في غضون عقدين فقط، أرسلت الصين أشخاصاً إلى الفضاء، وبنت حاملة طائرات، وطوَّرت طائرة شبح مقاتلة، والآن تستعد القوة العظمى الأصغر عمراً في العالم لإثبات قدراتها مرة أخرى، وهذه المرة في أشباه الموصلات.
وما هو على المحك هنا، هو مستقبل الاقتصاد الثاني على مستوى العالم. ووضعت بكين مخططها للتفوق في مجال الرقائق ضمن رؤيتها الاقتصادية الخمسية المقرر الكشف عنها خلال قمة كبار القادة في العاصمة الأسبوع الجاري، وهي استراتيجية براغماتية متعددة المستويات وطموحة في نطاقها، وتتطلَّع إلى استبدال أكبر المورِّدين في الولايات المتحدة والتصدي للعقوبات، وفي الوقت نفسه، تشكيل أبطال محليين في التقنيات الناشئة.
وتريد الصين بناء زمرة من عمالقة التكنولوجيا التي يمكنها الوقوف كتفاً بكتف مع "إنتل كورب"، وشركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات، بجانب إعطاء هذه الجهود الأولوية نفسها التي منحتها لبناء قدرتها الذرية.
وبرغم أنَّ تفاصيل هذا المسعى لن تظهر قبل عدة أشهر، فإنَّ تعليقات المسؤولين الحكوميين، وأبواق الحزب مثل صحيفة "بيبلز دايلي" (People’s Daily)، ومراكز الأبحاث الحكومية تقدِّم إشارات مهمة حول خريطة الطريق المتصوَّرة.
الاستفادة من المكونات القديمة
ويتضمَّن النهج خلال السنوات الخمس المقبلة أو نحو ذلك تحقيق أقصى استفادة من أشباه الموصلات القديمة المناسبة للسيارات الكهربائية حتى التطبيقات العسكرية، ولكن لا يمكنها تشغيل الهواتف الذكية المتقدِّمة والأجهزة المماثلة، وهذا يُكسِب الصين وقتاً للتركيز على مجال مثل صناعة الرقائق من الجيل الثالث، الذي
لايهيمن عليه أي بلد بعد.
وتأمل بكين في إنشاء مجموعة من العمالقة المحليين في مجالات تشمل الآلات، والبرمجيات، والمواد الجديدة، ويتمثَّل الهدف النهائي في تهيئة بدائل محلية للشركات الحيوية العالمية مثل "كادنس إنك" (Cadence Inc)، و"سينوبسيس" (Synopsys Inc)، لتصميم البرامج، و"إيه إس إم إل هولدينغ" (ASML Holding NV) الأوروبية لتصنيع معدات صناعة الرقائق.
وقال وزير العلوم والتكنولوجيا، وانغ تشيغانغ، في مؤتمر صحفي الأسبوع الماضي: "تعدُّ أشباه الموصلات قطاعاً مهماً في عصر المعلومات، الذي سيقود مستقبل التنمية الاقتصادية.. وستسعى الصين جاهدة لتحقيق اعتمادها على الذات، وتعزيز قدراتها الخاصة".
التحالف مع القطاع الخاص
كانت بكين قد خصَّصت في بداية خطتها الخمسية السابقة حوالي تريليون يوان (155 مليار دولار) للاستثمار المحتمل في أشباه الموصلات على مدى خمس إلى عشر سنوات، وفقاً لـ "ماكنزي".
وقال وزير العلوم والتكنولوجيا الصيني الأسبوع الماضي، إنَّ بلاده ستواصل الآن تمويل الأبحاث والاستثمار في السنوات القادمة، وأضاف أنَّ الصين ستزيد الدعم المالي للبحوث العلمية، وستشجع الشركات الرائدة على الانضمام إلى البرامج الوطنية، مما قد يحفِّز التدفق الأكبر بكثير لرأس المال الخاص المطلوب لتحقيق إنجازات حقيقية.
وقد تمَّ تطبيق مثل هذا النهج من قبل لتطوير الإنترنت، إذ ساعد مزيج رأس المال الحكومي والخاص في بناء أمثال مجموعة "علي بابا"، وعملاق مشاركة السيارات "ديدي شوكينغ إنك" (Didi Chuxing Inc).
وفي فبراير، أفادت صحيفة "جلوبال تايمز" المدعومة من الدولة أنَّ صانعة الهواتف الذكية "شاومي كورب"، و"أوبو" استحوذتا على حصص في "جيانغسو تشانجينغ إلكترونكس تكنولوجي كو" (Jiangsu Changjing Electronics Technology Co)، في مثال على نوع الشراكة مع القطاع الخاص الذي تعتمد عليه بكين.
وتقول ويندي ليوتيرت، رئيس اقتصاديات وتجارة الصين في جامعة إنديانا، إنَّه فيما يتعلَّق بالرقائق، "سنرى المزيد من الدعم للشركات الخاصة، لأنَّها تلعب دوراً أكبر في هذه القطاعات".
الصين أمام التحدي الضخم
وأصبحت جهود الصين في هذا الإطار أكثر إلحاحاً في الوقت الحالي، لأنَّ حكومة بايدن تصعد المعركة ضد ما تسميه "الأنظمة الاستبدادية التكنولوجيا"، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى تمديد أو حتى توسيع القوائم السوداء التي حظرت المعاملات الرئيسية مع الشركات بدءاً من "هواوي تكنولوجيز كو"، و"بايت دانس ليمتد" إلى "تنسينت هولدينغز ليمتد".
وبالنسبة لبلدٍ يستورد رقائق بقيمة 300 مليار دولار سنوياً، يؤدي النقص العالمي المتفاقم في معروض الرقائق إلى زيادة مخاطر الاعتماد على مورِّدين للمكونات الأساسية لكل شيء بدءاً من الذكاء الاصطناعي حتى شبكات الجيل السادس، والمركبات ذاتية القيادة.
وقد يستغرق الأمر سنوات حتى تتمكَّن الشركات المحلية من مضاهاة النظراء العالميين في خبرة التصنيع والتصميم، وخلال هذه المدة لا يوجد حل جاهز لهيمنة الأسماء اليابانية والأمريكية على معدَّات صناعة الرقائق.
ويقدِّر المحلل لدى "آي دي سي"، ماريو موراليس، أن تورِّد الشركات الصينية 35% فقط من الطلب المحلي على الرقائق بنهاية العقد الجاري.
ويتعيَّن على تلك الشركات أيضاً التعامل مع واشنطن بعد أن أشارت الولايات المتحدة إلى أنَّها تعتزم المضي قدماً الشهر المقبل في قاعدة اقترحتها حكومة ترمب لتأمين سلسلة توريد القطاع التكنولوجي، وهي خطوة ستعطي وزارة التجارة سلطة واسعة لمنع الصفقات التي تتضمَّن "خصوم أجانب" مثل الصين.
وأوصت لجنة الأمن القومي الأمريكي للذكاء الاصطناعي التي يترأسها رئيس مجلس إدارة "غوغل" السابق، إريك شميدت، بايدن والكونغرس الأسبوع الجاري قائلة، إنَّه "يتعيَّن على الولايات المتحدة وحلفائها استخدام ضوابط التصدير التي تستهدف معدَّات تصنيع أشباه الموصلات عالية التكنولوجيا لحماية المميزات التكنولوجيا الحالية، وإبطاء تقدم قطاع أشباه الموصلات الصينية".
وتسلط "هواوي"، أكبر شركة تكنولوجيا في الدولة من ناحية الإيرادات، الضوء على السلطة التي تمارسها واشنطن للحصول على ما تريد، وبعدما كانت أكبر شركة لصناعة الهواتف الذكية في العالم، اضطرت "هواوي" لبيع قسمها "أونر"، وتدير مصانعها بالقرب من الحد الأدنى للقدرة الإنتاجية، بعدما خسرت وصولها إلى الرقائق من شركات مثل تايوان لصناعة أشباه الموصلات بموجب التشريعات الأمريكية.
وقال لوك فان دن هوف، رئيس مركز أبحاث "إميك" في لوفين في بلجيكا، الذي يركِّز على ابتكارات تكنولوجيا أشباه الموصلات: "إنَّ (التدابير العقابية الأمريكية) لا تفعل سوى تحفيز المجتمع الصيني على تسريع تطوره الداخلي، وفي النهاية قد يخرجون من الأزمة أقوى… وأعتقد أنَّ هذا بالتأكيد خطر محاولة فصل العالمين عن بعضهما ".
الشركات المحلية توفر حلولاً مؤقتة
وفي غضون ذلك، يمكن للشركات الجديدة مثل المؤسسة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات "SMIC"، و"تسينغوا يونيغروب" (Tsinghua Unigroup) المساعدة في التغلب على عجز معالجات الهواتف المحمولة، ووحدات الذاكرة والاتصالات إذا أغلقت واشنطن طرق الإمدادات، وسيعملون بشكل أساسي على معالجات ناضجة بدقة تصنيع 14 نانومتراً وما فوق، مما يكفي لجميع الاستخدامات باستثناء التطبيقات الأكثر دقة مثل الهواتف الذكية، والحوسبة عالية الأداء، ومعالجات الرسومات، في حين تعمل شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات "TSMC" الرائدة عالمياً على الإنتاج على نطاق واسع لرقائق بدقة تصنيع 3 نانومتراً في عام 2022، أي متفوقة بحوالي خمسة أو ستة أجيال أخرى.
في الوقت نفسه، ستكون تلك الشركات بمثابة نقاط تركيز للعقول الأكثر قدرة في البلاد للعمل على تدابير مؤقتة مثل التعبئة والتغليف المتقدمين، مما قد يحسِّن قوة حوسبة الرقائق في غياب التكنولوجيا الأمريكية الأكثر تعقيداً.
ويكمن الأمل في أنَّ مثل هذا التحسين يُكسب الوقت لتطوير التكنولوجيات المتقدِّمة محلياً مثل رقائق بدقة تصنيع 7 نانومتراً، وبرامج تصميم طبقات السيليكون.
ومن بين اللاعبين المحليين الرئيسيين في هذا المجال، شركة "شنغهاي مايكرو إلكترونكس إكويبمنت كو" (Shanghai Micro Electronics Equipment Co)، و"ناورا تكنولوجي غروب" (Naura Technology Group Co)، وهما تعملان على معدَّات يمكنها في يوم من الأيام أن تحل محل الطباعة الحجرية فوق البنفسجية الفائقة، أو ما يعرف بآلات "EUV" الخاصة بشركة "ASML" - التي تعدُّ شرطاً أساسياً لصناعة رقائق متقدمة.
وتحاول الشركات الناشئة المحلية مثل "إمبريان" (Empyrean) تقليد أدوات البرمجيات التي لا غنى عنها، والمرخصة من قبل "سينوبسيس" و"كادنس"، التي يستخدمها معظم مصممي الرقائق في العالم، مثل "إنتل" وغيرها.
وحتى في عالم رقائق الذاكرة التي أصبح يُصنع منها نماذج أرخص من المنافسين الأعلى تكلفة وتقدماً، تنفق إحدى الشركات التابعة لـ"تسينغوا يونيغروب" الحكومية مليارات للإنتاج على نطاق ضخم في تحدٍّ لشركات مثل "سامسونغ إلكتورنكس كو"، و"ميكرون تكنولوجي إنك".
[object Promise]الاستثمار في التكنولوجيا
وتعهد الرئيس شي جين بينغ بتقديم 1.4 تريليون دولار حتى عام 2025 لتكنولوجيات تتراوح من الشبكات اللاسلكية إلى الذكاء الاصطناعي، كما أنَّ جزءاً كبيراً من ذلك الرقم موجه لأشباه الموصلات.
وستكون الشركات الصينية مثل "تسينغوا" مسؤولة عن بناء نصف مصانع أشباه الموصلات في العالم، والمتوقَّعة عند حوالي 30 مصنعاً في العامين المقبلين فقط.
وكتب موراليس في تقرير، إنَّ الشركة تنفق بالفعل ضعف ما تنفقه الولايات المتحدة بحوالي 2.4 مرة على معدَّات تصنيع أشباه الموصلات، التي يُصنع أغلبها من قبل الشركات الأمريكية.
ويتمثَّل الرهان في أنَّ الشركات الصينية يمكن أن تنافس إذا قامت بتسريع البحث في المجالات المزدهرة القريبة من الرقائق مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية، إذ يأتي دور رقائق الجيل الثالث المصنوعة أساساً من مواد، مثل كربيد السيليكون ونتريد الغاليوم، التي يمكن أن تعمل بترددٍ عالٍ، وفي بيئات طاقة ودرجة حرارة أعلى، وفي تطبيقات واسعة مثل رقائق تردد الراديو من الجيل الخامس، والرادارات العسكرية والمركبات الكهربائية.
وقال محللو "سيتي غروب"، إنَّ الدولة قد تضمن ميزة المتحرِّك الأول حتى في حال استمرار هيمنة أشباه الموصلات التقليدية القائمة على السيليكون على غالبية الاستخدام العالمي في المستقبل القريب.
وبدأت شركة "كري إنك" (Cree Inc)، ومقرُّها الولايات المتحدة، وشركة "سوميتومو إليكتريك إندستريز" (Sumitomo Electric Industries Ltd) اليابانية في تعزيز إنتاج تلك الرقائق، في حين أنَّ المنافسين الصينيين، مثل: شركة "سانان أوبتو الكتورنيكس" (Sanan Optoelectronics Co)، والشركة الحكومية "مجموعة تكنولوجيا الإلكترونيات الصينية" (China Electronics Technology Group Corp) قد حققتا تقدُّماً كبيراً.
وبشكلٍ عام، تستفيد شركات صناعة الرقائق الأخرى في الدولة مثل "SMIC"، و"ويل سيميكونداكتور"، و"ناشونال سيليكون اندستري غروب" (National Silicon Industry Group Co) من الدعم الحكومي.
وقال موراليس من "IDC": "إنَّ الالتزام الاستثماري الذي تقدِّمه الصين يضمن أنَّ النظام الصيني لأشباه الموصلات سيستمر في لعب دور مهم في تقدُّم صناعتنا، وسوق تكنولوجيا المعلومات بشكل عام".