في الوقت الذي بات فيه الأشخاص يؤدّون مهامّهم الوظيفية من المساحة ذاتها التي تحتضن حياتهم اليومية، وأحيانًا كثيرة حياة مَن يشاركهم السكن أيضًا، أصبح عديد منّا يشعر بأنه محاصَر داخل مطحنة لا تنتهي، واختفت الفواصل بين العمل والمنزل، وهو ما سبَّب في بعض الحالات كثيرًا من الصعوبات النفسية والجسدية.
وفي ما يلي بعض الاستراتيجيات لتحديد وتجنُّب ما يسمى الإنهاك الوظيفي (Burnout):
ثلاثة أعراض أساسية للإنهاك الوظيفي
إنّ الإنهاك الوظيفي (Burnout) هو عبارة عن مجموعة ثلاثية من العلامات التي تنجم عن ضغط العمل الحادّ، وفي حالات معيَّنة قد تصل آثاره السلبية إلى خسارة الشخص لوظيفته وأصدقائه واهتماماته. وتظهر أعراض الإنهاك الوظيفي عادةً بهذا الترتيب:
- الإرهاق ونفاد الطاقة، وهو شعور يجعلك تعاني حتى لإتمام المهامّ الأساسيّة.
- اللامبالاة والابتعاد ذهنيًّا عن عملك، والتشكيك في أهميته وجدواه.
- عدم الفاعلية وفقدان الإنتاجية وشعور الرضا عن الذات النابع من الإنجاز.
نوع "أ" من الأشخاص هو الأكثر عرضة للإنهاك الوظيفي
عادةً ما يصيب الإنهاك الوظيفي (Burnout) الأشخاص من النوع "أ"، وهُم الذين يتداخل لديهم مفهوم هُوِيّاتهم كأشخاص مع العمل الذي يؤدونه. يقول تورستن فويت، الباحث في هذا الموضوع وعالِم الاجتماع في جامعة "RWTH Aachen" الألمانية: "هؤلاء الأشخاص يحبّون أن تبقى الأمور تحت السيطرة، دوافعهم تنبع من جوهرهم، وهُم في الغالب يجيدون ما يقومون به ويفخرون بما يفعلونه".
يُطلَق على الإنهاك الوظيفي أحيانًا "محنة الرخاء"، إذ إنه يُصيب غالبًا موظفي الطبقة المتوسطة والعليا الذين يمتلكون حُرّية ورفاهية التوقف عن العمل. يضيف فويت: "في خضمّ الأزمات عادةً ما يقوم الأشخاص بكلّ ما يلزم لمواجهتها، وعقب ذلك عندما تنتهي هذه المرحلة، ومن مساحة يكونون فيها أكثر راحة، يبدؤون بالتفكير ليقولوا لأنفسهم: هذا جنون، لا يمكنني أن أستمرّ بالقيام بذلك بعد الآن". الهدف هو المحافظة على الصحّة الذهنية.
العمل في ظِلّ كورونا وغياب عبارات المدح والشكر
ينتج الإنهاك الوظيفي (Burnout) عادةً جرّاء الأعمال التي تتضمن طبيعتها كثيرًا من المهامّ والاحتياجات الثقيلة والصعبة التي تتيح مساحة تحكُّم ومرونة قليلة للموظف. وبطبيعة الحال فإنّ العمل لساعات طويلة وفترات غير محددة الوقت من المنزل يتسبّب بذلك، كما تُظهِر الأبحاث أنّ غياب ردود الفعل الإيجابية التي يتلقاها الموظف يسهم أيضًا في حدوث الإنهاك الوظيفي، خصوصًا مع إبعاد الموظفين عن مكاتبهم وغياب عبارات المدح والشكر العابر التي كانت أمرًا مفروغًا منه في ما سبق.
من الأسباب أيضًا محاولة تكرار ومحاكاة جودة وكمّية العمل الذي كان يُنتج في المكتب. يقول راجفيندر سامرا، وهو محاضر ومتخصص في علاج أعراض "Burnout" في الجامعة المفتوحة في لندن: "إذا كنت تعتقد أنه باستطاعتك الوصول إلى تحقيق الأعمال بالكيفية والجودة ذاتها من بيئة العمل المنزلية، فإنه لا مجال إلّا أن تصاب بالتوتر بشكل يوميّ، إلى أن تتقبل عدم إمكانية تحقيق ذلك".
خطوات مواجهة الإنهاك الوظيفي
إعادة الهيكلة: ليست بالأمر السهل، ولكن حاول ألا تجعل العمل المركز الأساسي الذي تدور حوله حياتك. إذا كان ذلك ممكنًا، أعِد تنظيم جدولك اليومي بحيث يدور بشكل أكبر حولك وحول الأنشطة والاهتمامات التي تُعنيك وتستمتع بها.
التعافي: أوجِد مساحة لذهنك وجسدك للابتعاد عن ضغوط العمل والتعافي منها. ضع في اعتبارك على سبيل المثال أن يتضمن يومك:
1- استراحة ذهنية: خصص من 5 إلى 20 دقيقة لأيّ عمل "غير مفروض" بعيدًا عن الوظيفة أو المهامّ المنزلية أو الاعتناء بالآخرين. قد تكون الاستراحة مثلًا في التمارين أو التأمّل أو القراءة أو الطهي (ما دامت ليست واجبة ومطلوبة منك).
2- مساحة مُنعشِة: اقضِ 30 دقيقة أو أكثر في ممارسة أيّ نشاط يساعد على الاسترخاء، هذه هي النسخة الأطوَل من الاستراحة الذهنية. تأكّد من تنفيذ إحداهما قبل نهاية اليوم، وبعد انتهائك من ساعات العمل بشكل تامّ. ويضيف راجفيندر سامرا: "إن الاسترخاء في المساء يساعد على تحسين أدائك في اليوم التالي".
3- استعِدِ السيطرة: ضع قائمة بالأمور التي تشكّل مصدرًا للقلق لك، والتي لا تمتلك سُلطة أو قُدرة على تغييرها أو التحكُّم بها. حاول أن تفكّر بحلول لتعديلها، أو ناقش ذلك مع رئيسك في العمل. على سبيل المثال، إذا كنت تشعر بالتوتر بسبب مقاطعة أطفالك للاجتماعات مع مديرك، فحاول أن تتصالح مع هذا الوضع الطبيعي الجديد، أو استطلع ما إذا كان رئيسك في العمل يمانع الأمر.
علامة للانفصال عن العمل
يضيف سامرا: "إنك تحتاج إلى دلالات أو علامات تذكّرك بالانفصال عن العمل، وهي أنشطة تساعدك نفسيًّا للانتقال من وضع العمل إلى الوضع المنزلي. ومن الأمثلة على ذلك، التحدث مع الأصدقاء، أو التمرين، أو القراءة، إلخ. لا تثرثر كثيرًا عن العمل أو تفرط في مشاهدة برنامج أو مسلسل تلفزيونيّ يتعلّق بمجال عملك. أيضًا لا تعتمد على المشروبات الروحية من أجل أن تنتقل من العمل إلى الحياة المنزلية".
ردِّد التأكيدات اللفظية
يقول كل من فويت وسامرا إنّ الإنهاك الوظيفي (Burnout) يحبّ المهووسين بالكمال، فإذا كنت كذلك فحاول أن تردّد بينك وبين نفسك مثل هذه التأكيدات لنفسك عندما تخرج المهامّ عن سيطرتك أو تتعقد:
- الآن حانت اللحظة المناسبة لإنجاز المهمّة، لا اللحظة المناسبة لأكون مثاليًّا.
- هذا الموقف البالغ الصعوبة تمتدّ جذوره إلى عوامل لا أستطيع السيطرة عليها.
اعرف ذاتك
تعرَّف العمل الذي تكرهه: سامرا يقول إنّ تحديد هذه الأعمال يساعدك على إمكانية تفويض هذه المهامّ إلى شخص آخر أو مشاركتها معه أو الحصول على الدعم أو إعادة جدولتها.
تعرَّف العمل الذي تحبُّه: ما المهامّ التي تُعنيك وتستمع بها وتشعر بأنها مُجدية أكثر من غيرها؟ قُم بمزيد من ذلك.
خَطِّط وشكِّل طبيعة عملك: خَطِّط على المدى الطويل لتحقيق حياة مهنية تزيد فيها المهامّ التي تحبّها وتستمع بتأديتها. على سبيل المثال، أخبر رؤساءك وزملاءك في العمل أنك تريد أن تقوم بدور الموجِّه للموظفين الجُدد، إذا كان هذا يُشعِرك بالجدوى والسعادة.