التضاريس والبيئة القاسية ونقص المهندسين ذوي الخبرة بالقمر والحاجة إلى تعديلات دقيقة في اللحظة الأخيرة زادت من التحديات

لماذا استغرقت الولايات المتحدة 51 عاماً للعودة إلى القمر؟

جون يونغ، قائد مهمة الهبوط على سطح القمر "أبوللو 16"، وهو يقف على سطح القمر عام 1972. - المصدر: بلومبرغ
جون يونغ، قائد مهمة الهبوط على سطح القمر "أبوللو 16"، وهو يقف على سطح القمر عام 1972. - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

لأول مرة منذ عام 1972، تعود الولايات المتحدة إلى القمر. ففي تمام الساعة 6:23 مساء الخميس بتوقيت نيويورك، قامت شركة "إنتويتيف ماشينز" (Intuitive Machines) بإنزال مركبة فضائية روبوتية على القمر، وأصبحت بذلك أول شركة خاصة تنزل مركبة سليمة على سطحه.

دفعت وكالة ناسا ما يقرب من 118 مليون دولار لإنجاز هذه المهمة، ونشرت بعد ذلك تهنئة على منصة التواصل الاجتماعي "إكس"، تقول: "لقد تم تسليم طلبك.. إلى القمر!"، وفي النهاية، تعتزم شركة "إنتويتيف ماشينز" إرسال مركبتين إضافيتين للهبوط على القمر بالشراكة مع ناسا.

مع تنامي الطموحات الفضائية الوطنية وتوسع الأنشطة التجارية في مجال الفضاء، تسابقت الشركات على الفوز بلقب صاحبة أول مركبة خاصة تهبط سالمة على سطح القمر. لم تنجح أي منها حتى اليوم. فقد حاولت ذلك شركة إسرائيلية غير ربحية، هي "سبيس إيل" (SpaceIL)، في عام 2019، لكن مركبتها وصلت بسرعة كبيرة وتحطمت على السطح. وفي العام الماضي، فقدت شركة "آي سبيس" (Ispace)، ومقرها في طوكيو، الاتصال بمركبتها. وفي يناير، تعرض مسبار شركة "أستروبوتيك" (Astrobotic)، ومقرها في بيتسبرغ، لعطل في المحرك بعد وصوله إلى الفضاء مباشرة.

بيئة قاسية ونقص في الخبرات

بما أن الولايات المتحدة نجحت في إنزال البشر على سطح القمر منذ نصف قرن؛ فلماذا تواجه الشركات وحتى الدول صعوبة في القيام بذلك مرة أخرى؟

إن بيئة القمر قاسية؛ ومن الصعب تصميم مركبة فضائية تستطيع أن تتجول على سطحه. ومن المستحيل تقريباً تكوين بيئة مشابهة لها على الأرض لاختبار المركبات. كما أن موارد الشركات الخاصة تتضاءل مقارنة بالموارد التي توفرت لوكالة ناسا في ستينيات القرن الماضي: أي صندوق التمويل الهائل الذي تضخمت موارده ذات يوم إلى ما يقرب من 4% من إجمالي الميزانية الفيدرالية الأميركية.

ربما تمثلت العقبة الأكبر في مهندسي وشركات القرن الحادي والعشرين الذين لا يمتلكون الخبرة أو أن خبراتهم قليلة للغاية في مجال إطلاق مركبات القمر. لقد مرّ أكثر من 50 عاماً منذ تصميم وإرسال مركبات للهبوط على سطح القمر، لذلك كانت الشركات تبدأ من لا شيء تقريباً وتعمل بتقنيات جديدة.

وقال فيليب ميتزغر، عالم فيزياء الكواكب في جامعة "سنترال فلوريدا" في مقابلة: "نقول إننا كنا هناك من قبل، لكن هذا ليس صحيحاً بالنسبة لهذه الشركات. إنها في الحقيقة تكنولوجيا جديدة يجري إنضاجها وتطويرها الآن إلى حد الإتقان".

العودة إلى القمر

حولت ناسا اهتمامها بعيداً عن القمر بعد مهمة "أبوللو" الأخيرة في عام 1972 للتركيز على مكوك الفضاء ومحطة الفضاء الدولية وأهداف أخرى. وقد اقترحت إدارات أميركية مختلفة العودة إلى القمر، لكن برامجها لم تنج من المعارصة السياسية. ولكن في عام 2017، شجع الرئيس دونالد ترمب وكالة ناسا على إطلاق مبادرة "أرتميس" لإرسال البشر إلى القمر مرة أخرى.

تهدف وكالة الفضاء إلى التواجد بشكل مستدام على القمر، مدعية أن تعلم العيش والعمل هناك سيساعد في نهاية المطاف على السماح للبشر باستكشاف النظام الشمسي.

وهذا يعني الكثير من العقود الحكومية المدرة للأرباح. وعلى عكس حقبة "أبوللو"، تمتلك الشركات الخاصة حالياً القدرة على الوصول إلى هناك؛ مع قليل من المساعدة من وكالة ناسا. فقد دخلت كل من "إنتويتيف ماشينز" و"أستروبوتيك" في شراكة مع برنامج "الخدمات القمرية التجارية" (CLPS) التابع لوكالة الفضاء، والذي صُمم للمساعدة في تشجيع تطوير المركبات الفضائية التجارية ضمن مبادرة "أرتميس".

ومع ذلك، ما تزال هناك تحديات مادية تواجه استكشاف القمر. ذلك أن مجرد السفر عبر فراغ الفضاء للوصول إلى القمر هو معاناة في حد ذاته. إذ يجب على المركبات الفضائية أن تتعامل مع التقلبات الشديدة في درجات الحرارة، اعتماداً على تحديد أي أجزاء المركبة هي التي تواجه الشمس، وغالباً ما تتعرض المركبة الفضائية لهجوم الأشعة الكونية؛ وهي جسيمات مشعة تتدفق من الشمس أو من الفضاء السحيق، ويمكنها بسهولة أن تحرق الأجهزة الإلكترونية غير المحمية جيداً.

اصطدام المركبات بسطح القمر

يبلغ عرض القمر ربع عرض كوكبنا تقريباًً، وجاذبيته أقل بكثير بشكل عام، مما يجعل المناورة صعبة على المركبة في مداره. كما أن تضاريسه الوعرة والتجاويف وعوامل أخرى توزع الجاذبية توزيعاً غير متساوٍ.

وقال ميتزجر: "عندما تدور حول القمر، سينتهي بك المطاف إلى الاصطدام به، لأن الجاذبية غير المستوية ستجعل المدار الذي تتحرك فيه مضطرباً. وبسبب ذلك، يجب أن يكون لديك نظام للملاحة يحدد مكانك بدقة ويمكنه التكيف معه في نفس اللحظة".

وعلى عكس الأرض، التي تتميز بغلاف جوي يساعد على حماية المركبات الفضائية العائدة من القمر من السقوط، فإن القمر بلا أي غلاف جوي تقريباً. وللهبوط على سطحه، يجب أن تستخدم جميع المركبات الفضائية عملياً شكلاً من أشكال المحركات الصاروخية حتى تقترب برفق من سطح القمر. يجب على المركبات الفضائية أن تشغل محركاتها بدقة بحيث تتوقف تقريباً فوق السطح مباشرة. وإلا فإنها تخاطر بالاصطدام.

كل هذا يتطلب أن تتعرف المركبة الفضائية على ما ستهبط عليه. وغالباً ما تعتمد المركبات الروبوتية على المعلومات التي تجمعها أجهزة الاستشعار في المركبة، بالإضافة إلى صور المنطقة المستهدف الهبوط عليها التي يتم جمعها مسبقاً، وهي غالباً ذات مستوى ضعيف من الدقة. وما يزيد الأمور تعقيداً هو بُعد القمر عن الأرض. فعادة ما يكون هناك تأخير لبضع ثوانٍ عند إرسال الأوامر إلى هذه المركبات الفضائية.

أعطال الأجهزة وأخطاء التقدير

تقول آدي دوف، الأستاذة المساعدة في جامعة "سنترال فلوريدا" التي تعمل في إحدى مهام الهبوط على سطح القمر: "عليك القيام بكل ذلك بشكل مستقل. ولا توجد طريقة لأي بشري يصحح الأوضاع فوراً، بسبب السرعة التي يحدث بها كل ذلك".

ويمكن أن يؤدي ذلك إلى مشكلات مثل تلك التي واجهت شركة "آي سبيس" في عام 2023. فقد اكتشفت في نهاية المطاف أن مركبة الهبوط على سطح القمر عانت من خلل برمجي وأخطأت في تقدير ارتفاع التضاريس في الأسفل، مما تسبب في نفاد الوقود وتحطمها.

وفي بعض الأحيان يحدث عطل في الأجهزة. ففي يناير، قامت وكالة استكشاف الفضاء اليابانية بإنزال "المركبة الفضائية الذكية لاستكشاف القمر" (Smart Lander for Investigating Moon) على بعد 55 متراً (180 قدماً) من نقطة الهبوط المستهدفة. وقد أدت مشكلة، واضح أنها كانت في المحرك، إلى هبوط المركبة على رأسها، بدلاً من جانبها. وعلى الرغم من هبوطها سليمة، فقد انتهت مهمتها مبكراً لأنها لم تتمكن من إعادة شحن ألواحها الشمسية بشكل صحيح.

القطب الجنوبي للقمر

واجهت شركة "إنتويتيف ماشينز" صعوبة أخرى تمثلت في الهدف المحدد لها. ففي الأصل، كانت الشركة تأمل في الهبوط بالقرب من خط استواء القمر المسطح نسبياً، وهو المكان الذي هبطت فيه جميع بعثات "أبوللو". لكن وكالة ناسا طلبت من الشركة تغيير موقع الهبوط إلى منطقة القطب الجنوبي للقمر؛ وهي البقعة التي كانت تتطلع إليها العديد من الدول، واقتربت منها الهند بهبوط مسبارها "تشاندرايان 3" في أغسطس الماضي بعد فشل محاولة روسية.

تؤكد البيانات التي جمعتها المركبات الفضائية الروبوتية التي تزور القمر أن العديد من تجاويف القطب الجنوبي قد تحتوي على جيوب من المياه في صورة جليد. ومن المحتمل أن تكون ناسا وغيرها من الجهات الأخرى مهتمة باستخراج هذا الجليد، الذي يمكن استخدامه مياهاً للشرب أو لري المحاصيل. وإذا ما تم تحليل الماء إلى مكوناته الأولية -الهيدروجين والأكسجين- يمكن أن يستخدم أيضاً كوقود لدفع الصواريخ في المستقبل. ولكن يبقى أن نعرف مقدار الجليد الموجود وحالته.

في نهاية المطاف، تأمل وكالة ناسا في إنزال رواد الفضاء ضمن مبادرة "أرتميس" في المستقبل في هذه المنطقة وتعتمد على أول رؤية أميركية من أرض الواقع من المركبة التابعة لشركة "إنتويتيف ماشينز". فالمنطقة مليئة بالتجاويف، والوصول إلى هناك من المدار أصعب من الوصول إلى منطقة خط استواء القمر. وقد تطلب تغيير موقع الهبوط إجراء تحليل وتخطيط هندسي إضافي؛ تقريباً مثل التخطيط لمهمة جديدة تماماً.

وقال دوف: "سنذهب إلى أماكن مختلفة تماماً على القمر لم نذهب إليها من قبل. إذ إن حديثنا عن استكشاف القمر يشبه القول بأننا استكشفنا القارة القطبية الجنوبية بأكملها أو أفريقيا كلها في حين أننا لم نذهب إلا إلى سواحلها فقط".

وعلى الرغم من تعرض المركبات الفضائية التي تستكشف القمر لاختبارات على الأرض لعدة سنوات، فإن الطريقة الوحيدة لمعرفة ما إذا كانت ستنجح هي اختبارها في الفضاء. ولكن حتى ذلك له حدوده.

وقال ميتزجر: "إذا تعطلت مهمتك أكثر مما ينبغي، سيجبرك السياسيون على التوقف عن المحاولة. وإذا كانت تلك المحاولة لأغراض تجارية، فإن المستثمرين ينسحبون. لذلك، لا يوجد لديك عدد لا نهائي من فرص المحاولة".

بالنسبة لشركة "إنتويتيف ماشينز"، يبدو أن المحاولة الأولى قد نجحت. وعلى حد تعبير مدير ناسا بيل نيلسون، فإن هذا الإنجاز "يُظهر قوة شراكات ناسا التجارية وما تعد به".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
تصنيفات

قصص قد تهمك