عندما اكتمل بناء مجمّع "ليديا يوزفا" السكني المخصَّص لدورة الألعاب الأولمبية الصيفية في شرق لندن في عام 2012، رحّب به في العالم كمنارة في مجال التصميم الأخضر وكفاءة الطاقة، إذ صُمِّمَت وحداته السكنية الـ2,800، التي هي مزيج من الشقق والمنازل، بحيث تحافظ على الحرارة في الداخل بما يتناسب مع برودة فصل الشتاء في المملكة المتحدّة، ويقلل فواتير الطاقة.
وراعت هذه الوحدات وجود نوافذ ممتدة من الأرض إلى السقف بها، ومجهزة بما يضمن العزل الكامل عن الخارج، كما احتوت على أنظمة تدفئة صديقة للبيئة، تستخدم الحرارة المُهدَرة من محطة كهرباء قريبة تعمل على المخلَّفات العضوية والغاز.
ارتفاع درجات الحرارة عالميا
لكنّ مصمِّمي هذا المجمّع في حديقة الملكة إليزابيث الأولمبية لم يأخذوا باعتباراتهم الارتفاع المستمرّ لمتوسّط درجات الحرارة عالميًّا.
ووفقًا لمكتب الأرصاد الجوية في المملكة المتحدّة، فإنّ الأعوام الـ10 الأخيرة هي الأكثر سخونة في المملكة المتحدة منذ ثمانية عشر عامًا، أي منذ بدء عملية تسجيل المعلومات المناخية في 1882.
وتقول يوزفا، وهي مِن الساكنين في هذه الشقق التي تفتقر إلى التكييف الهوائي، إنّ شقّتها أصبحت حارّة بشكل لا يُطاق خلال الصيف، بحيث إنها عندما وضعت مولودتها منذ أربع سنوات، التي كانت تعاني من اليرقان، وجدت نفسها أمام معضلة: فهل تُبقي الستائر مفتوحة لتعرّض بشرة طفلتها لأشعة الشمس وتساعدها على التخلّص من حالتها الصحّية بشكل أسرع، أم تغلقها لتبقي الشقة باردةً؟
وتوضخ يوزفا أنه في بعض الأيام الحارّة لم تكُن قادرة حتى على البقاء في شقتها مع طفلتها، مضيفة: "الأمر مزعج بالنسبة إلينا كبالغين، ولكنه خطير بالنسبة إلى طفل".
هذا المجهود للإبقاء على الحرارة في الداخل لطالما كان نُصب الأعين عند بناء المساكن في دول أوروبا الشمالية، منها المملكة المتحدة وألمانيا، مع الإبقاء على غاية واحدة، وهي تدفئة الناس خلال الشتاء. فهذه المساكن لم تتضمن مكيّفات الهواء مطلقًا، وذلك لأنّ الصيف طالما كان معتدلًا هناك، حتى أتى التغيير المناخي ليغيّر هذه المعادلة.
كورونا وحرارة الصيف
يُقال إنه في المملكة المتحدة ترتفع درجة الحرارة في خُمس المنازل في الصيف، بما يعني أنّ درجات الحرارة في الداخل تتخطى 28 درجة مئوية في أكثر من 1% من المنازل، فيما تصل درجات الحرارة إلى 26 درجة مئوية في غرف النوم.
وحاليًّا، مع بقاء الناس في المنزل بسبب أوامر العزل المرتبطة بـ"كوفيد-19"، يزيد هذا العدد الذي يتضرر من الحرارة بالصيف.
ويُذكر أنه منذ بدء دورة الألعاب الأولمبية في 2012 بلغ متوسط درجات الحرارة في لندن 23.3 درجة مئوية، مرتفعًا من 21.6 درجة مئوية في السنوات الممتدة من 1961 حتى 1990. ووفقًا لتوقعات الحكومة، يمكن أن تختبر لندن بحلول خمسينيات القرن الحادي والعشرين موجات حرّ في الصيف مع حرارة تتخطى الـ28 درجة مئوية ليومَين أو ثلاثة أيام متتالية.
وتعرّض الناس لارتفاع درجات الحرارة قد يخلّف آثارًا عميقة على الصحّة، وهو أمر خطر بشكل خاصّ بالنسبة إلى الفئات الأضعف، مثل الأطفال الرضّع، والمسنّين، إذ يمكن أن تتسبّب الحرارة المرتفعة للغاية في ضربة شمس، أو فشل عضويّ، وأحيانًا قد تؤدي إلى الوفاة.
وتمس هذه الآثار أيضًا الأشخاص الذين يتمتّعون بصحّة جيدة، كما يمكنها أن تسبّب حرمان البعض من النوم، ما قد يؤدي بدوره إلى معاناتهم من الخمول خلال النهار أو التسبب بحوادث. ووفقًا لمؤسسة الأبحاث والتطوير "Rand Corp"، يكلّف الافتقار إلى النوم الدول ما يصل إلى 3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
التأثير السلبي لإغلاق المباني
وتُعَدّ مشكلة الحرارة الداخلية في المنازل نتيجة غير مقصودة لمتطلبات بناء متشددة لتتحلى بكفاءة استخدام الطاقة، إذ إنّ بناة المنازل منذ أزمة النفط في سبعينات القرن الماضي بدؤوا بالتركيز على جعلها مُحكَمة العزل لمنع الحرارة من التسرب، وذلك لتقليل استهلاك وقود التدفئة في الطقس البارد، وهو ما تطلّب حينها تحديث عدد من المباني واستخدام كثير من موادّ العزل في المنازل الجديدة.
وفَهِمَ الخبراء مع زيادة درجات الحرارة، التأثير السلبي لإغلاق المباني بإحكام وما يرافقه من تقليل تدفّق الهواء إلى الداخل. هذه المشكلة تُعَدّ خاصّة بالمدن، إذ تحتوي معظم المباني الجديدة على نوافذ ثابتة ومغلقة، ليمتصّ الأسمنت خارجًا الحرارة في النهار ومن ثمّ يبعثها إلى الداخل في الليل، وهي ظاهرة تُعرف باسم "تأثير الجُزر المفصولة حراريًّا في المدن".
وتقول دايم جوليا كينغ، نائبة رئيس اللجنة المعنية بالتغيير المناخي في المملكة المتحدة: "إنّ العزل دون ضمان تدفّق لتغيير التهوية الداخلية قد يؤدي إلى تأثيرات كارثية".
وترى إيليا أزاروف، باحث آخر في نتائج التصميم السيئ الذي تحفّزه اعتبارات تقليل تكلفة التدفئة.
طُرق تقليدية للتكييف
أنّ ما أثّر أيضًا في هذا الموضوع هو تقلّص حجم المساكن التي لا تزال في ذات الوقت تحتوي على العدد نفسه من الأشخاص، مع وجود مزيد من المعدّات الإلكترونية التي يستخدمها الأشخاص وتولّد الحرارة، وفي هذا النطاق فإنّ ظهور أجهزة التكييف لم يساعد على ذلك أيضًا.
ويضيف أزاروف، المختصّ في التخطيط للكوارث لصالح الجمعية الأمريكية للمعماريين، أنّ المعماريين والمصمّمين لم يعودوا بحاجة إلى التفكير في طُرق تقليدية للتكييف بغرض التهوية. وقال: "إنّنا الآن ندفع الثمن، لأنّ أجهزة التكييف أصبحت غير مناسبة لدرجات الحرارة الحالية. والآن بسبب التغيير المناخي نعود إلى نقطة الصفر، وندرك أنه لا يمكننا بعد الآن بناء هذه الصناديق المغلقة (الشقق السكنية) التي تعتمد فقط على أجهزة التكييف لتهويتها".
يُعَدّ أكثر ما يصرّ عليه خبراء البناء الأخضر حالياً هو إمكانية تحسين كفاءة الحرارة في المساحات الداخلية بشكل كبير، من خلال تعديلات بسيطة تضاف في مرحلة التصميم المبكرة للأبنية. ولعلّ أحد أهمّ هذه التعديلات البسيطة هو وضع نوافذ من الجانبين في الشقق، ما يسمح للهواء بالتدفق، إلا أنّ الشقق الحديثة غالبًا ما تحتوي على نوافذ من جانب واحد فقط، ما يجعل مرور التيار الهوائي صعبًا، وذلك في حال كان يمكن فتح هذه النافذة في الأصل.
كذلك من المهمّ أيضًا وجود أنظمة تعمل بكفاءة لتجديد الهواء. ووفقًا للبيولوجي سايمون ويات، شريك الاستدامة في شركة "كوندال جونستون"، فإنه يمكن أن تولّد هذه الأنظمة الجيدة هواءً جديدًا في الغرفة بشكل أكبر بثماني مرّات أكثر من الأنظمة الموجودة الآن. كما يُعَدّ استخدام مواد فعّالة في البناء أمرًا هامًّا في هذا الموضوع.
بناء الشقق بمواد خفيفة الوزن ذات كتل حرارية أقلّ
يقول مسعود طباطبائي، متخصص في أداء المباني ويعمل مع "Monodraught Ltd"، وهي شركة تستخدم الطاقة المنخفضة لتوفير التهوية، إنّه في كثير من الأحيان وبسبب اعتبارات التكلفة تُبنى الشقق باستخدام المواد الخفيفة الوزن ذات الكتل الحرارية الأقلّ، وهو ما يعني عدم قدرتها على أن تخزن الحرارة في النهار وتبثّها في الليل.
وفي إطار تحسين الموادّ المستخدمة في البناء المستدام، طوّر "ألناتورا" (Alnatura)، وهو معمل تصميم الاستدامة في دارمشتات بألمانيا، جدرانًا مصممة من "الصلصال"، وهو نوع من الطين الرمليّ يتمتّع بتأثير التبريد من خلال التبخير الذي يمنع تكتل الجيوب الحرارية في البناء.
ويمكن لأصحاب المنازل القيام بكثير من التحسينات الأخرى، وتتضمن هذه التحسينات استخدام مراوح السقف، أو وضع الشرفات لتظليل خارج المبنى، أو زرع الأشجار أمام النوافذ، فيما تُعَدّ التغييرات الأخرى أكثر كلفة، مثل إعادة تصميم المخططات للحصول على تهوية أفضل، أو إضافة فتحات هوائية خارجية. وتختلف المتطلبات من منزل إلى آخر، ولكن عمومًا من السهل فهم المبادئ الأساسية.
ويقول ويات: "إنّ المشكلة برمّتها يمكن حلّها من خلال أمور بسيطة للغاية. من المدهش دائمًا رؤية الأبنية أو التصاميم التي تفتقر إلى أساسيات الحسّ السليم".
وعلى الرغم من أنّ التعديلات قد تكون بسيطة، فإنّ عددًا بسيطًا من متعهّدي البناء يعتمدونها في تصاميمهم. وفي هذا الموضوع اقترح محافظ لندن صادق خان خطة تتطلب من متعهّدي المباني تصميم نماذج شديدة الحرارة ضدّ سيناريوهات الطقس القاسية، مع إيلاء تصميم المباني والتهوية أهمية مِن قِبل متعهّدي البناء. وتعتبر هذه الخطة أنّ اللجوء إلى أجهزة التكييف يجب أن يشكّل الملاذ الأخير.
قواعد جديدة للبناء
وتنظر المملكة المتحدة برمّتها في إمكانية اعتماد قواعد مماثلة، إلّا أنّ هذه القواعد ستنطبق فقط على المباني الجديدة، ووفقًا لمكتب خان، فإنّ نحو 80% من المباني التي سيعيش فيها الناس بحلول 2050 هي مبانٍ موجودة في الأصل.
وبينما قد تتولّى المحاكم مهامّ الدفع باتجاه الإصلاحات في مجال البناء، يرى ويات إنه يُعيَّن بشكل متزايد مِن قِبل متعهّدي البناء القلقين من تحوّل مسائل ارتفاع الحرارة إلى قضايا ضدّهم. ويقول إنه في أحد مباني لندن الجديدة اضطُرّ المتعاقدون إلى الاستبدال بالنوافذ الثابتة (قليلة التكلفة) نوافذ يمكن فتحها بعد أن وصلت درجات الحرارة في الداخل إلى 35 درجة مئوية في صيف 2018. وفي سيناريو آخر ذلك الصيف وجد أحد متعهدي البناء نفسه أمام وحدات سكنية للتأجير غير صالحة للعيش لأنّ الحرارة فيها وصلت إلى 40 درجة مئوية، لذا اضطُرّ المتعاقد إلى تسديد فاتورة كل شقة بنفسه، وذلك بقيمة 300 جنيه إسترليني (400 دولار) أسبوعيًّا.
هذه الحالات تقول كثيرًا عن نزعة التغيير المناخي. ويضيف ويات: "هذا النوع من العمل لم يكن موجودًا منذ بضع سنوات".
وقررت يوزفا في هذا الوقت، الانتقال من الحديقة الأولمبية، ويعود السبب بشكل جزئيّ إلى الحرارة المرتفعة. وتقول إنه من المريح الحضور في مكانٍ حرارته أكثر اعتدالًا خارج المدينة.
وتضيف: "في الأسبوع الأخير، خلال هذه الأيام الحارّة، شعرت وكأنّ قلبي سيقفز من مكانه. كنت أتحرّق شوقًا للمغادرة. كنت لا أستطيع التنفس".