حين افتتح مبنى غايا في جامعة نانيانغ للتقنية في سنغافورة أبوابه العام الماضي، لقي ترحيباً واسعاً بوصفه خطوة ثورية نحو مستقبل أرفق بالبيئة. فقد شُيّد المبنى الضخم، الذي يمتد على مساحة تفوق 4 آلاف متر مربع من عوارض وألواح خشبية استُحصل عليها بطرق مستدامة. لكن سرعان ما واجه الطلاب وأعضاء الهيئة التعليمية مشكلة لم تكن في الحسبان، فقد بدأ العفن يغزو الخشب، ووصفت الطالبة في السنة الرابعة غريس نغ الأمر بأنه "مقزز".
تسلط هذه المشكلة الضوء على التحديات التي تهدد المباني الخشبية حول العالم. فيما تدرس شركات من "والمارت" إلى "مايكروسوفت" إمكانية استخدام الخشب كمادة بناء مستدامة، يسبب تعفّن الخشب في المباني مشاكل صحية وأضراراً ومعارك قضائية من لندن إلى ملبورن.
خشب أكثر عرضة للتعفن
يُسهم إنتاج مواد مثل الأسمنت والحديد في حوالي 14% من الانبعاثات العالمية للغازات المسببة للاحتباس الحراري. على نقيض ذلك، تمتص الأشجار ثاني أكسيد الكربون خلال نموّها، ويبقى هذا الكربون محتجزاً داخلها حين يُستخدم خشبها في أعمال البناء. قالت الشركة التي وردت الخشب المستخدم في مبنى غايا الذي بلغت تكلفته 94 مليون دولار، إن بنيته الخشبية تحتجز أكثر من 5 آلاف طن من ثاني أكسيد الكربون، بعد حسم ما نتج عن نقله.
لكن ما يبدو مثالياً على الورق، واجه تحديات على أرض الواقع في سنغافورة الاستوائية، حيث يهطل المطر طيلة 180 يوماً في السنة. فقد شُيد مبنى غايا بالاعتماد أساساً على خشب التنوب النمساوي، الذي حُوّل إلى خشب صناعي كثيف، وهو عبارة عن طبقات رقيقة جداً تُلصق معاً لتشكيل ألواح وعوارض يمكن استخدامها لتشكيل أعمدة وجدران وأسقف وغيرها من العناصر المعمارية.
تكمن المشكلة في ضعف مقاومة خشب التنوب للعفن مقارنة بكثير من أنواع الخشب الأخرى. وشرح أندرو وونغ من جمعية دولية متخصصة بالخشب هي (International Wood Culture Society) أن التنوب غير المعالج يصبح عرضة للتعفن في بيئة كثيراً ما ترتفع فيها نسبة الرطوبة إلى 80%. قال: "ترتبط المسألة أساساً بالمناخ. نحن في منطقة استوائية، وهذا يتطلب اهتماماً خاصاً".
ندرة الخشب المحلي المناسب
لكن هذه التحديات ليست حكراً على المنطقة الاستوائية. فالمناطق الصحراوية تشهد تفاوتاً كبيراً في درجات الحرارة، ما يؤدي إلى تمدد الخشب وانكماشه بإفراط فيتشقق. أما في المناخات شديدة البرودة، فقد تتسرب المياه إلى الشقوق وتتجمد، فينفلق الخشب. شرح إريك لوريو، الأستاذ المساعد المتخصص في الهندسة المعمارية بجامعة سنغافورة الوطنية أن على المهندسين أخذ كافة هذه العوامل في عين الاعتبار عند تصميم المباني الخشبية، مضيفاً: "لكل مناخ قيوده وتحدياته".
استُخدم الخشب الصناعي المكثف في أكثر من 20 مشروعاً خلال العقد الماضي في سنغافورة، وبلغ عدد الشركات التي تستخدمه في مشاريع تباشرها أو أنجزتها أكثر من 30 شركة. لكن لم يقل المسؤولون المحليون إن كانت هنالك مبانٍ أخرى تعاني التعفن.
تشتهر سنغافورة بمحالها التجارية الملونة المكونة من طابقين أو ثلاثة ذات الزخرفات الجصية التي تعود للحقبة الاستعمارية، وقد شُيدت بواسطة عوارض من الخشب القاسي المحلي الذي يتميز بمقاومته الطبيعية للتعفن. إلا أن هذا النوع من الخشب أصبح نادراً وتفوق تكلفته بكثير ما كانت عليه في أوائل القرن العشرين، عندما أقيمت معظم تلك المباني.
لقد حلّت مزارع نخيل الزيت مكان كثير من غابات جنوب شرق آسيا، ما تسبب في شح في خشب شينغال الذي كان يُستخدم تقليدياً في سنغافورة. كما أن نموّ هذه الأشجار لتصبح صالحة لحصد أخشابها يستغرق قرناً، بينما لا يحتاج خشب التنوب إلى أكثر من ثلث هذه المدة. قال لو كي سون، المهندس المعماري الرئيسي لمبنى غيا في شركة "ار اس بي" (RSP) المعمارية إنه نادراً ما يُستخدم الخشب القاسي في مشاريع البناء الكبرى لأنه "مكلف جداً". كما أن توفير هذا النوع من الخشب بكميات كبيرة "يحتاج إلى غابة شاسعة".
خطر على الصحة
على الرغم من إمكانية التخفيف من هذه المشاكل باستخدام طلاء واقٍ أسمك، فقد رُفض هذا الخيار بسبب تكلفته والرغبة في إبراز تموجات الخشب الطبيعي. كما أمكن استخدام خشب لاركس، وهو نوع من الأخشاب اللينة الذي يتمتع بمقاومة أكبر للعفن، لكنه كان سيزيد التكلفة. هكذا وقع الخيار على خشب التنوب، فيما غُلفت الأعمدة الأكثر تعرضاً للشمس والمطر بخشب لاركس.
لا جدل حول القيمة الجمالية لمبنى غايا الذي يحتضن كلية الأعمال بالجامعة. إذ تمتد واجهته على طول 700 متر، وتتسم بتصميم ينحني بلطف، فيما يبدو ديكوره الداخلي أشبه بنزل في منتج تزلج جبلي ضخم تغمره الإضاءة الطبيعية، ويزدان بحدائق خلابة في ساحاته الداخلية. أما الطابق الأرضي فقد صُمم بأسلوب مفتوح، بلا أبواب عند مداخله حتى يسري النسيم عبره.
إلا أن الحديث مع أكثر من عشرة طلاب وموظفين في المبنى كشف عن تقززهم وقلقهم حيال مشكلة التعفن، فيما اكتفى بعضهم بإطلاق النكات عن الموضوع.
بين أحد الموظفين أنه يتجنب الذهاب إلى مكتبه لأنه يخشى أن يفاقم التعفن ما يعانيه من مشاكل الجهاز التنفسي. وقالت الطالبة لايفي شان: "لو كان التعفن مجرد أمر قبيح، فهذه ليست مشكلة. لكن بما أنه قد يسبب مشاكل صحية، يجب على الجامعة التخلص منه".
معالجات غير بيئية
ما إن يدخل الزائر المبنى حتى تستقبله نفحات عطرة من خشب التنوب النمساوي الذي يشكل الجزء الأكبر من بنية المكان. لكن ذلك لا يعني شيئاً لجوي فنغ، مفتشة العفن من شركة "إير أند أودور مانجمنت" (Air & Odor Management). فقد لفتتها بقع بيضاء تبدو أشبه بالغبار على عمود خشبي، فمسحت عينة وغمرتها في سائل شفاف تحول إلى اللون الأرجواني، ما يدل على وجود العفن.
وجدت لاحقاً مزيداً من العفن على فتحات التهوية، ما يهدد بانتشاره في المبنى. وقالت "يجب معالجة هذه الغرفة على الفور".
من جانبها، تقول الجامعة ومعها المهندس المعماري لو إن التعفن أمر شائع في سنغافورة المعروفة بطقسها الرطب، واستبعدوا أن يؤثر على سلامة المبنى. مع ذلك، وضعت الجامعة خطط صيانة "شاملة" لمبنى غايا، تشمل إعادة طلاء الخشب بمادة كتيمة، وإدخال تعديلات على نظام التكييف، كما طلبت من الموظفين إبقاء النوافذ مغلقة لتقليل تكثف الماء من الجو، فيما يقترح الخبراء معالجة الأسطح بالمبيض وتغطية الخشب بمادة أسمك وتركيب مزيلات للرطوبة وتشغيل التكييف على مدار الساعة، رغم أن ذلك قد يؤثر على الاستدامة البيئية للمبنى.
قال آرت شماون، المحلل لدى شركة "فوريست إكونوميك أدفايزرز" ( Forest Economic Advisors) "يمكن استخدام الخشب الصناعي المكثف في أي مكان على الأرض إذا ما صُمّم ليتناسب مع المناخ المحلي". لكنه استدرك: "المشكلة في زيادة التكلفة. هل سيبقى منافساً للصلب والخرسانة في هذه الظروف؟ إن هذه مسألة قائمة بحد ذاتها".