حين قررت سِفن سونغ، وهي مديرة مطعم، أن تحتفل بعيد ميلادها برحلة من بكين إلى شنغهاي لم تتردد بأن تستقل القطار بدل الطائرة، وكانت تلك أول مرة تغادر فيها العاصمة الصينية منذ الجائحة. كانت أسباب ذلك بسيطة، وهي أن السكة الحديدية العالية السرعة تتميز بأنها أرخص وأكثر ملائمة، كما أنها مريحة وأسرع لدى اعتبار جميع العوامل.
يتفق كثير من الناس في الصين على ذلك، إذ أضحت شبكة السكك الحديدية الضخمة في البلاد متطورة بشكل متزايد ومحل إعجاب القاصي والداني، إذ تنطلق القطارات السريعة بين المدن بسرعات تبلغ نحو 320 كيلومتراً في الساعة.
في يوليو وأغسطس، انطلقت 830 مليون رحلة بالقطار في الصين، وفقاً لمشغل شبكة السكك الحديدية في البلاد. وذلك بارتفاع بنسبة 13% مقارنةً بصيف 2019 قبل الجائحة، كما أنه رقم أعلى كثيراً مما يتطلبه مسافرو جميع سكان أوروبا بالقطار خلال شهرين. تكشف بيانات إدارة الطيران المدني الصينية أن خطوط الطيران سيّرت 130 مليون رحلة ركاب خلال الفترة نفسها.
رحلات أقصر
استغرقت رحلة سونغ بالقطار، التي قطعت فيها 1318 كيلومتراً، ما يربو قليلاً عن أربع ساعات، وصولاً إلى وسط شنغهاي، واستقلّت سونغ بعدها مترو الأنفاق لمدة 20 دقيقة وصولاً إلى منزل صديقتها.
رغم أن الطيران من بكين إلى شنغهاي يستغرق نحو ساعتين و15 دقيقة، فإن إجمالي مدة الرحلة أطول كثيراً إذا أخذنا في الحسبان الرحلة إلى المطارات التي تقع على أطراف المدن وفترات الانتظار الطويلة لإنهاء إجراءات السفر وركوب الطائرة واستلام الحقائب، إلى جانب خطر تأخر الرحلات لأسباب مثل سوء أحوال الطقس. هناك أيضاً إمكانية اختيار قطار ليلي أبطأ به عربات للنوم، وهو يوفر نفقات الإقامة في فندق.
بعد أن سافرت لي غويلين، الأستاذة بمعهد إدارة الطيران المدني في الصين، بالقطار لحضور منتدى عن الطيران في مدينة تشينغداو الساحلية هذا الشهر، قالت: "يمكنني أن أفعل كثيراً من الأمور في القطار غير متاحة على متن طائرة، مثل أن أكون متصلة بالإنترنت خلال الرحلة بأكملها. كما أن الأجهزة الحديثة ودورات المياه النظيفة في القطار تضاهي السفر على درجة الأعمال".
دخلت القاطرات السريعة الصين في 2008، حين استضافت بكين الألعاب الأولمبية الصيفية، بخط سريع يربط بين العاصمة ومدينة تيانجين. وفقاً لوزارة النقل الصينية، كان هناك 4194 قطاراً سريعاً بنهاية 2022 تتحرك بين مئات البلدات والمدن.
تعتزم الصين مد خطوط السكك الحديدية العاملة بإجمالي أطوال يبلغ 165 ألف كيلومتر بحلول 2025، وهو ما يكفي للدوران حول خط الاستواء بما ينيف على أربع مرات، وتشمل الشبكة 50 ألف كيلومتر من السكك الحديدية عالية السرعة. تبين بيانات وزارة النقل أن البلاد استثمرت 711 مليار يوان صيني (100 مليون دولار) في قطاع السكة الحديدية في 2022، مقارنة مع 123 مليار يوان في قطاع الطيران.
تطور هائل
شهد السفر بالسكك الحديدية في الصين تطوراً كبيراً بعد أن كان في الماضي تجربة تتسم بالازدحام والضوضاء والبطء والروائح الكريهة. تنقسم القطارات عالية السرعة، التي تنتجها في الأغلب شركة "سي آر آر سي" (CRRC)، بشكل عام إلى ثلاث درجات أعلاها درجة الأعمال، وهي تتميز بمقاعد مريحة منها ما يمكن تحويله إلى سرير مسطح في أفخم الكابينات، وبمساحات واسعة تسمح بالحركة.
قالت سونغ، 36 عاماً: "بإمكانك حتى التدخين لبضع دقائق في كل محطة".
أضحى حجز التذاكر أسهل أيضاً. في الماضي، كانت التذاكر تُتاح فقط قبل السفر بأيام قليلة، ويمكن شراؤها في المحطات فقط، ما يعني أن الناس كانوا يضطرون للانتظار لساعات وفي بعض الحالات طوال الليل ليحصلوا على تذاكر. وكان الوضع صعباً على نحو خاص خلال فترات الازدحام، مثل عيد الربيع حين يعود العمال المهاجرين وملايين غيرهم إلى بلداتهم.
أما الآن، فيمكن شراء تذاكر السكك الحديدية عالية السرعة عبر الإنترنت من خلال منصة "12306" الخاصة بشركة "تشاينا ستيت ريلواي غروب" (China State Railway Group). ولا يتطلب الأمر من المواطنين الصينيين سوى مسح بطاقات هوياتهم ليستقلّوا القطار، دون حاجة لتذكرة ورقية.
تعافي الطلب على السفر
لقد قلبت جائحة كورونا السفر رأساً على عقب بالكامل في الصين وأماكن أخرى. لكن الطلب شهد تعافياً خلال هذا العام في كلٍ من السفر البري والجوي بعدما رفعت بكين أخيراً القيود المفروضة بسبب كورونا. كان ذلك أمراً جيداً لخطوط الطيران أيضاً، إذ ارتفع مستوى حركة الركاب المسافرين جواً إلى أعلى مما كان عليه قبل الجائحة، لكن ذلك على المستوى المحلي فقط، أما السفر الدولي فما يزال أمامه طريق قبل التعافي الناجز.
بين غو تشينغ، العضو المنتدب في "إمبراير تشاينا" (Embraer China)، أن هناك بعض المناطق داخل الصين يحظى فيها السفر الجوي بميزة واضحة، مثل المناطق النائية وتلك التي تتسم بكثافة سكانية أقل، مثل شينجيانغ والتبت، وقال في مقابلة مع "بلومبرغ نيوز": "الخيار الوحيد، خيار النقل السريع، هو الطائرة".
تقع غالبية 24 مطاراً مزمع تشييده خلال خطة السنوات الخمس حتى عام 2025، في التبت وشينجيانغ.
وسيلة نقل تحظى بشعبية
كما يتطلب إنشاء السكك الحديدية في بيئات صعبة وقتاً طويلاً، فقد استغرقت المرحلة الأولى من أعمال البناء لخط سكة حديد تشونهاي-التبت، وهو أكثر الخطوط الحديدية ارتفاعاً في العالم، ما بين عامي 1958 و1984، وبدأت المرحلة الثانية منه بعد 17 عاماً في 2001، وبدأ تشغيل كامل الخط بطول 1956 كيلومتراً في 2006.
رغم ذلك، يُعد القطار في الأغلب وسيلة نقل تحظى بشعبية بين المسافرين الصينيين في عصر ما بعد الجائحة، كما أن الأغلبية ما تزال تميل لأن تبقى في البلاد.
كما تشجع الشركات منسوبيها على السفر بالقطارات بدلاً من الطيران. رغم أن حركة "فلوغسكام"، وهي عبارة سويدية تعني "عار الطيران" تعبيراً عن رفض السفر جواً لأسباب بيئية، لم تحقق حضوراً ملموساً في الصين مع أنها اكتسبت قدراً من الزخم في بعض أنحاء أوروبا، فإن بعض الشركات تفضل القطارات.
قال كالفين شي، رئيس وحدة الصين في شركة "إف سي إم ترافل" (FCM Travel) لإدارة رحلات السفر المتعلقة بالعمل: "لقد شهدنا قطعاً تحول أعداد أكبر من المسافرين إلى السكك الحديدية في السفر الداخلي"، وهي نقطة إيجابية للشركات التي تعنى ببصمتها الكربونية.
قال شي: "يشعر الناس أن السفر بالقطارات أكثر كفاءة لأن القطارات لا تتأخر عن مواعيدها. كما أن الناس لديهم إمكانية الاتصال بالإنترنت لذا يمكنهم العمل في القطار، فيما يصعب ذلك على متن طائرة".