عام 2016، وقبل أن تنطلق ما باتت تُعرف اليوم باسم "رؤية السعودية 2030"، ترأس الأمير محمد بن سلمان الجلسة الأولى لمجلس الاقتصاد والتنمية حديث التأسيس، وطرح تساؤلاً حمل فكرةً جديدة، تمحورت حول أن المملكة من أكبر مصدّري النفط في العالم، فلماذا لا تكون مصدّرة للطاقة؟
هذه المعلومات التي كشفها فهد بن عبدالله تونسي، مدير عام مكتب الإدارة الاستراتيجية وأمين عام اللجنة الاستراتيجية في المجلس، وهي الجهة التي تولت لاحقاً إصدار وثيقة "رؤية 2030"، تكشف طموحاً سعودياً لتطوير سياسة النفط القائمة من عشرات السنين، والتوجه فيها إلى بُعدٍ آخر، بما يخفف تأثيرات التحديات التي تحيط بقطاع النفط على الاقتصاد.
ومع انطلاق الرؤية في أبريل 2016، جرى التركيز على التحول نحو إنتاج وتصدير الطاقة، كجزء رئيس من السياسة السعودية. هذا التحول تطلّب التعامل مع عدة ملفات متزامنة، فالطاقة كمفهوم عام تشمل أولاً النفط والغاز، ولا تنتهي بالبتروكيماويات.
التوسع في الغاز
بموازاة كونها من أكبر منتجي النفط، رسخت المملكة خطواتها على خريطة الغاز الدولية، خصوصاً أنها تستحوذ على أحد أكبر احتياطيات الغاز في العالم.
في يوليو الماضي، أكد الرئيس التنفيذي لشركة "أرامكو السعودية" أمين الناصر أن الشركة تخطط لزيادة إنتاج الغاز بنسبة تتراوح بين 50% إلى 60% بحلول 2030.
ورغم أن غالبية الإنتاج سيأتي من حقل الجافورة، أحد أكبر الحقول غير المستغلة في العالم، والذي يمكن أن يرفع الإنتاج إلى 450 مليون قدم مكعب يومياً بحلول 2030، إلا أن الشركة تبحث التوسع خارجياً أيضاً، من خلال الاستثمار والاستحواذ على حصص في شركات عالمية.
ففي سبتمبر الماضي، استحوذت الشركة على حصة أقلية استراتيجية في شركة "مد أوشن" للطاقة مقابل 500 مليون دولار، وهو ما يعتبر أول استثمار دولي للشركة السعودية في الغاز الطبيعي المسال، لتتوالى عمليات الاستحواذ الخارجي بعد ذلك.
لم تقتصر الاستثمارات عند هذا الحد، إذ قال الناصر في سبتمبر الماضي إن الشركة تتطلع لمزيد من الاستثمارات في مجال الغاز الطبيعي المسال، تعزيزاً لخططها بأن تصبح لاعباً رئيسياً في سوق الغاز المنقول بحراً.
تطوير الهيدروجين رغم التحديات
مع التوسع في قطاع الغاز، بدأت المملكة بدخول صناعات طاقة جديدة. الهيدروجين بألوانه المختلفة، كان من هذه الصناعات، مع أن استخدامه كمصدر فعّال للطاقة لا يزال في مهده، وبحاجة للكثير من الاستثمار والتطوير.
لكن المملكة تراهن على الهيدروجين منذ فترة، ففي مارس 2021 قال وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان إن السعودية وضعت خططاً طموحة في ما يتعلق بهذه الصناعة، وتخطط لأن تصبح "أكبر مصدر للهيدروجين على وجه الأرض، من دون منازع".
أبرز التحديات الحالية التي تواجه استخدام الهيدروجين، خصوصاً الأخضر، تتمثل في ارتفاع كلفة استخراجه، بالإضافة إلى صعوبة نقله. إذ تبلغ كلفة إنتاج الكيلوغرام الواحد من الهيدروجين الرمادي ما بين 0.70 – 2.90 دولار. أما الهيدروجين الأخضر، فتكلفة إنتاج الكيلوغرام الواحد منه تتراوح حالياً بين 2 إلى 10 دولارات. يذكر أن برميل النفط مكافئ لنحو 47.3 كيلوغرام من الهيدروجين، في وقت أن كلفة استخراج النفط السعودي تصل إلى قرابة 3 دولارات للبرميل.
المضي قدماً في الاستثمار
تحديات التكلفة والسلامة لم تثنِ المملكة عن المضي قدماً بالاستثمار في الهيدروجين، مراهنةً على أن التكنولوجيا المستقبلية ستخفض من كلفة استخراجه، ليصبح قادراً على المنافسة عالمياً، بما يعزز من رؤيتها بأن تصبح رائدة إنتاج وتصدير هذا المصدر النظيف للطاقة عالمياً.
هذا التوجه أكده ديفيد إدموندسون، الرئيس التنفيذي لـ"نيوم هيدروجين" وهو أكبر مشروع هيدروجين في العالم، مشيراً إلى أن التحدي الأبرز يتمثل في خفض كلفة الإنتاج لجعله مجدياً اقتصادياً.
ونبّه في تصريحات سابقة لـ"الشرق" على هامش وثائقي بعنوان "الهيدروجين.. طاقة المستقبل؟"، إلى أن اعتماد أحدث وأفضل التكنولوجيات بالإضافة إلى "العمل على نطاق واسع"، يمكن أن تخفض الكلفة.
من جهته، اعتبر ماركو أرتشيلي، الرئيس التنفيذي لـ"أكوا باور" في مقابلة سابقة مع "الشرق"، أن الشركة لديها طموح لتكون في "المركز رقم واحد" في العالم عندما يتعلق الأمر بهذه التكنولوجيا.
تسريع وتيرة إنتاج البتروكيماويات
تُعدُّ المملكة العربية السعودية رابع أكبر منتج عالمي للبتروكيماويات، وتريد العمل على تحويل ما يصل إلى 80% من كل برميل نفط إلى مواد كيميائية وبترولية محلياً. وسرّعت خلال السنوات الماضية وتيرة عملها على إنتاج منتجات مرتبطة بالنفط الخام، خصوصاً بعدما استحوذت "أرامكو" على "سابك".
ومن ضمن المواد البترولية التي تقوم المملكة بإنتاجها مواد التشحيم، والمنتجات المكررة على غرار غاز البترول المسال والنفتا والبنزين والكيروسين أو وقود الطائرات، والديزل وزيت الوقود والإسفلت.
هذه المنتجات يتم توزيعها داخل المملكة بالإضافة إلى توريدها وبيعها بالتجزئة من خلال شركات تابعة، في أكثر من 17 ألف محطة خدمة في العالم، منها 5300 محطة في الولايات المتحدة، وأكثر من 5200 محطة في الصين وكوريا الجنوبية، و6500 محطة في اليابان، وفقاً لموقع شركة "أرامكو".
كما تُعدُّ "سابك" إحدى أكبر شركات البتروكيماويات في العالم، كما أنها منتج رئيسي لمواد "الإيثيلين" و"البولي إيلثيلين" و"البروبلين" و"البولي بروبلين" والأسمدة النيتروجينية والفوسفاتية. بما يشكّل قاعدة صلبة لتحقيق مستهدفات المملكة بأن تصبح اللاعب الرئيسي عالمياً بالمنتجات الكيميائة والبترولية.
تحقيق هذه الأهداف لا بد أن يترافق مع استثمارات، إذ تطمح المملكة إلى جذب استثمارات بقيمة 600 مليار دولار في القطاع حتى عام 2030.
إضافة إلى تعزيز الإيرادات من المبيعات، فإن السعودية تراهن على أن النمو السريع للطلب على هذه المواد يمكن أن يعوّض الانخفاض المرتقب في الطلب على النفط الخام خلال السنوات المقبلة، خصوصاً مع زيادة التوجه إلى الطاقة النظيفة سواء في المملكة أو المنطقة أو العالم.
اقرأ أيضاً: توقعات بتزايد معروض النفط وتباطؤ الطلب.. 2024 تحد جديد لـ"أوبك+"
الطاقة المتجددة مصدر جديد
الطاقة في المملكة لا تقتصر على المواد النفطية كمصدر، إذ تتميز السعودية بمساحات شاسعة، وكمية كبيرة من أشعة الشمس، وهي تخطط لاستغلال هذه الفرص في عملية إنتاج الكهرباء.
في ديسمبر الجاري، أوضح وزير الطاقة أنَّ منظومة الطاقة تستهدف إنتاج 50% من مصادر الطاقة المتجددة و50% من محطات التوليد الغازية بحلول عام 2030.
الأمير عبدالعزيز بن سلمان أوضح في كلمة خلال افتتاح منتدى "مبادرة السعودية الخضراء" الذي تزامن مع مؤتمر قمة المناخ "كوب 28" في دبي، أن هناك مشروعات بقدرات تتجاوز 8 غيغاواط قيد الإنشاء في السعودية، ومشروعات بحوالي 13 غيغاواط بلغت مراحل مختلفة من التطوير. وأضاف أن المملكة تعتزم طرح مناقصة جديدة لإنشاء 4 محطات طاقة عالية الكفاءة تعمل بالغاز بقدرة إنتاجية تبلغ 7 غيغاواط، وذلك ضمن مجموعة من المبادرات والسياسات التي تنفذها في إطار "مبادرة السعودية الخضراء" التي أُطلقت عام 2021.
أضاف: "نقوم هذا العام بتشغيل أربع محطات لتوليد الطاقة تعمل بالغاز ذات كفاءة عالية بسعة إجمالية تبلغ 5.6 غيغاواط، وسنقوم ببناء محطات لتوليد الطاقة بالغاز بقدرة 8.4 غيغاواط مع إمكانية احتجاز الكربون".
جذب الشركات الأجنبية
هذا القطاع أصبح جاذباً للاستثمار الأجنبي، إذ تتطلع شركات صينية وكورية جنوبية إلى المملكة بصفتها وجهة لعولمة قواعدها الصناعية، مستفيدة من "الكهرباء الرخيصة، والعلاقات الجيدة مع مجموعة واسعة من البلدان، إضافة إلى الموقع الجغرافي الاستراتيجي بين أوروبا وآسيا وأفريقيا"، حسبما قال شون وانغ، الرئيس التنفيذي للعمليات الدولية في شركة "تي سي أل شونغهوان رنيوابل إنرجي تكنولوجي" المعروفة اختصاراً بـ"TSL"، والتي تبني مصنعاً لرقائق الطاقة الشمسية بقدرة 20 غيغاواط في المملكة.
بدوره، يرى يو فنغ، نائب الرئيس العالمي لشركة "إنفيجن" إحدى أكبر الشركات المصنعة لطاقة الرياح في الصين أن "السعودية تمتلك مجموعة من أغنى مصادر الطاقة المتجددة. وستشكل طاقات الرياح والشمس والهيدروجين الأخضر قطاعاً أساسياً مهماً جداً لتوليد الطاقة في المملكة، كما ستوفر طاقة جديدة للسوق العالمية".