّ نهج "التعامل الناعم" مع روسيا قد يعمل على تشجيع غزو صيني لـِ تايوان. إذا خرج الاقتصاد الروسي سالماً، أو إذا انزلقت الدول الغربية في خلاف حول العقوبات الفردية؛ فإنَّ الرسالة المقصودة ستأتي بنتائج عكسية.
قال نائب مستشار الأمن القومي، داليب سينغ للصحفيين في 18 فبراير: "فكروا فيما إذا مر العدوان الروسي في قلب أوروبا دون رادع، والذي قد يكون أكبر غزو بري في حقبة ما بعد الحرب الباردة... فكّروا في الأسئلة التي سيتم طرحها حول أي الدول الأخرى التي يمكن أن تتعرض للتخويف من قبل مستبد يتطلع لممارسة مجال نفوذه... هذه تكاليف لا نرغب في تحمّلها".
لم تلقَ الحزمة الأولية من العقوبات الأمريكية - التي استهدفت بنكين روسيين يخدمان الكرملين والجيش، والنخب الروسية المقربة من "بوتين"، ومبيعات الديون السيادية الروسية في الخارج - سوى القليل من الاستحسان.
يقول المسؤولون، إنَّهم احتفظوا بإجراءات إضافية احتياطية من شأنها إحداث صدمة ورعب اقتصادي حقيقي. وتستهدف إحدى هذه الخطط قدرة البنوك الروسية المملوكة للدولة على التعامل بالدولار. قد تواجه بعض البنوك الكبرى قيوداً إضافية، مثل تجميد الأصول. كما حذّرت الولايات المتحدة أيضاً من فرض قيود على بيع البضائع التي تتضمن تكنولوجيا أمريكية معقدة مثل الرقائق الدقيقة، مما سيشكل ضربة ستضر بقطاعي الطيران والنفط في روسيا، وكذلك جيشها.
عملاق اقتصادي
تقول جوستين ووكر، رئيسة قسم العقوبات والمخاطر العالمية في "جمعية الأخصائيين المعتمدين في مكافحة غسيل الأموال": "النطاق الذي نتحدث عنه هنا غير مسبوق إلى حد ما"، في وصفها للقائمة الكاملة للإجراءات التي توعدت بها الولايات المتحدة، لكنَّها لم تطلق العنان لها بعد.
في السنوات الأخيرة، فرض المسؤولون الأمريكيون عقوبات اقتصادية على أطراف تتراوح من سياسي متقاعد في ألبانيا، إلى المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، وصولاً إلى أبناء مسؤولي الحزب الشيوعي في منطقة شينجيانغ الصينية. لكنَّ احتمال خنق الاقتصاد الروسي يمثل تحدياً أكثر صعوبة.
باعتبارها تحتل المرتبة 11 بين أكبر الاقتصادات في العالم، ودولة مسلحة نووياً؛ فإنَّ روسيا ستكون أكبر وأقوى دولة تواجه مثل هذه العقوبات المقيدة في التاريخ، إذ تعد أكبر مصدر للقمح والأسمدة في العالم، وثالث أكبر مصدر للنفط الخام والفحم، إذ توفر 40% من الطاقة في أوروبا. وهي تتمتع بحق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وكان لها دور فعال في المفاوضات النووية مع إيران وكوريا الشمالية.
تعني الأهمية الاقتصادية العالمية لروسيا أنَّ أي عقوبات من شأنها تغيير حسابات "بوتين" وتقوده إلى التراجع - مثل حظر مبيعات الطاقة، أو قطع جميع البنوك الروسية عن النظام المالي - وستجلب أيضاً ألماً كبيراً لأوروبا والولايات المتحدة.
تضيف "ووكر": "نحن لا نتحدث عن احتواء هذا في أزمة بين روسيا وأوكرانيا وأوروبا... ستصبح أزمة عالمية... وهذا هو المجال الذي ستفكر بشأنه الإدارة والحلفاء بعناية شديدة".
في هذا الأسبوع، أقر "بايدن" بالحاجة إلى تحقيق هذا التوازن، قائلاً، إنَّه سيستخدم "كل أداة تحت تصرفنا" لمنع أسعار الغاز من الارتفاع. ووفقاً لثلاثة مسؤولين مطلعين على تفكير الإدارة؛ يساعد رئيس موظفي البيت الأبيض رون كلاين في فحص القرارات الرئيسية المتعلقة بالعقوبات، من ناحية تأثيرها السياسي محلياً قبل انتخابات التجديد النصفي لعام 2022.
عقاب "سويفت"
أضافت جهود "بايدن" لدعم التحالفات الأمريكية الأوروبية تحديات جيوسياسية. وفي حين أنَّ ترمب تصرف من جانب واحد، مما أثار غضب المسؤولين الأوروبيين في بعض الأحيان؛ فإنَّ "بايدن" وفريقه يصممون على جعل تخطيط العقوبات تعاونياً، مما يحد من قدرتهم على المناورة. على سبيل المثال؛ كان على المسؤولين الأمريكيين التراجع عن الأمل المبكر في أن يفرض الحلفاء في أوروبا قيوداً صارمة على المقاصة باليورو للبنوك الروسية.
أحد الاقتراحات التي ابتعدت عنها الإدارة حتى الآن؛ يتمثل في عزل روسيا عن جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك "سويفت"، وهي قناة مراسلة آمنة تخدم أكثر من 11000 مؤسسة مالية وشركة في أكثر من 200 دولة وإقليم. من المرجح أن يؤدي اتخاذ هذه الخطوة إلى إلحاق أضرار جسيمة بالاقتصادات الأوروبية، وسبل عيش المواطنين الروس العاديين، وهو أمر كانت الإدارة تكره القيام به. وشملت الخيارات الأخرى التي تمت مناقشتها، لكن لم يتم تبنيها، مسألة الحد من صادرات الفحم الروسي واستهداف "بوتين" نفسه.
سعى المسؤولون الأمريكيون، في خطابهم العلني، إلى تضخيم التهديدات التي تتضمّنها حزمة عقوباتهم، مستغلين طموحات "بوتين" الأكبر. في هذا السياق؛ قال "سينغ" في إفادة صحفية هذا الأسبوع: "إذا أرادت روسيا عزل نفسها عن التكنولوجيا الغربية، والاقتصاد الغربي، والأسواق المالية الغربية؛ فهذا خيار استراتيجي سيئ لروسيا".
لكنَّ روسيا تخضع لعقوبات تقودها الولايات المتحدة منذ 2014، ونجت من الأضرار الدائمة. ساهمت العقوبات التي فُرضت بعد غزو روسيا لشبه جزيرة القرم، في انخفاض يقدّر بنقطتين مئويتين في الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. لكنَّ تقريراً صدر في يناير عن "خدمة أبحاث الكونغرس" أشار إلى أنَّه على المدى الطويل، كان للعقوبات "تأثير سلبي، ولكنَّه متواضع نسبياً على نمو روسيا". وقال التقرير، إنَّ ضرراً أكبر بكثير جاء من "كوفيد-19"، ومن انخفاض أسعار النفط.
التأقلم مع العقوبات
من جانبها، تقول أندريا كيندال تيلور، الزميلة البارزة في "مركز الأمن الأمريكي الجديد": "لقد تكيف الاقتصاد الروسي إلى حد كبير مع تلك العقوبات... لقد انتهجوا سياسة استبدال الصادرات المهمة للغاية في أجزاء أخرى من الاقتصاد الروسي التي تزدهر الآن". أحد الأمثلة: قطاع الزراعة في روسيا - بما في ذلك إنتاج اللحوم والأجبان – المزدهر الآن.
أما "بوتين" فكان أكثر فظاظةً، إذ قال لوكالة "إيتار تاس" في عام 2020: "هذه العقوبات تجعلنا نستخدم أدمغتنا".
لم تدفع العقوبات الأمريكية اللاحقة، التي جاءت رداً على تدخل روسيا في انتخابات عام 2016، والاختراق السيبراني لشركة "سولارويندس" (Solarwinds)، هي الأخرى، بروسيا نحو ضائقة اقتصادية. فقد أعلنت روسيا في 18 فبراير أنَّ ناتجها المحلي الإجمالي نما 4.7% في عام 2021، وهو أكبر نمو منذ عام 2008، مدفوعاً بارتفاع أسعار النفط، وانتعاش الإنفاق بعد جائحة فيروس كورونا.
اقرأ أيضاً: المملكة المتحدة تصدر أكبر حزمة عقوبات في تاريخها ضد روسيا
بالنسبة للحزمة الجديدة؛ فإنَّ التقديرات الأولية المستندة إلى القائمة العامة الكاملة لإدارة "بايدن" لمشروع العقوبات المحتملة ستلحق أضراراً اقتصادية بروسيا أقل مما فعلته إجراءات 2014. ووفقاً لمذكرة بحثية من قبل "كابيتال إيكونوميكس"؛ قد تدفع العقوبات الجديدة أسعار النفط إلى 140 دولاراً للبرميل، وهي زيادة ستفيد روسيا. قالت المجموعة البحثية، إنَّ الاقتصادات المتقدمة قد تشهد زيادة في التضخم بمقدار نقطتين مئويتين، بالنظر إلى الارتفاع الأوسع في أسعار السلع الأساسية. تنعكس الأخبار السيئة بالفعل إلى حد كبير على أسواق الأسهم الروسية، لكن يمكن أن تؤدي إلى انخفاض المؤشرات في أماكن أخرى.
"طريق قاتم"
إذا تمسك "بوتين"، واستمر في اتخاذ خطوات عدائية - كما فعل منذ أن تولى بايدن منصبه - فليس من الواضح ما هي الإجراءات الإضافية التي قد يفكر فيها قادة الولايات المتحدة. في الوقت الحالي، هم على طريق وصف بعض موظفي السياسة الخارجية المُرهقين لـ "بايدن" بنفس العبارة المكونة من كلمتين: "إنَّه قاتم". على حد تعبير أحدهم، استمرت أزمة الصواريخ الكوبية 13 يوماً. تدخل الأزمة على الحدود الأوكرانية مع روسيا شهرها الخامس. وقد لا تنتهي في القريب العاجل، ولا بشكل جيد بالنسبة للمصالح الغربية.
يقول صامويل تشراب، كبير المحللين في مؤسسة "راند" (Rand): "لا يوجد مستوى من الألم الاقتصادي يجعل خسارة أوكرانيا أمراً يمكن تحمّله بالنسبة لـِ بوتين... هذا ليس أمراً وجودياً للولايات المتحدة، بل لروسيا".