بعد أن كان رئيس أكبر شركة نفط في العالم يجوب القارات في أوائل يونيو لحشد اهتمام المستثمرين بواحدة من أكبر طروحات الأسهم في السنوات الأخيرة، بات بإمكانه تنفس الصعداء.
بعد مرور خمس سنوات على إدراج أرامكو السعودية بقيمة 29.4 مليار دولار، والذي جاء في ظل غضب رسمي وسيطرة المستثمرين المحليين على الطرح، نجح أمين الناصر ومجموعة من كبار المصرفيين في "وول ستريت"، بإتمام الصفقة الدولية التي لطالما أرادها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
تم تخصيص جزء كبير من الأسهم التي طُرحت هذا الشهر بقيمة 11.2 مليار دولار، للمستثمرين الأجانب، ما دفع أحد الأشخاص المشاركين في العملية إلى وصفها بأنها الصفقة التي كان من المفترض أن يكون عليها الاكتتاب العام الأولي.
يمكن لنجاح هذه الصفقة أن يخلق نموذجاً لعمليات بيع أسهم في "أرامكو" في المستقبل، والتي تبدو الآن أكثر ترجيحاً مع سعي السعودية لزيادة الإيرادات للمساعدة في تمويل "رؤية 2030" للتحول الاقتصادي، والتي تبلغ كلفتها عدة تريليونات من الدولارات.
متطلبات "رؤية 2030"
جيم كرين، من "معهد بيكر للسياسة العامة" في جامعة "رايس" في هيوستن، قال: "نشهد محاولة شاملة لزيادة رأس المال الاستثماري للمشاريع العملاقة لرؤية 2030". أضاف: "بما أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر لم تصل إلى الحجم المأمول، فإن الحكومة السعودية لجأت إلى شركتها الموثوقة: أرامكو".
اقرأ أيضاً: أرامكو السعودية تعلن عن هيكل ملكية الشركة بعد الطرح الثانوي
يستند هذا التقرير عن بيع الأسهم والذي نشرت "بلومبرغ نيوز" عنه لأول مرة في يناير، إلى مقابلات مع عشرات الأشخاص الذين شاركوا مباشرةً في العرض، وطلبوا عدم الكشف عن هوياتهم. لم يستجب ممثلو "أرامكو" والحكومة السعودية لطلبات التعليق.
سلاسة أكبر
بالعودة إلى عام 2019، تميز الطرح العام الأولي لـ"أرامكو" بمناقشات مريرة بين البنوك الاستثمارية والمسؤولين السعوديين الذين أعربوا عن غضبهم من أن الاكتتاب العام حقق في نهاية المطاف تقييماً قدره 1.7 تريليون دولار، وهو أقل بكثير من تريليوني دولار التي كانوا يأملون الوصول إليها في ذلك الوقت.
تم بيع الأسهم هذا العام بسلاسة أكبر. في الحقيقة، كان العرض قيد الإعداد لسنوات، وتمكن المصرفيون من العمل معاً بشكل أكثر تماسكاً، ما سمح للصفقة بالتقدم في الأشهر الأخيرة، حتى مع احتدام الحرب في الشرق الأوسط، وتأثيراتها على أسعار النفط التي ارتفعت إثر ذلك.
اقرأ أيضاً: بلومبرغ: طرح "أرامكو" بصدد جمع ما لا يقل عن 11.2 مليار دولار
قال توربيورن سولتفيدت، المدير المساعد للمخاطر السياسية في شركة "فيريسك مابلكروفت" (Verisk Maplecroft) الاستشارية، إن "الاهتمام المتزايد من المستثمرين الأجانب هو شهادة على نجاح السعودية في إبقاء التداعيات الإقليمية للحرب على غزة بعيدة".
الاستعداد لبيع مزيد من الأسهم
بعد فترة وجيزة من الانتهاء من عملية الطرح العام الأولي، قام الناصر بتجهيز فرق داخلية للاستعداد لعملية بيع ثانية، إذ كان يعتقد أن المملكة قد ترغب في بيع المزيد من حصتها في الشركة. وأراد أن تكون "أرامكو" مستعدة لبيع المزيد من الأسهم، عندما تطلب الحكومة ذلك.
منذ نحو عامين، بدأ أقرب مستشاري الأمير محمد بن سلمان، من بينهم رئيس "أرامكو" ياسر الرميان، في عقد اجتماعات سرية مع المصرفيين والمستثمرين والاستشاريين لتحديد متى يمكن بيع المزيد من أسهم شركة النفط العملاقة، التي طالما اعتُبرت كنزاً من كنوز المملكة.
اقرأ أيضاً: بلومبرغ: تخصيص 60% من طرح أرامكو السعودية الثانوي لمستثمرين أجانب
كانت وزارة المالية تحتسب الكلفة المطلوبة لتحقيق "رؤية 2030" التي أطلقها ولي العهد السعودي. وتوقعت ظهور فجوة تمويلية في المستقبل، في ظل آفاق أسعار سوق النفط، وتقديرات الإيرادات الحكومية، ومدى قدرتها على الاقتراض مع الحفاظ على تصنيفها الائتماني الجيد.
كان الاستثمار الأجنبي المباشر آخذاً في الارتفاع، لكنه لم يكن قريباً من المستوى الذي تريده السعودية. وكان بيع حصة أخرى في "أرامكو" بمثابة وسيلة جيدة لمساعدة الحكومة على جذب مزيد من الأموال.
تقليص حصة الحكومة
رأى كرين من "جامعة رايس" أن "عمليات البيع صغيرة بما يكفي حتى لا تثير انزعاجاً داخلياً، كما أنها تجذب المشترين الأجانب لاختبار الوضع في المملكة". تابع: "إذا كان أداء أسهم أرامكو كما هو مذكور، فمن يدري، قد يتحول عدد قليل من هؤلاء المشترين، إلى مستثمرين أجانب في المستقبل".
تسببت الحرب الروسية على أوكرانيا، في ارتفاع أسعار النفط إلى أعلى مستوياتها منذ سنوات. وهذا عزز حيازة "أرامكو" من النقد الذي يمكن أن تستخدمه لتعزيز توزيعات الأرباح.
وباعتبار الحكومة أكبر مساهم في الشركة، فإن توزيعات الأرباح ستساعدها في تعزيز الإيرادات. كما من شأن هذه الخطوة معالجة إحدى الشكاوى الرئيسية للمستثمرين الأجانب.
اقرأ أيضاً: طرح أرامكو الجديد يحد من زخم أكبر إدراج بالبورصة السعودية هذا العام
في نهاية المطاف، عرضت البنوك على اللجنة الحكومية مجموعة متنوعة من الخيارات، من بينها قيام صندوق الاستثمارات العامة الذي يديره الرميان أيضاً، بيع جزء من حصته في "أرامكو". وكان الاقتراح الآخر هو البيع المباشر لمستثمرين آخرين. وفي النهاية، توصلت لجنة تضم الرميان، ووزير المالية محمد الجدعان، ووزير الاقتصاد والتخطيط فيصل الإبراهيم، إلى اتفاق على بيع جزء من حصة الحكومة.
بحلول نهاية العام الماضي، أعطت اللجنة الضوء الأخضر للصفقة. وبقيت مسألة توقيت طرح الصفقة.
إعادة المصرفيين
كانت إحدى الخطوات الأولى هي إعادة المستشار المالي الأسطوري "مايكل كلين"، وكذلك مصرفيي "مويليس آند كو" (Moelis & Co) إلى مواقعهم كمستشارين. تمكنت الشركتان من الحفاظ على علاقاتهما مع الحكومة السعودية، بعد العمل على الاكتتاب العام الأولي لأرامكو. (أدى عدم وصول التقييم إلى تريليوني دولار لزعزعة علاقة المملكة مع مؤسسات وول ستريت الأخرى).
ولاحقاً، تم جلب مجموعة من البنوك، من بينهم "سيتي غروب"، و"غولدمان ساكس"، و"إتش إس بي سي". وانضم "بنك أوف أميركا" و"جيه بي مورغان تشيس آند كو"، و"مورغان ستانلي"، إلى هذه البنوك في النهاية.
على عكس عملية الطرح الأولي، كانت أسهم "أرامكو" متداولة بالفعل، ما يعني وجود فرصة يومية لرؤية كيفية تقييم المستثمرين للشركة. ونتيجة لذلك، انخفضت التوترات بشكل ملحوظ. ومن دون محاولات التوفيق بين توقعات أصحاب الشركة والمستثمرين الحذرين، عمل المصرفيون معاً بشكل أفضل.
توقيت الصفقة
مع ذلك، كان من الصعب العثور على الوقت المناسب للصفقة، فقد تم التخطيط لإطلاق محتمل في فبراير ثم تم التخلي عنه بسبب مخاوف بشأن التوترات السياسية في الشرق الأوسط. وتم النظر في عملية بيع في أبريل، لكنها توقفت لاحقاً بعد أن أدت الهجمات الجوية الإيرانية على إسرائيل، إلى زيادة التوترات مرة أخرى.
اقرأ أيضاً: طرح أرامكو الجديد: السعودية تنوع مصادر التمويل لرؤية 2030
ويبدو أن الأسواق تتجاهل كل حالة من حالات التوتر الجيوسياسي. وبدلاً من ارتفاع أسعار النفط بسبب مخاوف توسع الصراع في المنطقة، نادراً ما كانت الأسعار تتجاوز 90 دولاراً للبرميل. وبدا أن المستثمرين كانوا أكثر قلقاً بشأن ضعف الطلب على النفط من انقطاع العرض.
طلبت الحكومة من "أرامكو" إنجاز الصفقة قبل النصف الثاني من يونيو. وبحلول ذلك الوقت، كانت المخاوف الرئيسية تتمثل في أن المستثمرين وزعوا بالفعل معظم مخصصاتهم لمدة عام، وأن شبح الانتخابات الرئاسية الأميركية قد يؤدي إلى اضطرابات في الأسواق.
ضم مزيد من الشركات
في وقت متأخر من مساء 30 مايو، وبينما كان المصرفيون في جميع أنحاء الرياض يسترخون وسط الحرارة المرتفعة، بدأت الهواتف ترن. أطلقت "أرامكو" عملية بيع الأسهم رسمياً قبل ساعات قليلة فقط. كان لدى الشركة بالفعل مجموعة كبيرة من البنوك، لكنها الآن توسع شبكتها بشكل أكبر.
حملت تلك المكالمات رسالة مفادها: "تم تعيينك كمسجل اكتتاب". ضمنت "أرامكو" بالفعل طلباً كافياً لتغطية الصفقة، ولكن عملاق النفط أراد استكشاف كل الاحتمالات. طُلب من هؤلاء المصرفيين الاستعداد للانضمام إلى مكالمة الانطلاق خلال دقائق.
اقرأ أيضاً: "أرامكو" تتلقى طلبات لشراء كامل أسهم الطرح البالغ 12 مليار دولار خلال ساعات
وبذلك، تمت إضافة شركات من بينها "بي أو سي إنترناشونال" (BOC International)، و"بي إن بي باريبا" (BNP Paribas)، و"تشاينا إنترناشونال كابيتال كورب" (China International Capital Corp)، و"إي إف جي هيرميس". تم تعيين البنك الأهلي السعودي كمدير رئيسي، كما وصل عدد قليل من البنوك المحلية الأخرى إلى القائمة النهائية.
سؤال الـ124 مليار دولار
سرعان ما انطلق الناصر والبنوك العاملة في عملية البيع، وتحدثوا مع أكثر من 100 مستثمر في الفترة التي سبقت الإطلاق الرسمي للصفقة في الثاني من يونيو. وحملتهم الجولة الترويجية إلى مسافات بعيدة، إذ تحدثوا إلى صناديق الثروة السيادية الإقليمية، وأكبر مديري الصناديق في الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا على حد سواء.
اقرأ أيضاً: أرامكو تحدد السعر النهائي للطرح الثانوي عند 27.25 ريال للسهم
تم تسعير الصفقة في نهاية المطاف في النصف السفلي من النطاق المقترح، وبنحو 15% أقل من سعر الطرح العام الأولي لشركة "أرامكو"، من دون احتساب الأسهم الإضافية التي أصدرتها الشركة على مر السنين. ولا تزال القيمة السوقية لشركة "أرامكو" بعيدة بعض الشيء عن مبلغ تريليوني دولار التي رغبت بها المملكة.
كانت صناديق الاستثمار الأجنبية المشاركة هذه المرة من النوع التي يتبنى استراتيجية الاستثمار الخامل، والتي تهدف إلى تعزيز حيازاتها من أسهم الشركة بسعر مخفض. لا يزال هناك مخاوف أيضاً لدى بعض المستثمرين النشطين الذين يعتقدون أن تقييم الشركة لا يزال مبالغاً فيه، وأن العائد على الأسهم غير جذاب.
وفي النهاية، جمعة الصفقة 11.2 مليار دولار للرياض، كانت الأكبر من نوعها على مستوى العالم في حوالي ثلاث سنوات، وأمدت السعودية بموارد مالية جديدة لتنفيذ خطط تحويل الاقتصاد السعودي.
اقرأ أيضاً: "بلومبرغ": طرح أرامكو السعودية الأخير يجذب طلباً أجنبياً قوياً
شكلت توزيعات أرباح "أرامكو" البالغة 124 مليار دولار، وهي الأكبر في العالم، نقطة جذب أساسية للمستثمرين. عززت الشركة مدفوعاتها بشكل مطرد منذ إدراجها، ويقدم السهم الآن عائداً يبلغ حوالي 6.6%.
اقترنت تلك الفرصة بالحصول على الأسهم بسعر مخفض بنحو 6%، وهو ما دفع العديد من المستثمرين الذين تغيبوا عن الاكتتاب العام الأولي، إلى المشاركة هذه المرة. قام نحو 125 مستثمراً جديداً بشراء أسهم في الطرح الأحدث.
تصويت بالثقة
إجمالاً، اجتذبت الصفقة حوالي 65 مليار دولار من الطلبات، وذهب ما يقرب من 60% من الأسهم إلى مستثمرين أجانب. وهذا بعيد كل البعد عن نسبة 23% التي حصل عليها المستثمرين الأجانب في اكتتاب عام 2019، ما منح الأمير محمد بن سلمان عملية البيع الدولية التي أرادها.
لفت ديفيد رونديل، الدبلوماسي الأميركي السابق الذي يتمتع بخبرة تمتد لعقود في الشرق الأوسط، إلى أن الطلب الخارجي كان الجانب الأكثر إثارة للاهتمام في بيع الأسهم. أضاف: "هذا تصويت بالثقة لصالح الأمير محمد بن سلمان".