تبتلع المحيطات المساحة الأكبر من كوكب الأرض، أو ما يُعرف بـ"الكوكب الأزرق"، لكن المفارقة أن مياه المحيطات غير صالحة للشرب، ولعل هذا يفسر الجهود الكبيرة المبذولة لإزالة الأملاح منها، عبر عملية تُعرف باسم "تحلية المياه"، والتي بدأت في خمسينيات القرن العشرين، وتقوم بها 20 ألف منشأة تقريباً اليوم في عدة دول من الصين إلى المكسيك، بهدف مواكبة سرعة تزايد السكان وتوفير احتياجاتهم من الماء.
وعلى الرغم من منافع هذه العملية الكيميائية الحديثة، إلّا أنها لا تزال موضع بحثٍ؛ لمواجهتها العديد من الانتقادات بشأن ما إذا كانت المنافع التي تقدمها مسوغاً لضررها المحتمل على البيئة البحرية، ومساهمتها في الاحتباس الحراري.
كيف تتم عملية التحلية؟
أدرك اليونانيون القدماء أن غلي ماء البحر يُنتج بخار ماءٍ صالحٍ للشرب، وقد استخدم البحارة في القرن الثامن عشر الإسفنج لالتقاط بخار الماء وشربه لتخفيف عطشهم خلال الرحلات طويلة. وبالطريقة ذاتها تقريباً بدأت عمليات التحلية الحديثة، حيث إن الخطوة الأولى لهذه العملية هي غلي الماء (باستخدام الحرارة الناتجة عن حرق النفط أو الغاز الطبيعي)، ومن ثم يتم تكثيف قطرات المياه العذبة، وتُعرف هذه العملية بتحلية المياه الحرارية.
وفي الفترة الأخيرة، انتشرت تقنيات أنظف وأكثر كفاءة في استخدام الطاقة لتحلية المياه، مثل "التناضح العكسي"، الذي يتم بتمرير مياه البحر عبر أغشية بلاستيكية تعمل على إزالة الأملاح والشوائب الأخرى من الماء، إلّا أن دول الشرق الأوسط لا تزال تعتمد على الوقود الأحفوري في تشغيل المحطات الحرارية للتحلية، التي توفر ثلثي احتياجاتها من المياه. ووفقًا لـ "الوكالة الدولية للطاقة" (International Energy Agency)، فإن 90% من عمليات معالجة مياه البحر حرارياً في العالم تتم بمنطقة الشرق الأوسط.
كم تبلغ كمية المياه الصالحة للشرب التي يتم إنتاجها بهذه الطريقة؟
بلغت القدرة الإنتاجية لنحو 18 ألف مصنع لتحلية مياه البحر، اعتباراً من عام 2015، ما يقارب 86.55 مليون متر مكعب يومياً، أي نحو 1% من احتياج العالم للماء، وتم إنشاء 2000 مصنع تحلية إضافي تقريباً منذ ذلك الحين.
وتنتج المملكة العربية السعودية، الحصة الأكبر من المياه المُحلاة، وتبلغ خُمس إجمالي الإنتاج العالمي، تليها الولايات المتحدة الأمريكية والإمارات العربية المتحدة والصين وإسبانيا والكويت، (ونظراً لأن دول الخليج العربي تستخدم معظم مصادر مياهها الجوفية المحدودة في الزراعة، فهي تعتمد بشكلٍ كبير على عملية التحلية لتزويد سكانها والقطاعات الصناعية فيها بالمياه).
وتنفق الحكومات والشركات ما يصل إلى 14 مليار دولار سنوياً لتحلية مياه المحيط والمياه المالحة وجعلها صالحة للشرب. ووفقًا لـ"الجمعية الدولية لتحلية المياه" (International Desalination Association)، فإن مجموعة "سويز آند فيولا" (Suez and Veolia Group) في فرنسا، و"شركة دوسان للصناعات الثقيلة والإنشاءات" (Doosan Heavy Industries & Construction Co) في كوريا الجنوبية، هما أكبر شركتين بالعالم لإنشاء محطات التحلية ذات القدرة المركبة.
كم تبلغ تكلفة هذه العملية؟
خلال الثلاثين عاماً الماضية، انخفضت تكاليف عمليات التحلية لأكثر من النصف بفضل التطورات في التكنولوجيا والاستخدام الفعال للطاقة. ووفقاً لـ "ميغيل أنجيل سانز" (Miguel Angel Sanz)، رئيس "الجمعية الدولية لتحلية المياه"، فإن تكلفة إنتاج متر مكعب واحد من المياه المعالجة، تتراوح حالياً ما بين 50 و90 سنتاً، علماً بأن تكلفة تحلية المياه في السعودية والإمارات هي الأدنى.
ويعود تراجع تكلفة تحلية المياه في السعودية والإمارات إلى أسعار الطاقة المنخفضة نسبياً ووفورات الحجم (أي انخفاض تكلفة الوحدة المنتجة مع زيادة كمية الإنتاج)، والتي تميّز منشآتها الكبيرة. وبالإضافة لما سبق، فإن الزيادة في استخدام الطاقة الشمسية وطاقة الرياح في تلك الدول لتنفيذ عملية تحلية المياه، قد تجعل تكلفتها أقل.
إذاً فما المشكلة؟
ركزت الانتقادات في السابق على المخلفات السائلة عالية الحرارة، التي تصبها محطات التحلية الحرارية في البحار مما يؤدي إلى قتل الشعاب المرجانية وغيرها من الكائنات البحرية. وبحسب "الجمعية الدولية لتحلية المياه"، فإن محطات التحلية تقوم الآن بتبريد هذه المحاليل شديدة الملوحة بحيث لا تشكل أي خطر على البيئة.
ومن المخاوف البيئية الأخرى التي تتناولها الانتقادات، استخدام الوقود الأحفوري كمصدر للطاقة اللازمة لعملية التحلية، خصوصاً في دول الشرق الأوسط. كما أثارت دراسة نُشرت في يناير 2019 جدلاً جديداً حول "المواد الكيميائية السامة" الموجودة في هذه المحاليل شديدة الملوحة، التي تقوم محطّات التحلية بصبها في المحيطات.
ما الذي يجعل المحاليل شديدة الملوحة مضرة بالبيئة؟
وفقاً لدراسة أجراها معهد "هاميلتون" (Hamilton) في كندا، التابع لجامعة الأمم المتحدة للمياه والبيئة والصحة، فإن المحاليل شديدة الملوحة قد تحتوي على بقايا ضارة من المواد الكيميائية، التي تستخدمها محطات التحلية لمنع الترسب وتشكل القاذورات في المياه. إضافة إلى أن المحاليل شديدة الملوحة التي نتجت في السعودية والإمارات والكويت وقطر معاً، تشكّل 55% من المحاليل شديدة الملوحة في العالم.
وقال "منظور قادر"، أحد معدّي الدراسة، إن الملوثات التي تخلّفها عملية التحلية سنوياً تكفي لتشكيل طبقة من المحلول الملحي بسمك 30 سم تغطي ولاية فلوريدا بأكملها، كما يمكن لهذا المحلول أن يستنفد الأوكسجين الموجود في المياه المحيطة، مما يؤدي إلى اختناق الكائنات البحرية وإحداث خلل في السلاسل الغذائية.
وقامت بعض المحطات بتخفيف المحاليل شديدة الملوحة عبر توزيعها فوق مساحات كبيرة من البحر أو عبر معالجتها لاستخراج المعادن الثمينة منها، لكن المشكلة أن مثل هذه الأساليب تعد صعبة تقنياً ومكلفة مادياً.
هل هذه الانتقادات صحيحة بالفعل؟
"سانز" من "الجمعية الدولية لتحلية المياه"، قال إن الدراسة فشلت في التمييز بين تقنيات التحلية الحرارية والغشائية، حيث أظهرت "نقصاً واضحاً في إدراك المعلومات الصحيحة"، كما أن الدراسة تعبّر عن "رأي بعض الأفراد العاملين في جامعة"، ولا تمثّل وجهة نظر رسمية للأمم المتحدة فيما يتعلّق بتحلية المياه.
هل يمكن أن تتم تحلية المياه دون الإضرار بالبيئة؟
تقع بعض محطات التحلية في مناطق بعيدة عن المسطحات البحرية، وفي هذه الحالة يتم التخلص من المحاليل شديدة الملوحة في أحواض تبخير أو مدافن تحت الأرض أو تحويلها إلى طين تتم معالجته وتحويله إلى ملح جاف، ومن ثم التخلّص منه.
ويبدو أن اعتماد تقنية الأغشية بشكلٍ أوسع في عمليات التحلية، في الشرق الأوسط خاصة، هو الطريقة المثلى للحد من المحاليل شديدة الملوحة المشبعة بالمواد الكيميائية؛ لذلك فإنّ جميع المحطات الجديدة تقريباً التي يُخطّط لإنشائها في المستقبل ستعتمد طريقة "التناضح العكسي" في عملها. ويتوقّع استمرار هذا النهج مع قيام الحكومات الخليجية، الساعية إلى تخفيض التكاليف، بتقليص الدعم على الوقود الأحفوري، مما يحد من قدرة محطات التحلية الحرارية على المنافسة، ويسهم بالتالي في انتشار استخدام التقنيات الغشائية في تحلية المياه.
هل تستطيع الدول الصحراوية الاستغناء عن عملية تحلية المياه؟
بالنظر إلى الوضع الحالي، لا تزال تحلية مياه البحار وجعلها صالحة للشرب ضرورية. فوفقاً لتقرير نشرته هيئة البيئة في أبو ظبي عام 2017، ستنفد إمدادات المياه الجوفية الطبيعية في إمارة أبو ظبي - التي تعدّ أكبر إمارة في دولة الإمارات - خلال "بضعة عقود"، وذلك بالاستناد إلى معدلات الاستهلاك الحالية. ومع ذلك، فإن الطلب المتزايد على الموارد المائية المحدودة يساعد على توليد أفكار جديدة متعلقة بإنتاج الغذاء وتحلية المياه.
وعلى سبيل المثال، يقوم المركز الدولي للزراعة الملحية في دبي بإعادة تدوير المحاليل شديدة الملوحة لري النباتات القادرة على تحمل الأملاح، مثل "نبتة الأشنة"، التي يمكن تناولها أو استخدامها كوقود حيوي، كما يقوم المركز أيضاً بإنتاج وتطوير المحاصيل الغذائية التي يمكن زراعتها في التربة المالحة الصحراوية، مثل "الكينوا".