في ظل انتشار اللقاحات في الدول الغنية بسرعة متزايدة وتراجع قيود الإغلاق مع أشعة شمس الربيع، قد يبدو الاعتقاد بانتهاء الكابوس الطويل لـ"كوفيد-19"، أمراً مغرياً.
ففي المملكة المتحدة، تلقى 58% من السكان البالغين جرعة واحدة على الأقل من اللقاح. وفي الولايات المتحدة، ضاعف الرئيس جو بايدن هدفه الأصلي المتمثل بإعطاء 100 مليون جرعة في أول 100 يوم له في منصبه، ليرفع العدد الإجمالي المستهدف إلى 200 مليون بحلول نهاية أبريل الحالي. كما حظي البحث بكلمات "ما بعد كوفيد" باهتمام أكبر من "أعراض كوفيد" على منصة "غوغل" خلال الشهر الماضي. وهو ما يشير إلى أن العالم بات يفكر بشكل الحياة المقبل عندما تعود الأمور إلى طبيعتها.
ويعد الاعتقاد بانتهاء الأزمة اعتقادا خاطئا إلى حد كبير. وبينما نتحدث بشكل متزايد عن فيروس كورونا بصيغة الماضي، فإن الأسوأ لا يزال بانتظارنا. فقد ازدادت الإصابات في جميع أنحاء العالم بنسبة 47% خلال مارس الماضي، وذلك بعد ارتفاع من فترة هدوء شهدها العالم في أواخر فبراير. ومع تسجيل نحو 600 ألف حالة جديدة يومياً، فإن معدل الإصابات اليوم أعلى مما كان عليه في معظم العام الماضي.
ومن المؤشرات الأكثر سوءا حول الموجات الجديدة من انتشار الفيروس، أنه في حين تعاظمت الموجات السابقة بشكل أساسي في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، إلا أن العديد من المناطق التي يرتفع فيها حالياً معدل الإصابات بفيروس "كوفيد" بسرعة كبيرة تقع في أمريكا الجنوبية وجنوب آسيا، والشرق الأوسط، والاقتصادات الناشئة الأخرى. وتفتقر تلك المناطق غالباً إلى البنية التحتية الممتازة للقطاع الصحي، مقارنة بدول شمال الكرة الأرضية، وبالتالي هي دول أقل تأهيلاً للتعامل مع الفيروس. وهذا الحال يزداد تعقيداً مع السلالات الجديدة من الفيروس، مثل تلك التي تم اكتشافها في المملكة المتحدة أو مدينة ماناوس البرازيلية، والتي تسبب المزيد من المشاكل للشباب.
وخلال معظم العام الماضي، بدا فيروس كورونا كما وصفه المؤرخ النمساوي، والتر شيديل، بـ"المظهر الأعظم للمساواة بين البشر". حيث يعتبر الوباء واحداً من العديد من الكوارث مثل الحرب والوباء والثورة وفشل الدولة، التي تمكنت للمفارقة من التغلب على أسوأ تجاوزات عدم المساواة مرة واحدة في كل جيل أو نحو ذلك.
وقد حدثت أكثر من 46% من الوفيات في ثلاث من المناطق الغنية في العالم فقط، وهي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، وذلك مع وجود أعداد ضخمة من كبار السن بين سكان هذه الدول بشكل غير اعتيادي.
وبينما، قد يتغير ذلك الآن. فمنذ بداية مارس، تراجعت الولايات المتحدة، التي غالباً ما احتلت الصدارة التي لا تحسد عليها في عدد الإصابات اليومية القياسية منذ بداية الوباء، لتتخلف عن البرازيل للمرة الأولى، وعلى الأرجح أنها ستظل محافظة على هذا الانخفاض في المستقبل. وبالمثل، أصبح معدل الإصابات في المملكة المتحدة، أقل من بنغلاديش والفلبين للمرة الأولى منذ الهدوء الموسمي في أوروبا الصيف الماضي.
واستناداً إلى مؤشر تتبع اللقاح الخاص بـ"بلومبرغ"، فإن العديد من الدول التي انتشر فيها "كوفيد" بشكل أسرع مؤخراً هي تلك التي لن تؤدي فيها المعدلات الحالية لنشر اللقاح إلى تطوير مناعة القطيع لسنوات أو حتى لعقود.
إما نخرج سوياً أو نغرق سوياً
وسيؤدي هذا التفاوت في توزيع اللقاح، إلى التركيز بشكل أكبر على قضايا عدم المساواة والعدالة حول توصيل اللقاح والتي بقيت حتى الآن غائبة عن الأضواء نسبياً في النقاش العام. وعلى الرغم من تبرع الولايات المتحدة بمبلغ 4 مليارات دولار في يناير، لا يزال "كوفاكس"، وهو البرنامج الذي ترعاه الأمم المتحدة لتوصيل لقاحات فيروس كورونا إلى الدول منخفضة الدخل، ينقصه تمويل بملياري دولار تقريباً من الأموال التي يحتاجها لتوزيع 1.8 مليار جرعة في الدول المستهدفة هذا العام.
وبالإضافة إلى ذلك، تواصل دول، بما فيها المملكة المتحدة والولايات المتحدة وسويسرا وأعضاء الاتحاد الأوروبي، في حظر تعليق قوانين الملكية الفكرية التي من شأنها أن تسمح لمصنعي الأدوية العامة في الهند وجنوب أفريقيا بإنتاج جرعات لقاح بتكاليف منخفضة للغاية، مما يضمن أن الإنتاج الحالي سيكون موجها وحصرياً للعالم المتقدم.
وتقول ستيفاني توب، أستاذة الصحة العامة في "جامعة جيمس كوك" في تاونسفيل، أستراليا: "الحلول في هذه المرحلة سياسية ولوجستية". وتابعت توب، إن الدول التي تحمي سكانها فقط دون أخذ قوانين حماية الملكية الفكرية بعين الاعتبار، وتوفير التمويل للتطعيم في أماكن أخرى من العالم سوف تجد أنها تواجه اقتصاداً مزيفاً.
وأضافت: "عندما نفكر في الصحة العامة العالمية، فهذه حجة تدحض نفسها، لأن ما يحدث هو أن المرض ينتصر. وإذا كان المرض ينتشر في مكان آخر من هذا العالم المترابط بالعولمة بشكل لا يصدق، فإن المرض سيعود مرة أخرى".
ولقد شاهدنا هذا السيناريو من قبل، حيث تعد اللامبالاة العامة تجاه المشكلات الطبية بمجرد توقفها عن إزعاج الدول الغنية، قضية راسخة لدرجة أن هناك فرعاً كاملاً من الطب الحديث مخصصاً لدراستها، وهو "أمراض المناطق المدارية المهملة".
ومن شبه المؤكد أن حالات العدوى مثل السل والكوليرا، التي غالباً ما تعتبرها الدول الغنية على أنها آثار من القرن التاسع عشر يتم التطرق لها فقط في إطار الأوبرا والروايات، هي أكثر انتشاراً اليوم مما كانت عليه في أي وقت من تاريخ البشرية. وبينما تعيد شبكات التلفزيون الأمريكية عرض مسرحية "رينت" الموسيقية الحنونة التي تدور فكرتها الرئيسية حول الإيدز، يعيش ثلثا المصابين بفيروس نقص المناعة البشرية في دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
أما في حالة "كوفيد"، فإن هذا ليس مجرد فشل أخلاقي، ولكنه قصور حتى في تقدير أكثر تدابير المصلحة الشخصية قسوة. فإذا أردنا إعادة فتح الحدود وتقليل المخاطر التي قد تنشأ عن السلالات الجديدة من الفيروس للتغلب على دفاعات اللقاح التي عملنا بجد لإقامتها خلال العام الماضي، ويحتاج العالم الغني إلى البدء في معاملة العدوى في الاقتصادات الناشئة كأزمة طارئة على قدم المساواة مع ما يحدث في فنائه الخلفي. ففي حربنا ضد فيروس كورونا، سوف نقف معاً أو ننهار معاً.