لنفترض أنك تقاضي صاحب عملك، بسبب إصابة تعرضت لها أثناء عملك، ثم يخبرك محاميك بأن هذه الدعوى القضائية قوبلت بالرفض.
بالطبع، ستشعر بالإحباط، وتسأل عن أسباب الرفض، لتجد أن السبب يرجع لتغيّب محاميك عن تقديم الرد في الموعد النهائي. لكنك تسأل: لماذا تغيَّب محاميك عن الموعد النهائي للرد على المحكمة؟ ويكون الجواب: بسبب وجود "خلل" تقني تسبب في إرسال بريد المحكمة الإلكتروني، إلى أحد الملفات التي لا يتفحصها محاميك عادةً في صندوق بريده.
هذا ما حدث تقريباً، في قضية نظرت بها محكمة الاستئناف الأمريكية للدائرة الخامسة مؤخراً، وقرر القضاة فيها بأن الخلل لا يعد عذراً للتغيب عن الموعد النهائي، وأن المسؤولية تقع على المحامي للتحقق من الرسائل الواردة من المحكمة. ورغم قساوة هذه الإجابة بالنسبة للعميل، إلا أنه من السهل معرفة السبب الذي يجعل أي خيار آخر تتخذه المحكمة أمراً قد يفتح أبواباً للاستغلال الخاطئ. وقد واجه عشرات القضاة نفس المشكلة تقريباً، وتوصل جميعهم إلى النتيجة ذاتها إلى حد ما.
استراتيجية البريد الإلكتروني
كل هذه الأمور تقودني إلى التساؤل، عما إذا كان يتوجب علي التحقق من بريدي الإلكتروني أكثر مما أفعل حالياً، وما إذا كان يتعين عليك فعل ذلك أيضاً.
في ساحة حرب البريد الإلكتروني، ليس هناك الكثير من الحلول الوسط. فمن ناحية، ستجد أنصار "البريد الإلكتروني الصفري" الذين يزعمون أن قيم الاحتراف المهني والتنظيم الجيد تتطلب التعامل مع كل بريد إلكتروني. وعالم المدونات الإلكترونية مليء بالنصائح حول كيفية إبقاء صندوق الوارد فارغاً.
ومن جهة أخرى، ثمة نهج أطلقت عليه الصحافية تايلور لورنز، اسم "البريد الإلكتروني اللامتناهي"، وهو يعتمد بمفهومه على سمات شخصية الفرد وفكرة قبول واقع أنه لا يمكننا على الإطلاق تفقد كل البريد الوارد، وستبقى هناك رسائل غير مقروءة دائماً.
في الحقيقة، هذا هو المسار الذي أميل إلى الانضمام إليه. فبالرغم من وجود مجموعة متنوعة من خصائص التصفية في البريد الإلكتروني التي تساعد على التخلص من الرسائل غير المرغوب فيها تلقائياً، إلا أن عدد الرسائل الإلكترونية غير المقروءة في صندوق بريدي، هو رقم من ست خانات. ويبدو أن هناك رفقاء جيدين يشاركونني هذا الحال، فحتى ميرلين مان، وهو الشخص نفسه الذي صاغ مصطلح "البريد الإلكتروني الصفري"، يعترف بأن بريده الإلكتروني "مزدحم بشكل محرج".
تفويت الرسائل الهامة
في عالم الأعمال، ستجد هذه المشكلة موجودة في كل مكان، حيث يعيش المهنيون في خوف سري، من احتمالية تفويتهم لأحد الرسائل العاجلة من العملاء أو الرؤساء، بسبب كثرة الرسائل المتراكمة. وهو الأمر الذي يفسر التبني الواسع لبدائل التواصل الأخرى في المجال. ومع ذلك، تبرز هذه القضية في كل مكان.
في أواخر يوليو، انتقد حاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسوم بسبب انتهاك القواعد الوبائية التي وضعها بنفسه. وسحب إثر ذلك، أطفاله من مخيم صيفي، بعد نشر تقارير إخبارية تفيد بأن المنظمين لم ينفذوا قيود ارتداء الكمامات الطبية، وأن ذلك حدث رغم إخطار أولياء الأمور بسياسة المخيم بشأن الأقنعة قبل الفعاليات، لكن المتحدث باسم نيوسوم، أوضح أن "رسالة البريد الإلكتروني فوتت قراءتها". وهذا التبرير أثار سخرية النقاد، لكن أولئك الذين يفوتون قراءة الكثير من رسائل البريد الإلكتروني، قد يتعاطفون مع الأمر.
البريد واضح من عنوانه
في بيئة الرسائل الكثيرة غير المرغوب فيها، يمكن أن يتسبب العنوان، إذا لم يكن جاذباً للانتباه بما يكفي، في أن تتخطى رسالة بريد إلكتروني مهمة.
وبهذا الشأن، قالت شانا ويلسون، الفنانة الكندية التي رسمت صورة "شخصية العام" لروث بادر غينسبيرغ لصالح مجلة "التايم" في عام 2020، خلال مقابلة مع شبكة "سي بي سي"، بأنها في البداية "تجاهلت" دعوة البريد الإلكتروني من المجلة الشهيرة، لأن خانة العنوان كانت تقول فقط: "رسالة من التايم".
في هذا الإطار، ينصح أحد أصدقائي، وهو من الروائيين الأكثر مبيعاً، الكُتّاب بأن لا يتجاهلوا رسائل القراء على الإطلاق. فسواء كانت ودية أم لا، مُسيئة أم مفعمة بالمشاعر، فإنه يجب أن يتلقى الجميع إجابات فردية، على رسائلهم.
هذا النهج، كما يقول، سيعود بنفع كبير على سمعتك، وستنتشر كلمات حول مدى لُطفك، وروعتك. وحتى أن العدد القليل من النقاد الذين يرسلون رسائل إلكترونية للكتّاب، ربما يقولون لأصدقائهم: "حسناً، لقد كان هذا الكتاب مريعاً، لكن على الأقل فإن الكاتب رد على مراسلاتنا البريدية". أرى أن الأمر عادل بما فيه الكفاية.
حدد أولوياتك
من ناحية أخرى، ترى الصحافية لورنز، بأن محاولة قراءة كل بريد إلكتروني في صندوقك سيضعك تحت رحمة أولويات الآخرين، بدلاً من إتاحة المجال لك لتحديد أولوياتك الخاصة. ويمكن الإضافة حتى بأننا عندما نطور عادة تفحصّ بريدنا الإلكتروني بشكل متكرر، فإن الأمر يتحول لعادة آلية مرتبطة بنشاطنا الفيزيولوجي.
وفي كتابها الرائع "كلمات على شاشة" لعام 2015، تشير أستاذة اللغويات نعومي بارون إلى أنه في كل مرة نسمع فيها الإشعار "النغمة" الخاصة بالبريد الإلكتروني، "فإن أدمغتنا تُفرز مادة الدوبامين، وهو ناقل عصبي يسبب الإدمان، ويجعلنا نرغب دائما بالعودة للمزيد". وتضيف بنبرة لا تخلو من السخرية: "عليك أن تختار أيهما تفضل: الاستمرار في أن تبقى وفياً على طريقة رسالة "دفاع سقراط" لأفلاطون، أم الحصول على جرعة من الدوبامين؟"
أعترف أنني سأختار أفلاطون. وهكذا انتهى بي المطاف مع 200 ألف رسالة غير مقروءة في بريدي الإلكتروني.
وصحيح أن ترك بريدي الوارد يزدحم بالرسائل أمر يكلفني الكثير . وقد أفوّت نتيجة لذلك عناوين إخبارية مهمة، أو رسائل تذكير بمواعيد طبية، أو تفقد من أحد الأصدقاء القدامى، وأحياناً إعلانات فرص لمنح دراسية جديدة مثيرة للاهتمام، أو دعوات لإلقاء محاضرات، وحتى إني قد أفوت أحياناً، ملاحظات من محرري!
لكن، كما اعتادت والدتي الراحلة أن تقول:
إذا كان الأمر مهماً جداً، ويتعلق بك، فإن أحدا ما سيعثر عليك
وفي الوقت الحالي، من المحتمل أن يرسل هذا الـ"أحد ما" ما يريده إليك عبر البريد الإلكتروني. ومع ذلك، فإنني أجني فوائد من عدم تفقد بريدي الإلكتروني بانتظام. فأنا أفوّت أيضاً الكثير من الرسائل غير المرغوب فيها، مثل تلك التحذيرات السخيفة اللانهائية والتي تشعرك بأن السماء ستسقط بلا شك غداً، إذا لم تقم باستثمار 25 دولاراً أو أكثر، في هذه الليلة بالتحديد. وبالمجمل، أعتقد أنني أجني فوائد أكثر من الأضرار، في معركة البريد هذه.
ربما، يرجع الأمر إلى أن حياتي المهنية تتركز حول التعليم والكتابة، ويمكنني أن أفهم، كيف قد تتطلب المهن الأخرى، عقلية مختلفة.
وهو ما يقودني لأمر مثير للسخرية، فبصفتي بروفيسور يعلّم القانون، يمكنني الإفلات من تفويت معظم رسائل البريد الإلكتروني دون مواجهة الكثير من العواقب. بينما أدرب الطلاب على دخول مهنة، هي كما ذكّرتنا محكمة الدائرة الخامسة مؤخراً، لا تسمح أبداً للعاملين فيها بمثل هذه الرفاهية.