ما إن فاز دونالد ترمب برئاسة الولايات المتحدة، حتى بدأت الأسواق بتفنيد سياساته الاقتصادية وكيفية تأثيرها على مختلف القطاعات. ولم تكن سوق النفط استثناءً، باعتبار مواقفه تضيف حالةً من عدم اليقين إلى التحديات الموجودة أساساً.
يعد ترمب بـ"إطلاق العنان للطاقة الأميركية" وزيادة الإنتاج، ما دفع بالرئيس التنفيذي المشارك لشركة خطوط الأنابيب "إنيرجي ترانسفير" ماكي ماكريا، لوصف إدارة ترمب المقبلة بأنها ستجلب "نسمة هواء نقية" للصناعة. كما رشّح الرئيس المنتخب كريس رايت، الذي يدير شركة خدمات النفط والغاز الطبيعي ومقرها كولورادو، لقيادة وزارة الطاقة.
لكن السوق لا تشعر بنسمة نقية بينما تراقب مسار توجهاته، لاسيما المرتبطة بالصين وإيران وروسيا، وتأثيرها على أسعار النفط.
يتفق جميع الخبراء الذين تحدثت معهم "الشرق" على وجود ضغوط على سوق النفط جرّاء فوز ترمب. من شأن بعض هذه الضغوط أن ترفع الأسعار للمدى القصير، لكنها قد تؤدي لانخفاضها على المدى المتوسط.
إيران والصين
هذا التباين بين المديين القصير والمتوسط، يعود إلى وجود العديد من الظروف التي يجب على السوق معرفة كيفية تعامل الإدارة الأميركية المقبلة معها. وفي مقدمتها إيران.
خلال السنوات الماضية رفعت إيران، الخاضعة لعقوبات منذ انسحاب ترمب من الاتفاق النووي في 2018، من حجم الإمدادات، وباتت حالياً تصدّر نحو 1.6 مليون برميل نفط يومياً.
يرى أسامة رضوي، محلل الطاقة والاقتصاد في "برايمري فيجين" (Primary Vision)، أن ترمب سيصعّد من الحرب الكلامية ضد إيران، ما سيؤدي إلى ضغوط صعودية على الأسعار، وإعادة علاوة مخاطر الحرب، بعدما اختفت تقريباً في الفترة السابقة.
رضوي أشار في تصريح لـ"الشرق" إلى أن فرض ترمب عقوبات على إيران، كما هو متوقع، لن يغير الكثير في الأسواق، خصوصاً "في ظل تفوق المعروض النفطي على الطلب العالمي"، ملمحاً أيضاً إلى إشكالية العقوبات على النفط الروسي، حيث تمكنت موسكو من زيادة صادراتها.
لكنه أشار إلى ظروف أخرى من شأنها أن تخلق ضغوطاً نزولية على الأسعار، في مقدمتها الصين والحرب التجارية المتوقعة مع الولايات المتحدة، والتي قد تؤدي إلى صدمات تضخمية من شأنها التأثير على سوق الخام.
وسط العقوبات، ركزت إيران على توجيه نفطها إلى الأسواق الآسيوية، وخصوصاً الصين. وفي هذا السياق، رأى رضوي أن الطلب على الخام من قِبل المصافي الصينية قد يكون عاملاً مؤثراً على السوق، أكثر من العقوبات على إيران.
من الفائض إلى التخمة
توقع "تقرير السلع الأساسية" الصادر عن البنك الدولي مؤخراً، أن تنخفض أسعار الخام بنحو 10% بحلول عامي 2025 و2026. بلغ سعر عقود مزيج برنت تسليم يناير 2025 نحو 72.8 دولار، وعقود خام غرب تكاساس تسليم ديسمبر من العام الحالي نحو 69 دولاراً، عند الساعة 13:17 بتوقيت نيويورك.
رضوي قدّر أن الأسعار قد تصل إلى نحو 60 دولاراً للبرميل لخام "غرب تكساس" الوسيط، وأقل من 70 دولاراً لخام "برنت"، مع زيادة حجم إنتاج الدول من خارج منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك)، وخصوصاً الولايات المتحدة. ولفت في هذا الإطار إلى أن انخفاض الأسعار عن 50 دولاراً، لن يؤثر كثيراً على شركات النفط الصخري الأميركية، نظراً إلى تطور تكنولوجيا استخراج النفط.
في سياقٍ مؤثرٍ على حركة الأسعار أيضاً، أشارت "بلومبرغ"، في تقرير نُشر قبل يومين، إلى وجود إشارات لفائض بالعرض في الولايات المتحدة للمرة الأولى في 9 أشهر، بما يمثل أحدث إشارة إلى تخمةٍ وشيكة في أكبر سوق مستهلكة للنفط بالعالم.
كما توقعت وكالة الطاقة الدولية أن تشهد الأسواق فائضاً يزيد عن مليون برميل يومياً العام المقبل، مع استمرار تعثر الطلب في الصين.
ورغم الانتقادات التي تواجهها الوكالة التي تقدّم المشورة للاقتصادات الكبرى، إلا أن هناك شبه اتفاق في السوق على إمكانية حدوث فائض، في حين أن قيمة هذا الفائض وظروفه هي موضع الخلاف.
من جهته، يعتقد هومايون فلكشاهي، محلل أول للنفط والغاز في "كبلر" (KPLER)، أنه من الصعب على إدارة ترمب الجديدة التأثير "بشكل ملحوظ" على صادرات النفط الإيرانية في المدى القصير، نظراً لكون "العقوبات مفروضة بالأساس".
ويضيف في تصريح لـ"الشرق" أن بإمكان الإدارة الجديدة ملاحقة الأطراف الثالثة التي تتعامل بالنفط الإيراني، من خلال فرض عقوبات على أشخاص أو شركات، لكن هذه الخطوات من شأنها أن "تؤخر سلاسل الإمداد" الإيرانية فقط، نظراً إلى أن "طهران سبق وتعودت على مثل هذه العقوبات". وتوقع أن الإدارة الجديدة قد تتمكن خلال 4 أو 5 أشهر من تسلمها السلطة، من إخراج نحو 30% من نفط إيران من السوق.
التنسيق مع الصين
فلكشاهي رأى أن نجاح ترمب في "خنق إيران" يتطلب تنسيقاً مباشراً مع الصين، سواء من خلال الضغط عليها، أو التوصل إلى تسوية معها بشأن النفط الإيراني.
إلا أن مسيرة ترمب مع الصين ليست معبدة بالورود، فمن المتوقع أن تشهد الولاية الثانية تصاعداً في التوترات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم.
ونبّه فلكشاهي إلى أن الصين لديها حجة قوية في حال قررت الولايات المتحدة الضغط عليها، مشيراً إلى أن 80% من الخام الذي يذهب إلى الصين تستورده مصافي خاصة ليست تابعة للدولة، وليست لديها تعاملات كبيرة بالدولار أو عمليات خارج الصين، ما يعني أن هناك صعوبة لفرض عقوبات عليها، كما أنها تمنح الصين ذريعة للتأكيد أنها، كدولة، لا تستورد خام إيران الرخيص.
وسط هذه الظروف المعقدة، وفي ظل ضعف الاقتصاد الصيني، فإن إيقاف استيراد الخام الإيراني، سيزيد من الكلفة على بكين، نظراً إلى أن أكبر مستهلك للنفط في العالم بحاجة إلى تأمين هذه الإمدادات من أماكن أخرى.
هذا الواقع من شأنه أن يولد مقاومة لدى الصين، أو توتراً إقليمياً بين إيران ودول منتجة أخرى، في حال مُنحت الصين خصومات على الخام، وهي خطوة يمكن أن تعتبرها طهران تعاوناً مع الولايات المتحدة ضدها، وفق فلكشاهي.
زيادة الإنتاج الأميركي
الخبير في مجال الطاقة والأستاذ الزائر بجامعة "جورج ميسون" أمود شكري، لفت أيضاً إلى أن سياسة ترمب بشأن زيادة الإنتاج في الولايات المتحدة، ستؤدي إلى ضغوط نزولية على الأسعار.
شكري اعتبر في تصريحات لـ"الشرق"، أن سياسة ترمب المرتبطة بزيادة الإنتاج، الذي سيرتفع إلى 13.9 مليون برميل نهاية العام المقبل وفق توقعات إدارة معلومات الطاقة، قد تؤدي إلى زيادة المعروض العالمي، وبالتالي الضغط على الأسعار. ومن شأن هذه السياسة أيضاً أن تفرض تحديات على حصة تحالف "أوبك+" السوقية، وقدرته على الحفاظ على استقرار الأسعار.
وفي الشأن الإيراني، لم يستبعد شكري أن يلجأ ترمب إلى سياسة "الضغط الأقصى" بهدف خفض صادراتها إلى الصفر مجدداً، معتبراً أن الجمع بين زيادة الإنتاج الأميركي وانخفاض الصادرات الإيرانية، من شأنه إدخال "ديناميكيات جديدة إلى سوق النفط"، بما يؤدي إلى "تحولات في تدفقات التجارة، والتأثير على أسعار الطاقة في جميع أنحاء العالم".
وأضاف أن فرض عقوبات مكثفة على نفط إيران، من شأنه خفض الصادرات بين 500 ألف ومليون برميل يومياً.
كما أن سياسات ترمب قد تؤدي إلى تصعيد التوترات الجيوسياسية، وخاصة مع إيران والصين، مما يزيد من التقلبات في أسواق النفط، وفق شكري، مُنوّهاً بأن إدارة الرئيس المنتخب قد تتعاون مع المنتجين الرئيسيين للحفاظ على مستويات العرض العالمية، في حال قررت اللجوء إلى سياسة "الضغط القصوى".
هل تدخل روسيا إلى المعادلة؟
من جهة أخرى، قد يفكر ترمب في تخفيف القيود المفروضة على النفط الروسي، واستخدام ذلك كوسيلة للضغط للحصول على تنازلات من موسكو بشأن أوكرانيا، وإيران، حسبما رأت المحامية ورئيسة شركة "سكاراب رايزينغ" المتخصصة بتقديم الاستشارات الاستراتيجية وتحليل المخاطر الجيوسياسية إيرينا تسوكرمان.
وأضافت في تصريحات لـ"الشرق"، أن هذه الاستراتيجية قد تأتي بنتائج عكسية، خصوصاً في ظل التقارب الروسي الإيراني مؤخراً، ونجاح البلدين بإيجاد طرق لشحن النفط إلى الأسواق رغم العقوبات الاقتصادية، ما قد يدفع ترمب إلى الضغط عليهما في وقت واحد.
نبهت تسوكرمان إلى أن هناك سبباً للاعتقاد بأن ترمب قد يسمح لإسرائيل بمهاجمة البنية التحتية للنفط والغاز الإيرانية، خاصة إذا نفذت إيران هجوماً مباشراً على إسرائيل في المستقبل، ما يمكن أن يخفف من الصادرات الإيرانية من دون تأثير كبير على الأسعار، نظراً إلى أن زيادة الإنتاج الموعودة من الولايات المتحدة قد تغطي هذا النقص.
سيناريو آخر
في الأيام القليلة الماضية، ظهرت مؤشرات على سيناريو جديد قد يواجه سوق الخام. بانت هذه المؤشرات من خلال موافقة إيران على تجميد تخصيب اليورانيوم بالقرب من المستوى الذي يمكن استخدامه في الأسلحة النووية، وهي خطوة فسرها بعض المتداولين على أنها مصممة لتجنب عقوبات "الضغط الأقصى" التي يُتوقع أن يلجأ إليها دونالد ترمب عند تسلمه، وفق "بلومبرغ".
وفي حال تمكنت إيران من تجنب العقوبات "الترمبية"، فإن ذلك من شأنه أن يعيد السوق إلى الظروف الأساسية التي كانت تعصف بها قبل الانتخابات الأميركية، خصوصاً وسط توقعات واسعة النطاق بوجود وفرة في العرض العام المقبل.
بالإضافة إلى الطلب الصيني الخافت، وتوقعات وكالة الطاقة الدولية، والخام الفنزويلي المعاقب أيضاً، خفّضت "أوبك" توقعاتها لنمو الطلب العالمي على النفط هذا العام بحوالي 100 ألف برميل يومياً، حيث قدّرت في تقرير أن ينمو الطلب بمقدار 1.8 مليون برميل يومياً، بعد أن كانت توقعاتها في يوليو عند 2.2 مليون برميل، ما يعني خفضاً بمقدار 18.8% منذ تقرير أغسطس.
كانت ثماني دول أعضاء في "أوبك+"، وهي السعودية وروسيا والعراق والإمارات والكويت وكازاخستان والجزائر وسلطنة عُمان، اتفقت مطلع نوفمبر على تمديد تخفيضاتها الطوعية الإضافية لإنتاج النفط البالغة 2.2 مليون برميل يومياً لمدة شهر حتى نهاية ديسمبر المقبل.
والحال، أن سياسات ترمب المزمعة تجاه الصين وروسيا وإيران وفنزويلا، وتحفيز إنتاج النفط الصخري الأميركي، مؤثرة بلا شك في سوق البترول، إلا أن ترافقها مع ظروف السوق الأخرى تجعل من الصعب التنبؤ بمسار واضح للأسعار، وحتى للعرض والطلب، خصوصاً إذا لم تتمكن الصين من التعافي، في وقتٍ تتجه الأنظار نحو اجتماع تحالف "أوبك+" الشهر المقبل، لمعرفة موقفه من إعادة بعض الإنتاج إلى سوق قد تشهد فائضاً العام المقبل.
راسل هاردي، الرئيس التنفيذي لمجموعة "فيتول"، كان أشار في مؤتمر الأسبوع الماضي، إلى أنه "لا يزال هناك الكثير من المجهول حول الشرق الأوسط، وحول الصادرات الإيرانية، والصادرات الفنزويلية، في ظل رئاسة جديدة في الولايات المتحدة". وأضاف: "لذا أعتقد أنه من السابق لأوانه بعض الشيء أن نستنتج أن السوق ستعاني من فائض في المعروض عام 2025".